تفسير قوله - تعالى - : {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}

حلقات تحفيظ القرآن

تفسير قوله - تعالى - : {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فقال : قيل معناها : منة الله عليهم ، وقيل : قوة الله معهم ، وقيل : الله عليم بحالهم ونياتهم .
فتكلم أحد الشباب من إخواننا في الله بعد الدرس ، وقال : تفسيرك هذا ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة ، بل هو من كلام الأشاعرة ؛ فغضب الإمام وقال : إن هذا موجود في كتاب الماوردي وابن كثير ، فرد الشاب وقال : ليس هذا في ابن كثير وإنما هو عند الماوردي الأشعري .
فلما رأى العامة الشيخ غضبان غضبوا له ، ورمى بعضهم الشاب بكلمة أنت مسيحي أنت بوذي، وكادوا أن يضربوه لولا أن بعضهم حماه .
والله يعلم أن هذا الشاب لم يتكلم إلا غيرة على عقيدة المسلمين ، ومن باب أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فأشار الشاب أن يقضي فضيلتكم بينهم ، فوافق العوام على ذلك ، فأفيدونا ، ونحن بانتظار ردكم - وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء - .
الجواب : وأفيدك أن ما نعتقده في إثبات صفة اليد لله - تبارك وتعالى - وغيرها في الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه العزيز ، أو وصفه بها رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة هو : إثباتها لله - تبارك وتعالى - إثباتاً حقيقياً على ما يليق بجلال الله - سبحانه - من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، ونؤمن بأن الله ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير .
فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه ، ولا نحرف الكلم عن مواضعه ، ولا نكيف ولا نمثل صفاته بصفات خلقه ؛ لأنه - سبحانه - لا سميَّ له ، ولا كفؤ له ولا ند له ، ولا يقاس بخلقه - سبحانه وتعالى - .
فكما أن له - سبحانه - ذاتاً حقيقية لا تشبه ذوات خلقه ، فكذلك له صفات حقيقية لا تشبه صفات خلقه ، ولا يلزم من إثبات الصفة للخالق - سبحانه - مشابهتها لصفة المخلوق ، وهذا هو مذهب سلف الأمة من الصحابة والتابعين ، ومن سار على نهجهم في القرون الثلاثة المفضلة ، ومن سلك سبيلهم من الخلف إلى يومنا هذا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : (حكى غير واحد إجماع السلف : أن صفات الباري - جل وعلا - تجري على ظاهرها ، مع نفي الكيفية والتشبيه عنه ، وذلك أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ، يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله ؛ فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية ، فنقول : إن لله - سبحانه - يداً وسمعاً ، ولا نقول : إن معنى اليد القدرة ، ومعنى السمع العلم ) .
ثم استدل – رحمه الله – على إثبات صفة اليد لله - سبحانه - من القرآن بقول الله - سبحانه - : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ، وقال - تعالى - لإبليس : {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وقال - سبحانه - : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ، وقال - تعالى - : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وقال - تعالى - : {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
ثم قال – رحمه الله - تعالى - : (فالمفهوم من هذا الكلام : أن لله - تعالى - يدين مختصتين به ، ذاتيتين له كما يليق بجلاله ، وأنه - سبحانه - خلق آدم بيده دون الملائكة وإبليس ، وأنه - سبحانه - يقبض الأرض ويطوي السماوات بيده اليمنى ، وأن يديه مبسوطتان ، ومعنى بسطهما : بذل الجود وسعة العطاء ؛ لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدّها ، وتركه يكون ضماً لليد على العنق ، كما قال - تعالى - : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} ، وصار من الحقائق العرفية أنه إذا قيل هو مبسوط اليد فهم منه يد حقيقية).
وقال – رحمه الله - تعالى - : (إن لفظ اليدين بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة ؛ لأن استعمال لفظ الواحد في الاثنين أو الاثنين في الواحد لا أصل له في لغة العرب التي نزل بها القرآن ، فقوله : {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة ، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد ، ولا يجوز أن يراد به النعمة ؛ لأن نعم الله لا تحصى ، فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية).
ثم استدل – رحمه الله - تعالى - على إثبات صفة اليد لله - سبحانه - من السنة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ؛ وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلوا)) . رواه مسلم ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ؟ فإنه لم يغض ما في يمينه ، والقسط بيده الأخرى يرفع ويخفض إلى يوم القيامة)) . رواه مسلم .
وفي الصحيح - أيضاً - عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة ، يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفؤ أحدكم بيده خبزته في السفر)) .
وفي الصحيح - أيضاً - عن ابن عمر – رضي الله عنهما – يحكي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ((يأخذ الرب - عز وجل - سماواته وأرضه بيديه ، وجعل يقبض يديه ويبسطهما ، ويقول : (أنا الرحمن) ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك أسفل منه، حتى أني أقول : أساقط هو برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟!)) وفي رواية أنه قرأ هذه الآية على المنبر : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} قال : ((يقول الله : أنا الله . أنا الجبار)) ، وذكره ، وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك . أين ملوك الأرض ؟!)) . وفي حديث صحيح : ((أن الله لمَّا خلق آدم قال له ، ويداه مقبوضتان : (اختر أيهما شئت) ، قال اخترت يمين ربي - وكلتا يدي ربي يمين مباركة - ثم بسطها ، فإذا فيها آدم وذريته)). وفي الصحيح : ((إن الله كتب بيده على نفسه لما خلق الخلق : إن رحمتي تغلب غضبي)) . وفي الصحيح : أنه لما تحاجَّ آدم وموسى ، قال آدم : ((يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده))، وقد قال موسى : ((أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه)) . وفي حديث آخر : أنه قال - سبحانه - : ((وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له كن فكان)) . وفي حديث آخر في السنن : ((لما خلق الله آدم ومسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره بيده الأخرى ، فقال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون)) .
قال شيخ الإسلام – رحمه الله - : فهذه الأحاديث وغيرها نصوص قاطعة لا تقبل التأويل ، وقد تلقتها الأمة بالقبول والتصديق .
ثم قال – رحمه الله - تعالى - : (فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد ، وأن الله - تعالى - خلق بيده ، وأن يديه مبسوطتان ، وأن الملك بيده ، وفي الحديث ما لا يحصى ، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر لا يبينون للناس إن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره ، حتى ينشأ جهم بن صفوان - بعد انقراض عهد الصحابة - فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم ، ويتبعه عليه بشر بن غياث ، ومن سلكوا سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق ؟
وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى الخرأة ، ويقول: ((ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وحدثتكم به ، تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) ، ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم ، وإن اعتقاده ظاهره ضلال ، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه ؟
وكيف يجوز للسلف أن يقولوا : أمروها كما جاءت ، مع أن معناها المجازي هو المراد ، وهو شيء لا يفهمه العرب ، حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار ؟! . أ . هـ . باختصار من مجموع الفتاوى ، ج6 ، ص : 351 إلى 373 .
وبما ذكرنا ، يتضح للجميع أن ما ذكره الشاب هو الصواب .
ونسأل الله أن يهدي الجميع لإصابة الحق في القول والعمل ؛ إنه سميع مجيب . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
2
418

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

pink-girl
pink-girl
جزاك الله الجنان:)
نرجس
نرجس
جزاك الله خيرا ً ،،
بس اكتبي لنا حبيبتي مصدرك ..