تعالي نبحر معا في البناء الموضوع لسورة التكاثر

ملتقى الإيمان

البناء الموضوعي للسورة القرآنية
مسؤولية النعمة
من وحي السورة التي يذكر فيها التكاثر


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

مقدمة
ما من حقيقة في حياتي وحياتك آكد من حقيقة موتنا القادم!، ولئن جحد الجاحدون أصلهم وربهم، أو جحدوا لقاءه ومصيرهم، فلا يمكن لأي أحد أن يجحد أنه سيموت وحيدا تاركا كل ما أفنى العمر يجمعه، وأن هذا الموت سيأتي حتما ، مرة واحدة ، في وقت غير معلوم ، بل أنه أمر لا نملك حتى إختيار فعله !
وإن الموت إذ يلقي بظله اليقيني هذا على نهاية رحلة العمر، فإنه لا يبقي أي معنى للسعي أو للجمع أو للإنجاز ما لم يقترن العمر بحقيقة ثابتة تفسر وجودنا المؤقت هذا هنا، وإلا صار العمر عبثا لا يستحق المعاناة، مادامت النهاية حتمية أترك معها كل شئ خلفي!، ومن أعجب العجب أن ترى الناس لاهثين وراء الجمع، ودائبين بلا تساؤل عن المنشأ والمصير، ولاهين من دون تبصر فيما يستحق اللهاث مما لا يستحقه!

العرض
ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)
أربع كلمات حاسمات لا تفصل بينها إلا (حَتَّى)، تختصر تاريخ وجود كل منا بكل مراحله، فتوجز محطة الدنيا بـ(ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)، وتفجأ اللاهين في نشوة الدنيا بصدمة (زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) عند زيارة البرزخ في الهجعة المؤقتة في القبر، ولتشير إلى رحلة المصير والرجوع إلى الله بعد إنتهاء الزيارة!
(ألْهَاكُمُ) : إنه الخبر من الله العالم بنا جميعا أننا قد شغلنا التباري والتنافس في الجمع مدى العمر، عن العمل من أجل ما وجد لأجله العمر!، و(اللهو) الإنشغال بما لا يجدي مما يدعو إليه الهوى عما هو أهم، والإشتغال بأمر غير ذي شأن عن الامر ذي الشأن!.
و(التَّكَاثُرُ) حصول الكثرة فالكثرة، بتتابع متدرج دون توقف عند حد، وتكاثر القوم كاثر بعضهم بعضا، فهو المباراة في الإستكثار، وهو مذموم حين يكون غاية بذاته، أو لمجرد التفاخر والتباهي، مع الغفلة عن المبدأ والمصير .
(حَتَّى) تتضمن معنى الغاية، فغاية التكاثر إلى زيارة المقابر، وليس وراء هذا التكالب إلا المقابر يأتي بها القرآن ليبلغ الترويع منتهاه، كأنه يناديهم: (أيها التاركون ما تتكاثرون فيه إلى حفرة ضيقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر!) .
و(الْمَقَابِرَ) جمع مقبرة وهي مجتمع القبور حيث تمكث بقايا تلك الحشود من الموتى ممن مروا قبلنا في محطة الحياة، والتي ألهاها التكاثر، و(الزيارة): إتيان الموضع بنية الانصراف لا الإقامة، والزائر غير مقيم ، وسوف تنتهي الزيارة ريثما يكتمل المجموعون بالموت حيث يغادر الزائر القبر حتما إلى بعث وجزاء، وإذا كان مكوثك في البرزخ مجرد زيارة!، فكم هو بالله عليك مكوثك في محطة الدنيا!
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
ويأتي الزجر والردع بقوة من الخالق القوي العزيز!، وقد ألهانا التكاثر، فناسب هذا الإلهاء أن ينذرنا بما بعده من تلقف المقابر لكل ما نتكاثر به، وأن يردعنا بمصير لابد آت، نعلم فيه حقيقة ما لهونا عنه:
(كَلَّا) : أي إرتدعوا وإنزجروا عن الإشتغال بما لا يجدي، فإنما خلقتم لأمر عظيم.
(سَوْفَ) : بعد مهلة طويلة يتذكر فيها من تذكر.
(تَعْلَمُونَ) : أي هذا وعد لا خلف فيه أن تعلموا بما أنتم عليه الآن من الخطأ، في يوم يأتي وينكشف لكم فيه ماخفي عنكم وما أنكرتموه وإرتبتم فيه، عند مواجهة ما يكشفه الموت الخاص بكل واحد: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ 50: 19).
(ثُمَّ) : يدل حرف العطف (ثم) بوضعه اللغوي على الترتيب مع التراخي، وهو يدل هنا على أن حصول العلم الذي جاء بيانه في الاية الرابعة، غير العلم الذي جاء بيانه في الاية الثالثة من السورة، فهما: علمان، يتحصلان واحدا بعد الآخر.
ثم (كَلَّا): إرتدعوا إرتداعا اكبر من ذلك!
(سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي يأتيكم العلم من غير شك يوم البعث: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ 6: 30)
فهو الوعد الحق من الله: إنكم سوف تعلمون عند الموت، ثم بعد ذلك سوف تعلمون يوم الحساب قيمة ما ألهاكم بالقياس إلى ما لهوتم عنه !

كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
يدفع الناس الى اللهو بالتكاثر قلق الموت الكامن في النفس، والرغبة بتحصيل الأمان والبحث عن وهم الخلود في الدنيا: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ 3: 104)، ولن يكشف الوهم إلا اليقين، وهو لغة: ازاحة الشك، فهو العلم الذي لا شك فيه، ولا يلتبس بوهم او ظن او ارتياب، فيأتي الزجر الرباني الثالث صادعا!، بـ(كَلَّا)، ليشتد الارتداع!، فإنكم لو علمتم علم ما بعد الموت الذي هو علم يقيني بأنكم سترون دار العذاب، لما ألهاكم التكاثر، ولألهاكم العمل لما بعد الموت عما هو يلهيكم اليوم!.
وفي البخاري عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)، وهذا العرض بعد الموت يعطي الإنسان (علم اليقين) بأن عذاب الجحيم حق.
ثم يزداد اليقين بالجحيم، حين يصل الإنسان مرتبة العلم القائم على الشهود والرؤية العينية، وهو قوله: (ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) ويكون يوم الحشر بعد البعث يوم القيامة، اذ يرد الناس جهنم وهم على الصراط: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا 19: 72)، فيشاهدونها، وتكون للكافرين دار ومستقر، وللمؤمنين معبر وممر، فيسمى هذا العلم (عين اليقين) لتحقق الرؤية به .

(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)
لن نلبث بعد لهونا الصغير في الجمع هنا، وزمن البرزخ الطويل حين ينكشف بعض بما سيحصل لنا، ثم عرصات العبور المرعب فوق الجحيم بعد بعثنا، أن يأتي اللقاء العظيم، حين نسأل عن كل نعيم وعن كل ما إستكثرنا منه من أين أخذ؟ وفيم وضع؟، بعد أن يكون أصلا قد أخذ منا كله منذ ساعة الموت !، ووالله ليكون سؤالا شديدا عن كل يوم نعمة وعافية وستر، وعن كل ما إستخلفنا الله فيه من مال أو ولد أو علم أو سلطان، وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخرجه وصاحباه الجوع، حتى أتوا فأكلوا عند أبي طلحة الانصاري وشبعوا، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (هذا والله من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، خرجتما جائعين ثم لم ترجعوا حتى شبعتم من الطعام) ، فهم مسؤولون!، ولعلهم قد أجابوا عن السؤال بما قدموا، فيا ليت شعري ما يكون جوابنا!؟

خاتمة
ببساطة ستموت وحدك !، ولن يبقى منك – إن بقي شئ- إلا الذكرى، ومن الجهل الكبير أن تقضي اليوم كما قضيت الأمس، وقد إستغرقتك نفس الهموم، حيث كل ما حولك وكل من حولك يدعوك لنسيان مصيرك الأكيد القادم!، وإلى الإنشغال بمجرد الجمع عن التعرف على المنعم، وعن إستعمال النعم في مقصودها الأعظم: الإستعداد للقائه بإقامة العدل وإصلاح الحياة!
وفي غمرة اللهو بالتكاثر وزحام التفاخر، يأتيك نداء صادع رادع زاجر مشفق من الله المنعم العظيم ، وهو وحده الأرحم بك من نفسك وأمك، برسالة تفردت في القرآن بتكرار الزجر والردع بأم الروادع (كَلَّا) ثلاث مرات، لعلك تتذكر!، وكشفت جانبا من الغيب لا يعلمه إلا الله، أن تنبه!، فالأمر خطير، وبعد لهوك الصغير موت أكيد يكشف عنك فيه الغطاء، ثم بعث ترى فيه الجحيم!، ثم سؤال شديد عن كل صغير وكبير مما أنعم الله به عليك!
فتأمل (كيف إذا كان السؤال من ملك تذوب لهيبته الجبال؟ وكيف إذا كان السؤال على وجه العتاب؟، وكيف إذا جر إلى العذاب؟!) ، ألا يستحق منك ذلك تفكر ساعة؟
رب أوزعنا ان نشكر نعمتك، وأن نستعملها فيما تحب، كما تحب..


______________________________________
اخيتي اتمنى تكتبي رايك في الموضوع ولك مني دعوة بظهر الغيب
3
711

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

أم منصور..
أم منصور..
جزاكي الله خيرا على التذكير

..... فعلا يجب على الانسان ان يتذكر الموت دائما حتى لايغفل عن ربه وان يكون لدينا يقين بالنهايه

اسأل الله ان يجعلنا من الصالحين والذاكرين

موضوعك اخيتي اكثر من رائع وان شاء الله يكون في ميزان حسناتك
مصباح الحب
مصباح الحب
االسوره لوحده تزلزل الكيان لمن تفكر فيها الله المستعان الهكم التكثر الهكم التكثر حتي ماذاحتي زرتم المقابر النهيه الحق الله المستعان الله يعين علي تلك الحضات اللهما اجعلها من اجمل لحضتنا اللهم امين
ملاك_الخير
ملاك_الخير
جزاك الله خير و هذا فلاش لسورة التكاثر بصراحة رائع بمعني الكلمة

فلاش لسورة التكاثر
http://forum.hawaaworld.com/showthread.php?t=528803