تطور المخ عن طريق الحواس

الأمومة والطفل

تطور المخ عن طريق الحواس

--------------------------------------------------------------------------------

من أولى التجارب التى أسهمت فى فهم أعمق لتطور المخ وعلاقته بالاستثارة البيئية عن طريق الحواس تلك التى أجراها "ويسل" و"هوبل" فى السبعينيّات.

تجربة "ويسل" و"هوبل")، أغلقت إحدى عيني مجموعة من القطط عند ولادتها ثم فتحت بعد أسبوعين مـن الولادة، ورغم أن العيون كانت، بعد فتحها، سليمة تماماً، من الناحية التشريحية، إلا أن القطط لم تتمكن من الرؤية بهذه العيون. وكان فى هذا دليل واضح على أن المخ يحتاج استثارة خارجية مناسبة، عن طريق الحواس كما أشرنا، لكى تتطور خلايا المخ وتشابكاتها، للقيام بوظائف معينة. وإن لم تتوافر هذه الاستثارة، فى فترات حرجة معينة، فإن الوظائف المعنية لا تتطور. وفـى الفترة الحرجة لتطور وظيفة الرؤية، لا تتعلم خلايا المخ، وتشابكاتها، التى تخصص عادة لوظيفة الرؤية، هذه الوظيفة إذا لم تتلق الاستثارة الخارجية اللازمة، البصرية فى هذه الحالة.

ومن الأهمية بمكان التمعن فى ما تعنيه نتيجة هذه التجربة لتطور معمار المخ ووظائفه.

أولاً: معمار المخ قابل للتشكل عبر الاستثارة البيئية.
وهذا هو المعنى الأساس للتعلم. والتعلم، بهذا المعنى، إن شئنا، هو غذاء المخ. فالاستثارة الخارجية، عبر الحواس، تشكل المخ إلى حد التأثير فى أى من وظائفه تنمو أو لا تتطور أساساً. ولقد كانت الوظيفة محل الدراسة فى التجربة المعروضة هى الرؤية، ولكن المبدأ واحد بالنسبة لوظائف الكلام وغيرها.

ثانياً: السؤال المهم الآن هو ماذا يحدث لخلايا المخ،
وتشابكاتها، التى لا تتطور لأداء الوظيفة المنوطة بها عادة نتيجة لفقر الاستثارة البيئية؟
الشواهد أن أجزاء المخ هـذه إما تتحول لوظائف أخرى تنشطها هـى الاستثارة الخارجية، أو تضمر وتذوى. وفى النتيجة الأخيرة تفسير إضافى لما سقناه فى القسم الأول من تفسير لتناقص عدد خلايا المخ، فى النصف الثانى من الحمل، والوصلات بينها، بين الثانية والعاشرة من العمر، فالمخ البشرى يبدأ، فى مرحل مختلفة، مجهزاً بطاقة واسعة من الخلايا، والتشابكات بينها، ولكن معماره النهائى، حول العاشرة من العمر، يتوقف نمواً وضموراً، على الاستثارة الخارجية التى يتلقاها المخ عبر الحواس.

وفى تجارب مهمة أخرى (تجارب "جرينوه"، جامعة إلينوى و "دياموند"، جامعة بركلى، كاليفورنيا) عرّض الباحثون مجموعة من الفئران لبيئة ملأى بالاستثارة: لعب، وألوان، وألعاب تمرينات، وأقران، وتحديات بينما أعيشت مجموعة مقارنة من الفئران فى أقفاص عادية خالية من الاستثارة. وعند فحص أمخاخ كلا المجموعتين، اتضح للباحث أن عدد التشابكات بين خلايا المخ فى المجموعة الأولى أضحى أكبر من الثانية بحوالى الربع، وكـان فئران المجموعة الأولى أذكى من الثانية بدرجة معنوية. كما ظهر لتغيير مثيرات البيئة دور مهم فى ثراء تكوين الوصلات بين خلايا المخ، حيث كان عدم تغيير المثيرات البيئية يؤدى إلى ضمور الوصلات التى تتكون بين خلايا المخ.

وقد أظهر باحثون آخرون النتائج نفسها فى حالة الآدميين.

فقد أجرى "كريج رامى"، من جامعة ألاباما، تجربة بدأت بأطفال صغار ( بدءاً من سن ستة أسابيع) أظهرت أنه يمكن استنقاذ أطفال فقراء من تدنى الذكاء والتخلف الذهنى من خلال تعريضهم لبرنامج يحوى خبرات غنية تستثير بناء معمار المخ وترقية وظائفه. وبعد ثلاث سنوات من بدء التجربة مثلاً، كانت نسبة ذكاء الأطفال الذين أغنوا من خلال التجربة عادية، وأعلى بدرجة معنوية من أقرانهم فى الأحياء الفقيرة الذين لم يستفيدوا من مثل هذا البرنامج. وعند بلوغ الثانية عشرة من العمر، كان معدل إعادة الصفوف الدراسية أقل جوهرياً فى المجموعة المغناة عن أقرانهم.


لمس الأطفال وتحسسهم أساسى للنمو وللتطور الطبيعى للمخ

ظهر فى تجارب معملية ("شانبرج" و "فيلد") أن الفئران حديثى الولادة الذين يفصلون من أمهاتهم يتوقفون عن النمو على الرغم من وجود غذاء. واكتشف الباحثون أن العامل الحاسم فى ذلك التوقف عن التغذى هو توقف "لحس" الأمهات للفئران الصغار. حيث كان ذلك السلوك الحانى من قبل الأمهات ينقل للفئران الصغار الإحساس بأن كل شىء على ما يرام، ويصدر المخ توجيهاته بمزاولة الحياة بطريقة عادية. أما فى حالة توقف اللحس، أى بُعد الأمهات، يتعامل المخ مع الوضع على أنه حالة أزمة لا تسمح بمزاولة الحياة بصورة عادية. وبطول فترة توقف لحس الأمهات، يبدأ الفئران الصغار فى الضمور. كذلك تبيَّن أن الفئران الصغار تعود إلى التغذى والحياة الطبيعية عند عودة الأمهات إلى لحسهم أو عند تحسس الباحثين لهم بفرشاة رسم مبتلة، وكأنها لسان الأم.

وقد ترتب على هذه التجربة تطبيق مهم فى حالة الآدميين. فقد لاحظ الباحثان أن الأطفال المبتسرين (من يولدون قبل تمام الحمل) الذين يوضعون فى حضّانات، ويحظر لمسهم، لا ينمون بسرعة. واهتديا إلى فكرة احتضان هؤلاء الأطفال والتمسيد على أجسادهم كما يحدث للأطفال حديثى الولادة العاديين. وبالفعل تبين مـن التجربة أن الأطفال المبتسرين الـذين تعرضوا للاحتضان والتمسيد قد قلت لديهم هورمونات القلق وزاد معدل نموهم لحوالى الضعف.

وقد امتدت هـذه التجارب لتوضح أن التمسيد يفيد جميع الأطفال جسدياً ووجدانياً (سنتعرض فى القسم التالى لمفهوم الذكاء الوجدانى وهو من أهم مفاهيم الذكاء حالياً).

المخ إذاً قابل للتشكل، والنماء، من خلال التعلم، أو الاستثارة من البيئة.

ومن ناحية أخرى، أخطر، يتبيَّن أن المخ يمكن أن يتعرض للضرر بسبب فقر التعلم، أو الاستثارة من البيئة.

فى إحدى الدراسات المهمة ("داوسون"، جامعة واشنجتون) تبين أن أطفال النساء اللاتى يعانين من الاكتئاب يقاسون من نقص ملحوظ فى نشاط النصف الأيسر الأمامى من المخ، وهو مرتبط بمشاعر البهجة والمرح وحب الاستطلاع. وعند بلوغ الثالثة من العمر، يبدى هؤلاء الأطفال مشاكل سلوكية واضحة. ولكن تبين أيضاً أن الأمهات اللاتى يتغلبن على الاكتئاب قبل بلوغ أطفالهن الثالثة من العمر، أو ينجحن، رغـم الاكتئاب، فى إضفاء عناية محبة عادية على أطفالهم، يتغلب الأطفال، بيسر، على المشاكل التى عانوا منها قبلاً. وفى هذا دليل آخر على قدرة المخ الهائلة على التغلب على الصعاب التى تواجه مخ الأطفال الصغار بسبب فقر الاستثارة البيئية، إذا تحسنت الظروف المحيطة بهم.

لقد صار معروفاً الآن أنالتخلف الذهنى ينتج عن الفشل فى إمداد المخ بالخبرات البيئية الثرية التى يحتاجها للنمو.


ولكن معروف أيضاً أن قدرة المخ الهائلة على التشكل، خاصة قبل بلوغ العاشرة من العمر، تتيح السبيل لتفادى هذه النتائج الوخيمة إذا ما توافرت البيئة المُثرية للمخ، فى التربية قبل المدرسية، كما أشرنا أعلاه. بل إن هذه القدرة تنير السبيل أيضاً إلى علاج الضرر الذى يتعرض له المخ فى مقتبل العمر، لأسباب بيئية أو حتى عضوية. ففى حالة مشهورة، استأصل الأطباء نصف المخ الأيسر للطفل "أوستن رونسلى"، من كاليفورنيا بالولايات المتحدة، وعمره أقل من عامين لعلاجه من حالة من الصرع العنيف. ومع ذلك فقد أمكن بالمثابرة، وبإغناء بيئته بالمحبة والخبرات المثرية أن يصبح طفلاً عادياً تقريباً بحلول الخامسة من العمر، بحيث يمكن القول بأن المخ قد أعاد بناء معماره، رغم الفقد التشريحى، من خلال ثراء الاستثارة البيئية.
منقول منتدي الحصن النفسي الاعاقة العقلية
1
463

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

ملك الاحلام
ملك الاحلام
مشاركه مميزه

جزاك الله خيرا