إن الكتب المقدسة كتب معصومة عن الخطأ، محفوظة من الخلل والزلل؛ لأن المفترض فيها أن تكون من قبل رب العالمين الذي يعلم السرَّ وأخفى، وهو الحق لا يصدر منه إلا الحق جلَّ وعلا.
وقد سبق أن ذكرنا نبذة عن هذه الكتب من ناحية السند، حيث تبين أن النصارى لا يوجد عندهم دليل يثبت صحة نسبة كتبهم إلى أولئك الناس الذين نُسبت إليهم، فعليه لا يمكن اعتبارها كتباً صحيحة، ولا يجوز لعاقل أن ينسبها إلى أولئك الرجال، فضلاً عن أن ينسبها إلى الله عزَّ وجلَّ. ومما يؤكد عدم صحتها الاختلافات الكثيرة بينها، وكذلك الأغلاط العديدة فيها، وسنضرب لذلك أمثلة:
أولا: الاختلافات
إذا قارنا بين الأناجيل الأربعة نجد بينها اختلافات جوهرية تدل على خطأ كُتَّابها، وأنهم غير معصومين ولا ملهمين، وأن الله عزَّ وجلَّ بريء منها، ورسوله عيسى عليه السلام، ومن الأمثلة على ذلك:
1- نسب المسيح عليه السلام إن مما يصيب الإنسان بالدهش أن النصارى لم يستطيعوا أن يضبطوا نسب المسيح عليه السلام، ولم يتفقوا عليه.
-2 ذكر إنجيل متَّى (11/13) من كلام المسيح عن يوحنا المعمدان (يحيى عليه السلام ) أن المسيح بين أن يحيى عليه السلام هو إيليا. ويخالف هذا قول يوحنا في إنجيله (1/19) حين جاء اليهود يسألون يحيى عن نفسه فأنكر يحيى عليه السلام أن يكون هو إيليا، وهذا تناقض واضح.
3- أن متى ذكر في إنجيله (20/29-34) أن عيسى عليه السلام لما خرج من أريحا قابله أعميان فطلبا منه أن يشفيهما من العمى فلمس عيونهما فشفيا. وقد ذكر هذه القصة مرقص في (10/46-52) وبين أن بارينماوس الأعمى ابن نيماوس هو الذي طلب ذلك فقط.
4- أن مرقص ذكر في (6/8) أن عيسى عليه السلام أوصى حوارييه حين أرسلهم للدعوة في القرى بأن لا يحملوا شيئاً للطريق غير عصا فقط لا مزوداً، ولا خبزاً، ولا نحاساً، وذكر ذلك لوقا في (9/3) إلا أنه قال: إن عيسى عليه السلام أوصاهم وقال لهم: (لا تحملوا شيئاً للطريق لا عصا ولا مزوداً ولا خبزاً ولا فضة) ففي الأول أجاز لهم حمل العصا، والثاني نهاهم عن حمل العصا أيضاً.
أن إنجيل متى ذكر فيه في (15/21) أن المرأة التي طلبت من المسيح شفاء ابنتها كانت كنعانية. وذكر القصة مرقص في إنجيله (7/24) ونص عبارته عن جنس المرأة: "وكانت المرأة أممية وفي جنسها فينيقيه سوريه".
5- أن إنجيل متى ذكر أسماء تلاميذ عيسى الاثني عشر فقال (10/2): "وأما أسماء الاثني عشر رسولاً فهي هذه: الأول سمعان الذي يقال له: بطرس، وإندراوس أخوه، يعقوب بن زبدي، ويوحنا أخوه، فيلبس، وبرثولماوس، توما، ومتى العشار، يعقوب بن حلفى، ولباوس الملقب تداوس، سمعان القانوني، ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه". وذكر مرقص في(3/16) الأسماء فوافق فيها متى، وخالفهما لوقا حيث حذف من قائمة متى "لباوس الملقب تداوس" ووضع بدلاً عنه "يهوذا أخا يعقوب".
6- اختلافهم في الذين حضروا لمشاهدة قبر المسيح بعد دفنه المزعوم ووقت ذلك، حيث يقول متى (28/1): "وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدليه ومريم أخرى لتنظرا القبر". وفي إنجيل مرقص (16/1) يقول: "وبعد ما مضى السبت اشترت مريم المجدليه ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنه، وباكراً جدًّا في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس". وفي إنجيل لوقا (24/1) يقول: " ثم في أول الأسبوع أول الفجر أتين إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنه ومعهن أناس" وفي إنجيل يوحنا (20/1) يقول: " وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر باكراً والظلام باق، فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر".
فهذه الاختلافات وغيرها كثير- ذكرها علماء الإسلام وغيرهم- تدلُّ دلالة واضحة على أن في الكتاب صنعة بشرية، وتحريف وتبديل.
الأغلاط في الأناجيل:
كما بين الأناجيل اختلافات يوجد بها أغلاط وأخطاء كثيرة أيضاً، نذكر منها:
1- قال متَّى في إنجيله (1/3) مستدلًّا للمسيح وولادته من مريم بنبوءة سابقة جاءت على لسان إشعيا: "وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه "عمانوئيل" الذي تفسيره الله معنا". وهذا غلط؛ لأن هذا اللفظ الذي ورد على لسان إشعياء لا ينطبق على المسيح، فإن له قصة تدل على المراد به، وهي: أن "رصين" ملك أرام، "وفقح بن رمليا" ملك إسرائيل، اتفقا على محاربة "آحاز بن يوثان "ملك يهوذا، فخاف منهما "آحاز"خوفاً شديداً، فأوحى الله إلى النبي إشعياء أن يقول لآحاز: بأن لا يخاف؛ لأنهما لا يستطيعان أن يفعلا به ما أرادا وأن ملكهما سيزول أيضاً، وبين له إشعياء آية لخراب ملكهما وزواله، أن امرأة شابه تحبل وتلد ابناً يسمى "عما نوئيل"، فتصبح أرض هذين الملكين خراباً قبل أن يميز ذلك الابن بين الخير والشر.وقد وقع ذلك فقد استولى "تغلث فلاسر" الثاني ملك آشور على بلاد سوريا، وقتل "رصين" ملكها، أما "فقح" فقتله في نفس السنة أحد أقربائه، وتولَّى الملك مكانه، كل ذلك حدث بعد هذه المقولة بما يقارب إحدى وعشرين سنة، أي: قبل ميلاد المسيح بما يقارب سبعة قرون.
2- قال متى في إنجيله (27/51) بعد الصلب المزعوم للمسيح وإسلامه الروح: "وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تفتقت، والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين". فهذه الحكاية التي ذكرها متَّى لم يذكرها غيره من كتَّاب الأناجيل مما يدلُّ على أن كلامه لا حقيقة له؛ لأنها آية عظيمة تتوافر الهمم على نقلها.
3- أنه ورد في إنجيل متَّى (12/40) وكذلك في (16/4) أن المسيح قال: إنه لن يعطي لليهود آية إلا آية يونان "يونس عليه السلام ". وهذا غلط؛ لأن المسيح عليه السلام في زعمهم صلب ضحى يوم الجمعة، ومات بعد ست ساعات، أي: وقت العصر، ودفن قبيل غروب الشمس، وبقى في قبره تلك الليلة، ونهار السبت من الغد، وليلة الأحد، وفي صباح الأحد جاؤوا ولم يجدوه في قبره، مما يدل على أنه مكث في زعمهم ليلتين ويوماً واحداً فقط، فيكون كلام متَّى السابق غلط واضح.
4- أن متَّى ذكر في مواضع من كتابه أن القيامة ستقوم على ذلك الجيل، كما ورد في الإنجيل نفسه (3/23) قولهم على لسان المسيح: "فإن الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان". فهذه النصوص تؤكد القيامة قبل موت الكثيرين من ذلك الجيل، وقبل أن يكمل الحواريون الدعوة في جميع مدن بني إسرائيل، وهذا أمر لم يتحقق، وله الآن ألفا سنة إلا قليلا مما يدلُّ على أنه غلط فاحش.
5- جاء في إنجيل لوقا (1/30) في البشارة بالمسيح قوله: "ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية". وهـذا خطأ بيِّن؛ لأن المسيح عليه السلام لم يكن ملكاً لليهـود، ولا ملكـاً على آل يعقوب، بل كان أكثرهم معادين له إلى أن رفع إلى السماء بسبب محاولتهم قتله.
6- ورد في إنجيل مرقس (11/23): " فأجاب يسوع وقال لهم: ليكن لكم إيمان بالله؛ لأن الحق أقول لكم: إن من قال لهذا الجبل: انتقل وانطرح في البحر. ولا يشك في قلبه، بل يؤمن أن ما يقوله يكون، فمهما قال يكون له، لذلك أقول لكم: كل ما تطلبونه حينما تصلون، فآمنوا أن تنالوه فيكون لكم". وورد أيضا في إنجيل مرقس (16/17): "وهذه الآيات تتبع المؤمنين، يخرجون الشياطين باسمي، ويتكلمون بألسنة جديدة، يحملون حيات، وإن شربوا شيئاً مميتاً لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى فيبرؤون ". وفي إنجيل يوحنا (14/12): " الحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً، ويعمل أعظم منها؛ لأني ماض إلى أبي، ومهما سألتم باسمي فذلك أفعله". فهذه النصوص الثلاثة لاشك في أنها خطأ، فلا يستطيع النصارى أن يدعو ذلك لأنفسهم. كما أن عبارة إنجيل يوحنا فيها مغالات شديدة، حيث زعم أن من آمن بالمسيح يعمل أعظم من أعمال المسيح نفسه، وهذا من الترهات الفارغة. وبمجموع ما ذكر عن الأناجيل من ناحية تاريخها، ومتنها يتبين لنا أن هذه الكتب لا يمكن أن تكون هي الكتاب الذي أنزل الله عزَّ وجلَّ على عبده ورسوله المسيح عليه السلام، وأحسن أحوالها أن تكون متضمنة لبعض ما أنزل الله عزَّ وجلَّ على عيسى عليه السلام.
إنجيل برنابا:
إنجيل برنابا لا يعتبر من الأناجيل القانونية لدى النصارى، ولا يعترفون به، ولأهمية ما يحتويه من معلومات، ولما بينه وبين الأناجيل الأربعة من تشابه في التعريف بالمسيح عليه السلام ودعوته نُعرِّف به هنا في نقاط مختصرة.
أ- التعريف بـ "برنابا"
برنابا: اسمه "يوسف" ويلقب ابن الوعظ، وهو لاوي قبرصي الجنسية، وهو خال "مرقس" صاحب الإنجيل فيما يقال، وكان من دعاة النصرانية الأوائل، ويظهر من إنجيله أن له مكانة لدى المسيح عليه السلام، والنصارى يرون أنه من الدعاة الذين لهم أثر ونشاط ظاهر.
ب- التعريف بإنجيله:
أقدم خبر عن إنجيل برنابا كان قريباً من عام (492)م، وذلك حين أصدر البابا "جلاسيوس" الأول أمراً يحرم فيه مطالعة عدد من الكتب، كان منها كتاب يسمَّى "إنجيل برنابا" وهذا كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لم يظهر له خبر بعد ذلك إلا في أواخر القرن السادس عشر الميلادي حيث عثر أحد الرهبان اللاتينيين وهو "فرامرينو" على رسائل "لإريانوس" يندد فيها ببولس، وأسند "إريانوس" تنديده هذا إلى إنجيل برنابا.
في أوائل القرن الثامن عشر عام (1709)م, عثر "كريمر" أحد مستشارى ملك بروسيا على نسخة لإنجيل برنابا باللغة الايطالية، عند أحد وجهاء مدينة أمستردام- حيث كان يقيم وقتئذ - وأهداها "كريمر" إلى الأمير "إيوجين سافوي" لولعه بالعلوم والآثار التاريخية، ثم انتقلت تلك النسخة فيما بعد- وذلك عام (1738)م- مع جميع مكتبة ذلك الأمير إلى مكتبة البلاط الملكي في فينا، حيث هي موجودة الآن، ثم ترجمت إلى الإنجليزية، وعنها إلى العربية من قبل الدكتور خليل سعادة، وهو لبناني نصراني. وكان يوجد لهذا الكتاب نسخة أخرى بالأسبانية، يظن أنها منقولة عن الإيطالية عُثِرَ عليها في أوائل القرن الثامن عشر أيضاً، وكانت عند رجل يدعى الدكتور "هلم" أهداها إلى المستشرق "سايل"، ثم دفعها هذا بدوره إلى الدكتور "منكهوس" الذي ترجمها إلى الإنجليزية، ودفعها مع ترجمتها عام (1784)م, إلى الدكتور "هويت" أحد مشاهير الأساتذة في إكسفورد ببريطانيا، وعنده اختفت تلك النسخة مع ترجمتها.
وحين ظهر هذا الإنجيل أحدث دويًّا في الأوساط النصرانية لما فيه من المعلومات المضادة لعقائدهم، فحاولوا دفعه بوسائل كثيرة، ومما زعموه:
أنه تأليف عربي مسلم، أو يهودي أندلسى تنصر ثم أسلم- وهذا في الواقع من التخرصات، ويدلُّ على بطلان تلك الدعاوى أمور منها:
1- لماذا يؤلف رجل أسلم كتاباً للنصارى، ويفتري الكذب وهو قد دخل في الإسلام.
2-أن في الكتاب معلومات غير موجودة في كتب اليهود والنصارى الآن.
3- أن مترجم الكتاب إلى العربية- وهو خليل سعادة النصراني- قد وصف صاحب الإنجيل بأنه على إلمام واسع جدًّا بالعهد القديم والنصرانية أكثر ممن نذروا أنفسهم للدين النصراني وتفسيره وتعليمه، حتى إنه ليندر أن يكون فيهم من يقرب من إلمام صاحب هذا الإنجيل، فكيف يكون مسلماً وله هذا الإلمام الواسع؟!
4- إن مما يدفع أن يكون صاحبه مسلم أن فيه أخطاء لا يمكن أن تقع من المسلم لبداهتها، ومنها قوله: إن السموات عشرة. وخلطه بين اسم ميخائيل وميكائيل، ويقول: أدريل بدل إسرافيل.
وعلى كل حال فهذا كتاب ظهر في بلاد نصرانية، وبخط ولغة نصرانية، ولم يرد عن أحد المسلمين أنه اطَّلع على الكتاب مع سعة اطلاع علماء المسلمين، وحرصهم على الرد على النصارى، وهو لاشك مما يظهره الله عزَّ وجلَّ دليلاً للحق ودحراً للباطل وردًّا له.
ج- أهم مبادئ إنجيل برنابا التي يختلف بها عن الأناجيل الأربعة:
أولاً: أنه صرح أن المسيح عليه السلام إنسان، وليس إله ولا ابن إله، وبيَّن أن سبب تأليف إنجيله هو رد هذه الفرية التي أطلقها بولس مع غيرها من الافتراءات، كترك الختان وإباحة أكل اللحوم النجسة.
ثانياً: أنه نقل عن المسيح التصريح بأن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وليس إسحاق كما يزعم اليهود.
ثالثاً:- أنه نقل عن المسيح التصريح بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم باسمه وذلك في مواطن عدة من كتابه منها: أن اليهود سألوا المسيح عليه السلام عن اسم النبي المنتظر فقال: "فقال الكاهن حينئذ: ماذا يسمى مسيا، وما هي العلامة التي تعلن مجيئه ؟ فأجاب يسوع: إن اسمه المبارك "محمد". حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين: يا الله، أرسل لنا رسولك، يا محمد، تعال سريعاً لخلاص العالم.
رابعاً: أن برنابا صرَّح أن المسيح لم يُصلب، وإنما رُفع إلى السماء، وأن الذي صلب هو يهوذا الإسخريوطي، وهو الذي وشى بالمسيح لدى اليهود، حيث أُلْقِي عليه شبه المسيح، فقبض عليه وصلب بدلاً عن المسيح عليه السلام.
هذه أهم مبادئ هذا الكتاب الذي أحدث بمبادئه وقت ظهوره دويًّا لدى النصارى، أما نحن المسلمين فلا يقدم عندنا هذا الكتاب ولا يؤخر، فنحن مطمئنون لكتاب ربنا الذي بين أيدينا نعرف به الحق، وعلى ضوئه نقيس الحق.
وهذا كتاب لا سند له ولا تاريخ، ثم هو من تأليف رجل ليس بمعصوم فقد يخطئ، ويضل، وينسى، وهذه لا تجعل لكتابه قيمة دينية عقائدية، وإنما تجعل له قيمة تاريخية وأدبية، والله أعلم.

fraternity88 @fraternity88
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

مشتاقه الجنه
•
جزاك الله الجنه
الصفحة الأخيرة