اتصلتُ مرةً بمأمور شركة ما، واستغربت الطريقة التي كان يتحدث بها، لقد كان فظَّاً متسرِّعاً دون سبب.. ليس غريباً أن يكون عليه ضغط؛ فهو في ميدان عمل، وهذه مهمته، ولم يكن متطوعاً بل موظفاً يتقاضى راتبه .
وليس شيئاً حسناً أن يُبدي اعتذاره حين تعاتبه، أو حين يتعرَّف عليك؛ "سامحنا ترى مضغوطين!".
لأن الأصل أن يكون تعامله راقياً مع كل المستفيدين، دون اعتبار لأيِّ سببٍ خاص.
بعد فترة عاودتُ الاتصال فوجدت ترحيباً، وعرَّف الموظف بنفسه وعرض الخدمة.. قلت لصديقي: الحمد لله، لقد تغيَّر الناس، وأصبحت أخلاق الموظفين أرقى!
قال لي: كلا؛ بل أصبحت المكالمات تُسجَّل.
مهما يكن السبب فالنتيجة طيِّبة، وهذا الذي تحدَّث بأدب سيجد نفسه مع الزمن منضبطاً معتاداً على الكلام الطيِّب؛ مقدراً لمشاعر الآخرين.. سوف يتعلَّم اللغة الإيجابية الجميلة، وإن كان قيد إليها بالسلاسل!
الكاميرات التي تراقب الأداء سوف تجعلنا أكثر يقظة وانتباهاً لما يصدر منَّا من أعمال ربما جرت مجرى العادة وتمت بعفوية، لكن حين رصدتنا العيون الساهرة، وسجَّلت علينا حركة غير لائقة، شاهدنا أنفسنا، وقرأنا عيوبنا؛ التي اكتشفناها متأخرين، والجيد أننا اكتشفناها.
لو تذكَّرنا عين الله التي لا تغفل، والرقيب الذي لا يُفارق.. لكان لنا شأن آخر!
لكن ها هي أمم الأرض التي لا تدين بدين قد دانت بثقافة الحقوق، واحترام العميل، والسعي في إرضائه؛ فلا يردها سائح ولا تاجر ولا متعلم ولا متداوٍ إلا وجد الحفاوة، والاهتمام، والعناية التامة، والأمانة الظاهرة.. ورجع يعجب من حالهم وحالنا، ويقارن بينهم وبيننا.
ثقافة تربّوا عليها، وصارت جزءاً من عاداتهم الاجتماعية، يمارسونها بعفوية ودون تفكير أو تردد، ومع الغريب وغيره.
بينما نُفرِّق نحن بين الناس حتى نخصّ معارفنا وأصدقاءنا بالفضل، ونُطبِّق (النظام) على سائر الناس.. ويا له من نظام!
كلمة مطّاطة حمَّالة أوجه، وليس من حق المحروم الذي نُشهر النظام في وجهه أن يسأل عن المستند، فالجواب الجاهز هو: أن يشرب من البحر إن كان في الحجاز، أو يركب أسرع خيل عنده إن كان في نجد..
أحياناً حين تكثر الثغرات والمساحات الفارغة في الأنظمة يميل بعضهم إلى ملئها وفق رؤيتهم الشخصية، وهذا في نظرهم شيء من مسؤوليتهم أو من حقهم، وإلا فما معنى كونه موظَّفاً ومسؤولاً في هذه الدائرة؟
الوعظ مهم وهو من مهمات المرسلين، والكلام الحسن خطوة لابد منها للوصول إلى النضج والتفوق، لكنه وحده لا يكفي، بل لابد من تحويله إلى برامج حياتية عملية يتدرّب عليها الصغار ويعتادها الكبار، فيمارسونها دون تكلّف أو تفكير؛ لأنها أصبحت جزءاً من سلوكهم وشخصياتهم.
متى نصل إلى مرحلة قطع التردد؟
وأعني بها أن يكون المرء قد حسم خياره أمام الأشياء التي تواجهه، فلا يحتاج إلى أن يراجع نفسه؛ هل يأخذ الرشوة أم يرفضها؟ هل يسرق المال العام -لأن كل الناس تسرق على حد زعمه- أم يتركه ولو كان محتاجاً له؟ هل يشتري الشهادة المدرسية، أو شهادة التوفل، أو شهادة الكمبيوتر، أو الخبرة.. أم يتحمّل فوات الفرصة الوظيفية بينما يحصل على شهادة حقيقية؟ هل يغش في الاختبار أم يتجنّب الغش ومن غشّ فليس منا؟
أسئلة كثيرة وصعبة، وأصعب منها الجواب، فالكثيرون لا يجدون القدوة الحسنة، وربما زيّن لهم الشيطان أن الناس كلها تَفْجُر، وتكذب، وتغش، وتسرق، وتتلاعب.. فلماذا أكون أنا الاستثناء في مجتمع هذه أوضاعه؟!
بل متى نصل إلى مرحلة عدم السؤال.. فلا أجد سبباً أن يستفتي إنسان شيخاً أو فقيهاً هل يغش أو لا يغش؟ بل يستفتي قلبه وضميره، والإثم ما حاك في نفسك وتردد في صدرك.
هل نحن شعب محتال كما يقول صديقي؟
مرة سألني أحدهم وقال إنه وضع في سيارته خزان وقود آخر يحمل فيه "الديزل" للإمارات، ويبيعه هناك لأنه أغلى ثم يعود.. وهكذا!
الظن أن كثيرين هم قدوات ونماذج راقية، ولا تخطؤهم العين، والجدير بمن يحترم نفسه أن يزيد فيهم واحداً بسلوك سبيلهم، وترسّم خطواتهم، والإصرار على ذلك حتى لو كانت البيئة غير مساعدة.
موقع مقالات اسلام ويب
ام الحكاوي @am_alhkaoy
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️