لا اذكر متى بدأ هذا الامر.. ولكن منذ طفولتي وانا لدي هاجس يقول: سأعيش حتى ابلغ التاسعة والتسعين!!
كنتُ اسمع عن وفاة فلان عن عمر يناهز الستين.. او موت علانة وهي في اوائل العشرين.. الا ان ذاك الهاجس ذاته يمر امامي وبهمس على كتفي مطمئنا: ستعيشين حتى تبلغي التاسعة والتسعين!
ولا ادري لم يصر ذاك الهاجس على رقم ٩ المزودج.. ولا يتممه الى المائة
ربما هي تأثير الاعلانات والدعايات حولنا التي تصر على حشر الرقم ٩ في جميع اسعار السلع.. لتعطي ايحاء بان الرقم اقل مما يوحي بكثير
بمعنى.. ان الرقم مائة من عمري سيجعلني عجوزا في الغابرين . ولكن الرقم تسعة وتسعون يعني انني سأموت وانا بعيد الشر لم اصبح بعد عجوزا في الغابرين
سبحان الله.. حتى هواجسنا تحمل شيئا من الذكاء
المهم..
ان وجود ذلك الهاجس بجواري جعلني دائما (دون وعي مني) اؤجل اعمالي.. وواجباتي.. والتزاماتي.. لاني دائما اقول لنفسي.. لا يزال امامي من العمر الكثييييير..
بكره.. بعده.. بعد اسبوع.. الشهر القادم.. لما يدخل الاولاد المدرسة.. عندما انتهي من الدراسة.. بعد ان تتزوج بناتي.. بعد ان انزل وزني.. الخ الخ الخ..
الحقيقة.. انني كنتُ اؤجل حياتي.. واجعلها تتفلت مني..
يوما بعد يوم..
وعاما بعد عام..
حتى امضيتُ ١٨ يوما مع والدي في آخر ايام حياته بالمستشفى……
لتنقلب هواجسي كلها في هاجس واحد هو:
رب ارجعني اعمل صالحا غير الذي كنتُ أعمل!
كان الشيخ عمر عبد الكافي يردد في اشرطة دروسه عن الدار الاخرة بيت الشعر:
مشيناها خطى كُتبت علينا.. ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منيته بأرض.. فليس يموت في أرض سواها
وفي المستشفى رأيتُ كيف هي الخطى محسوبة.. والانفاس مؤقتة.. والرزق لا يقدم ولا يؤخر!
خلال ايام انتهى رزق والدي الحبيب من المشي خارج المستشفى.. فلزم كرسيه يطل على الدنيا من النافذة..
ثم انتهى رزقه من المشي فصار طريح الفراش..
ثم انتهى رزقه من الطعام.. ومن الماء.. ومن الكلام..
ثم انتهى رزقه من اليقظة.. فدخل في غيبوبة..
ثم انتهى رزقه من الانفاس.. فلفظ اخر انفاسه امامي!
كان رزقه من ابسط متطلبات الحياة يُسحب منه الواحد تلو الاخر..
شاء ام ابى..
مكرها او طائعا..
رحمة الله عليك يا والدي
ترى ما كانت الهواجس التي تدور في نفسه عندما كانت عيناه تشخص الينا.. وقد توقف رزقه عن الكلام؟؟
هل انا بعيدة من ان اقع في نفس مرضه؟
هل انتِ بعيدة من ان تعيشي نفس السيناريو؟؟؟؟
فجأة كان والدي يعاني من الام بالكتف.. فجأة آلام في البطن.. فحوصات.. تشخيص السرطان.. دخول المستشفى.. تقدير الحالة.. واخيرا وجد نفسه في عنبر Palliative Care .. او عنبر العناية التلطيفية.. لمن يعاني السرطان في مراحله الاخيرة.. ولا يوجد اي علاج له!
ما هو السبب؟ لماذا؟ كيف؟؟ متى؟؟؟
لا احد يدري..
وهل من المهم ان ندري؟؟؟
هل من المهم ان تعرفي لم يأتيكِ ملك الموت؟ او متى يأتيكِ ملك الموت؟؟ او حتى كيف سيأتيكِ ملك الموت؟؟
مشيناها خطى كُتبت علينا.. ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منيته بأرض.. فليس يموت في أرض سواها
جيراننا في العنبر.. لكل واحد منهم قصة مختلفة.. لكنهم اجتمعوا على امر واحد…
ان رزقهم في الحياة بدأ ينفد..
وان ساعتهم الرملية تذر اخر حبات الرمل فيها..
هل تخيلتِ حياتك ساعة رملية تذرين حباتها حبة حبة..؟
بين ضحكة.. ودمعة.. وخطوة.. وعمل.. وكفاح.. وحسنات.. وسيئات.. وامال.. والام…..
ظللتُ طول ما مضى من عمري “أظن” اني قد اعمر حتى ابلغ التاسعة والتسعين..
ليس السؤال هو ما ادراكِ؟.. او اش عرفك بالغيب.. واش ضمنك عمرك.. او بلاش طول الامل.. او دعك من هذه الترهات….
السؤال هو:
كيف ستعيشين هذه التسعة والتسعين؟؟
كيف؟؟؟
اذكر قصة خيالية قرأتها منذ زمن بعيد.. حينما كان احدهم ماشيا في حال سبيله.. فهبطت عليه صحيفة من المستقبل.. ليقرأ فيها نعيه بعد ٣٥ عاما مقبلة.. فيقفز فرحا بعد ان علم انه لن يموت قبل ٣٥ عاما.. وينطلق ليعبّ من ملذات الحياة ويقود سيارته بتهور مجنون.. ثم.. حادث اليم.. يرقد على اثره طريح الفراش تحت الخراطيم والانابيب.. مصابا بشلل رباعي.. لتبكي كل ذرة في كيانه من هول الصدمة.. لانه يعلم انه لا يزال امامه ٣٥ عاما اخرى ليعيش مشلولا على هذه الحال!
سيعيش ٣٥ عاما مشلولا وهو يعلم بذلك!!
والكثيرااااات منا.. نعيش او سنعيش عشرات الاعوام المقبلة.. مشلولات في اعمال تافهة.. وللاسف.. نحن غافلات عن ذلك!!
تسعة وتسعون عاما..
قد تكون مليئة بالطاعات والصالحات.. وقد تتفلت منكِ عاما بعد عام.. وانتِ تقولين: بكره.. بكره.. بكره!
وهذا البكره سيأتي.. لتجدين نفسك تستنفدين رصيدك.. من الشرب والطعام والحركة والكلام..
ثم..
تجدين وجهك يقابل تربة صماء.. عدة امتار تحت الارض.. والناس يهيلون على رأسك التراب..
لتتردد صرخاتك التي لا يسمعها احد:
رب ارجعون.. رب ارجعون.. لا يزال لدي الكثير لاقوم به.. عندي الكثير من الصلوات التي تركتها.. الكثير من الطاعات التي اهملتها.. صلات الرحم التي تغافلت عنها.. علمي.. صحتي.. مالي.. اولادي.. لا يزال الكثير لاقوم به..
(( رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ))
رب ارجع لي الساعات الطوال التي قضيتها امام التلفاز.. رب ارجع لي ساعات القرقرة التافهة مع الصديقات والصويحبات.. رب ارجع لي ساعات فرفرة النت.. التي قضيتها فاغرة فمي كالبلهاء.. انتقل من صفحة الى شات الى مقطع فيديو الى منتدى الى الى …..
عندما أقرأ تعليق احداهن في استروجينات.. كيف ان التلفاز في بيتها يبقى مفتوحا ما لا يقل عن ١٨ – ٢٤ ساعة في اليوم.. ويتناوب عليه اهل البيت.. من وقت استيقاظهم وحتى النوم..
اتساءل: ما اشبه بيتها ببيوت الكثيرات منا!!!!!!!
هل نحتاج حقا الى التسعة والتسعين ؟؟؟
سعد بن معاذ.. دخل الاسلام وعمره ٣٠ ومات وعمره ٣٦.. واهتز لموته عرش الرحمن في ست سنوات!
فقط.. ست سنوات!!!
فهل أحتاج الى تسعة وتسعين عاما؟؟
(( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ))
عاهديه.. بأي شيء.. فقط عاهديه.. واصدقي عهدك معه..
فلا تدرين من أي باب تسعك به رحمة ربك..
ربما باب الصدقة.. باب الذكر.. باب قضاء حوائج الاخرين.. باب التشجيع وبث روح التفاؤل.. باب الامومة.. باب بر الوالدين.. باب الزوج..
عندما كنا حول ابي.. منا من يقرأ القرآن.. ومنا من يدعو على رأسه.. ومنا من يتابع معاملات المستشفى.. الخ الخ.. استقللت عدد اولادي.. وودت لو اني لي دستة من الابناء.. ليكونوا حولي عندما اكون احوج ما احتاج اليهم في مثل هذه الساعة!
وظللت احمل هم الذرية.. اريد ولدا صالحا يدعو لي.. ما ادراني ان تكون ذريتي صالحة.. ما ادراني ان يعمر اولادي بعدي ليدعوا لي.. ما ادراني ان…
ثم قطعت وساوسي قصة ذكرتها احدى الاخوات في مجلس العزاء.. وكأنها تخاطبني.. فكانت كالدش البارد على جسدي..
قصة الرجل الذي كان يكرهه اهل قريته.. ومات وليس له الا ولد واحد.. ولم يأتِ احد ليمشي في جنازته… فجره ابنه الى الصحراء ليدفنه.. فرآه اعرابي يرعى الغنم.. فاقبل عليه.. وسأله اين الناس؟ لم تدفن اباك وحدك؟ فما شاء الابن ان يفضح اباه.. وظل يردد: لا حول ولا قوة الا بالله.
فهم الاعرابي.. ومد يده يساعد الابن ليدفن اباه.. ثم رفع يده الى السماء وظل يدعو في سره.. ثم ترك الابن وغادر الى غنمه..
وليلتها.. حلم الابن بأبيه.. ورآه ضاحكا مستبشرا في الفردوس الاعلى.. فتساءل من الدهشة: ما بلغك يا ابي هذه المنزلة؟ فقال: ببركة دعاء الاعرابي.
واصبح الابن يبحث عن الاعرابي في لهفة.. ومشط الصحراء كلها حتى وجده.. فامسك بتلابيبه يصيح: سألتك بالله ما دعوت لوالدي على قبره؟ فقد رأيته في الفردوس الاعلى..
هنا.. اجابه الاعرابي: يا ولدي.. لقد دعوت الله دعوة العبد الذليل.. وقلت له:
اللهم.. اني كريم.. اذا جاءني ضيف اكرمته.. وهذا العبد ضيفك.. وانت اكرم الاكرمين!!
ليست الذرية..
وليست الاموال..
وليست كثرة الاعمال الصالحة..
وليست التسعة والتسعين عاما..
انما هي صدق العهد مع الله.. من اي باب تشائين.. وبأي عمل تتقنين..
فيكون اكرم الاكرمين معك.. ويجعل لك خلف كل عمل اعرابي يدعو لك في سره
عاهديه.. ثم اصدقي معه.. وادخلي عليه الباب الان..
الان..
الان..
وعندها سيجعل لك في كل عام من حياتك.. تسعة وتسعون عاما منقووووووووووووووووول
حوريه في الدنيا @horyh_fy_aldnya
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
يووه تعبت
•
موضوع زي هذا ولا رد لوك كاتبه حش في زوجك انكبو عليك
الصفحة الأخيرة