يجب الإيمان بحق الناس - ومنهم الأعيان والأئمة والقادة - في الاختلاف الفطري ، والتكوين النفسي ، والميل والمزاج والطبيعة ، فهذا يحب الاجتماع ، وذاك يفضل الوحدة ، وفيهم من يميل إلى البساطة والتواضع والبذاذة في ملبسه وأكله ومسكنه ، وغيره يميل إلى الجمال والزينة في حدود ما أحل الله ، وفيهم من يتجه فكره إلى الحذر والتحوط ، وآخر يتجه إلى العذر وملاحظة الحاجة والتسامح .. وهكذا هم الأئمة.
كان مالك يعني بلباسه أتم عناية ، ويفسر ذلك بأنه إعظام العلم ، ورفعة العالم ، ويقول : " إن من مروءة العالم أن يختار الثوب الحسن ، يرتديه ويظهر به ، وأنه لا ينبغي أن تراه العيون إلا بكامل اللباس حتى العمامة الجيدة " ، وقد كان يلبس أجود اللباس وأغلاه وأجمله ، مما يليق به من الثياب العدنية الجياد ، والثياب الخراسانية والمصرية المرتفعة .
قال بشر بن الحارث : دخلت على مالك فرأيت عليه طيلساناً يساوي خمسمائة ، قد وقع جناحاه على عينيه ، أشبه شيء بالملوك !
وكان مالك يقول في الصوف الغليظ : لا خير في لبسه إلا في سفر كما لبسه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه شهرة (يعني : تظاهر بالزهد) وإنه لقبيح بالرجل أن يعرف دينه بلباسه !
وكان ينقل عن فقهاء المدينة أنه أدركهم وما يلبسون إلا الثياب الحسان .
وكان يقول : ما أحب لأحدٍ أنعم الله عليه إلا ويرى أثر نعمته عليه ، وخاصة أهل العلم ، ينبغي أن يظهروا مروءاتهم في ثيابهم إجلالاً للعلم !
وكان يكره خَلِق الثياب يعيبه ويراه مُثله.
قال ابن أبي أويس : بيع ما في منزل مالك يوم مات من براذع وبسط ومخاد محشوة بريش وغير ذلك بنيف على خمسمائة دينار.
وقد أحصى ما ترك فوجد خمسمائة زوج من النعل ، ومائة عمامة ، وترك من الذهب والفضة ألفين وستمائة وتسع عشرين ديناراً ، وألف درهم ..
قال الذهبي : قد كان من الكبراء السعداء ، والسادة العلماء ، ذا حشمة وتجمل وعبيد ، ودار فاخرة ، ونعمة ظاهرة ، ورفعة في الدنيا والآخرة ، كان يقبل الهدية ، ويأكل طيباً ، ويعمل صالحاً .
كلام الذهبي تأصيل للمبدأ ، ودفاع عن المسلك ، وتذكير بقوله -سبحانه وتعالى- : (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً)(المؤمنون: من الآية51) ، وبحديث (أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا إنى بما تعملون عليم } (المؤمنون : 51) وقال { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } (البقرة : 172) رواه مسلم
وبحديث : (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) رواه الترمذي وأحمد في مسنده
هذا إذاً مسلك شرعي ومن الخطأ أن يعاب العالم بغناه ، وكأنه يراد له أن يكون فقيراً معوزاً ، أو يعاب العالم بحسن مظهره وكأن البؤس علامة التقوى ، أو يعاب برعايته للجمال ، وكأننا لم نسمع حديث (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ).رواه مسلم
وثمّ مسالك أخرى ييسر لها آخرون ، كالبساطة والتواضع في الملبس والاقتصاد ، ومن هذا الباب ما رواه ابن الجوزي في المناقب: أن أحمد كان يرهن نعله عند خباز على طعام أخذه منه ، وباع جبته مرة ليقتات بها.
وذكر المروذي أن أحمد أعطاه خفه ليصلحه ، وقد لبسه سبع عشرة سنة ، فإذا فيه خمسة مواضع أو ستة الخرز فيها من برا ، أي : من الخارج.
ويبدو أن الشافعي وأبا حنيفة كانوا أميل إلى طريقة مالك في اللبس .
هل كان هذا دأباً ورثوه عن شيوخهم وتلقوه عن أساتذتهم ؟
هذا قريب ، كما قال مالك -رحمه الله- أنه أدرك شيوخه وما يلبسون من الثياب إلا الحسان ، وكأن هذا هدياً وعبادة لفقهاء المدينة ، يتوارثونه فيما بينهم .
ويساعد على هذا طبيعة البلد ، من حيث الرخاء الاقتصادي والوفرة المعيشية والرفاة الذي وصلوا إليه ، فليس هو تكلفاً لمفقود ، ولا إثقالاً للنفس بما لا تقدر ولا تطيق .
وطبيعة الأسرة التي يعيش فيها الإمام وينتمي إليها ، فأبو حنيفة تاجر ، ومالك كذلك ، وأحمد كان يتيماً فقيراً فآثر الحال التي هو عليها واختار مقام الصبر وكان يقول كما في صفة الصفوة : " إنما هو طعام دون طعام ، ولباس دون لباس ، وصبر أيام قلائل "
ولابد أن التكوين الشخصي يتقبل هذا ، فمن الناس من هو مجبول على حب الأشياء الحسنة والاستمتاع بها ، ومنهم من هو أميل إلى الزهد والإعراض والتبذل ، ولذا جاء في السنة الإشارة إلى هذا وإلى هذا ، ففي حديث " البذاذة من الإيمان " رواه أبو داود وابن ماجه وصحَّحه ابن حجر في فتح الباري.
وهو محمول على التبسط في الملبس والمأكل لمن لا يقدر ، أو لمن يكون طبعه إليه أميل مع النظافة والطهارة .
وفي الحديث الآخر " إن الله جميل يحب الجمال " وقد قال هذا لمن كان يحب أن يكون ثوبه حسناً ، ونعله حسنة ، فطبعه أميل إلى الحسن والجمال حتى في النعال .
والمجتمعات فيها هذا وهذا فلكل ما يناسبه .
ووجود الصنفين يعني تعدد الطرق في الطاعة بحسب الطبع ، وبحسب الإمكان ، ليس في المظهر فحسب ، بل في أشياء عديدة ، فحمل الناس على طريق واحد فيه عسر ومشقة وغفلة عن تفاوت الطباع واختلافها .
ومثل هذا قد يقال في المنصب والوظيفة ، فلا يذم أو يمدح مطلقاً بها أو بدونها ، وإنما العبرة بما يلائم الطبع ويكون أقرب لتحقيق المصلحة .
وكذلك الشهرة والخمول ، فمن الناس من تفسده الشهرة وتضره ، ومنهم من لا تزيده إلا خيراً ونفعاً للخلق مع معرفته بذاته وعدم اغتراره بما يقوله الآخرون .
وكذلك الرئاسة والتصدر تصلح لأقوام ولا تصلح لآخرين .
د سلمان العودة
ام الحكاوي @am_alhkaoy
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة