انتصف ليل مدينة الصمت, مدينة العصور الكرتونية, مدينة الظل الأحمر انتصف ليلها فلا يكادُ يُسمع إلا تثاؤب الغربان وصرير الريح وهي تكنس الشوارع. تستطيع أن تلمس عرق الفقراء على الأرصفة، وتشم روائحهم الخانقة التي أصابت الريح بالغثيان، وهي تحملها كل مساء لتصطدم بالأسوار العالية الفاقدة لحاسة الشم. ليلة غير عادية اجتمع فيها الفقراء كالديدان تحت سابع أرض, وأعلن كبير الفقراء افتتاح أعمال مجلس الفقراء الأزليّ في دورته المليون وواحد. أيها الفقراء، لقد آن لنا أن نتخذ خطوات عملية لننتزع حقوقنا. أيها الفقراء، خيار السلام قادنا ـ كما ترون ـ للاستسلام .
يعلو صوت من بين الحشود: لم نعد نرى خياراً ولا حتى كُراثاً .
يضج المكان بالضحك. يُسكِت كبير الفقراء الجموع بحديدة ضرب بها على الأرض لتتطابق الشفاه سريعاً ويوجّه كلامه للمجلس الفقري المنتخب عبر صناديق القمامة.
إخواني أعضاء المجلس المنتخب، بصفتي كبير الفقراء أخوّلكم وفق المادة السابعة من دستور الفقراء إصدار القرار المناسب الذي يعيد لنا إنسانيتنا .
وقف من بين أعضاء المجلس المنتخب رجل كعود الأراك, معصوب الرأس, وجهه نصفه شعر ونصفه الآخر غير واضح المعالم.
أخي كبير الفقراء، إننا أعضاء مجلس الفقراء لا نستطيع إفادتكم في الموضوع حتى نسمع اقتراحات أعضاء مجلس شعب الفقراء فأحيل الكلمة لهم .
نهضت سيدة أسدلت عليها جلباباً أسود فلا تستطيع أن تحدّد موقع الرأس من الصدر :
أخي كبير الفقراء، أشكر أعضاء مجلس الفقراء للرجوع لرأي شعب الفقراء, قاطعها كبير الفقراء, ارفعي صوتكِ يا أختي . أعادت العبارة بعد أن رفعت صوتها، وأضافت: نحن الشعب والشعب نحن؛ لذا نرفع للمجلس ما يلي:
نقترح إما القيام بعمليات انتحاريّة لإجبار مجلس الأغنياء على اقتسام السلطة أو القيام بمظاهرات سلميّة ندعو فيها مجلس الأغنياء للحوار تمهيداً لرفع الظلم أو الهجرة الجماعيّة إلى القبور .
ضجّت الحشود وتعالت الصيحات, الرأي الأول بل الثاني, نرفض أن نموت, سئمنا الذل والمهانة. كرّر كبير الفقراء الطرق بحديدته على الأرض ليخيط الأفواه .
إخواني الفقراء، الرأي الأول والأخير لأعضاء مجلس الفقراء الأزلي, أدعو المجلس لعقد جلسة مغلقة للتباحث ومن ثم إعلان القرار .
اعتادت الوجوه المحفورة بغبار الظلم على الابتسامة لتخفي خلفها إهانة المكرمات المزعومة فخرج صبية يؤدون مسرحية فكاهية تحكي واقعهم المرير، ثم أنشد شاعرهم قصيدة يعارض فيها شاعر الأغنياء. انفضّ مجلس الفقراء المنتخب وعاد للحشود التي تترقب الإعلان عن القرار .
نحن مجلس الفقراء الأزلي نعلن لشعبنا الفقير ما يلي: بعد مليون اجتماع كان الخوف والتردّد الهاجس الأوحد في عدم الإعلان عن زمن محدد للتحرك من أجل التغيير، وآن للخوف أن يُقتل داخل كل مظلوم، وآن لنا أن نعلن في اجتماعنا المليون وواحد، وبالإجماع قبولنا بالخيار الثاني أساساً للتغيير في المرحلة المقبلة, والقرار ملزم للجميع, لا رجعة فيه ويُطبّق من وقـت صدوره .
كبير الفقراء: إذاً إلى الشوارع .
تراصت الصفوف وخرج الفقراء من أعماق الأرض كالحمم يهتفون بالديمقراطية وحقوقهم الضائعة. نقطة النهاية كانت منزل كبير الأغنياء .
أُعلنت حالة الاستنفار ودُعي أعضاء مجلس الأغنياء لاجتماع طارئ اجتمعوا بقمصان النوم، وأوعز كبيرهم للغربان أن يحكموا الخناق عليهم حتى لا ينسل منهم أحد .
كبيرهم في سكرة السلطة: ماذا يظن هؤلاء أنفسهم حتى يطالبوا بالديمقراطية وحق الحياة ؟ لقد قرّرت أن أزجّ بهم في السجون ليموتوا فيه فلا تتعفن المدينة .
خرجت بضع كلمات من وجه متورّم: ومن سنحكم إن زُجّ بهم في السجون. حرّك غليونه الفاخر ثم أدناه من شفتيه المتورّدتين وشدّ بعمق: سنجلب شعوباً أخرى، وسنجعلهم فقراء حتى نظل نحكم .
منقول
دمعه وحزن @dmaah_ohzn
محررة ماسية
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
اشراقه نجد
•
بارك الله لك فعلا تصوير جميل
الصفحة الأخيرة