جاء الأمر بعد فوات الأوان
أراني انزل من قمة جبل أشم والوقت خريف متأخر وأنا أتلمس مواضع قدمي متحاشيا أزهار السوسن التي أطلت برؤوسها من بين أكداس الورق الأصفر المتساقط من أشجار الغابة.
أشعر بقدمي ثقيلتين وأجد صعوبة في تحريكهما وكأنهما لا تريداني أن أستمر في النزول.
أنظر ورائي بين الفينة والأخرى لكي القي على قمة الجبل وأشجار البلوط المعمرة التي تصطف على السفح لتشكل الغابة الكبيرة نظرة حزينة ، نظرة المتيقن أنها ستكون نظراته الأخيرة هنا.
يصيبني الشرود وتعود بي الذكريات إلى الوراء وأراني يوم جئت هنا كيف كنت منتشيا وكيف كنت أتسلق السفح بخطوات مسرعة رشيقة وكان همي الأول يومها أن أصل إلى جوار القمة أنتظر قدوم طائر جميل نادر قيل لي أنه أن سيمر من هذا المكان وقد يستوطن فيه ردحا من الزمن، ولكثرة ما عرفت عن جمال الطير و زهاء ألوانه وعذوبة شدوه فقد كنت في شوق عظيم لا يوصف لرؤيته. ولأن أحدا لا يعرف موعد قدومه كنت عقدت العزم على البقاء هنا لحين ظهوره.
مضت أيام وأيام، أشرق ربيع جديد وأفل، تعاقبت الفصول ومرت أعوام كثيرة ولم يظهر طائري الجميل. ووجد اليأس سبيله إلى قلبي واستوطن فيه، خارت قواي، ووهن الجسد وها أنا أراني اليوم أنزل من السفح تخنقني العبرات، مكسور الجناح كمحارب خسر حربه وضل طريقه إلى أهله وضاقت به الدنيا بما رحبت. أسند ظهري إلى شجرة بلوط معمرة، التقط أنفاسي المتسارعة وأغمض عيني.
بعد هنيهة يتداعى إلى مسمعي من بعيد شدو غريب متقطع بالغ الروعة وكلما اقترب الشدو قليلا أشعر بقلبي يضطرب وأنفاسي تتسارع، أفتح عيناي وابتسامة باهتة ترتسم على شفتي وفجأة يقفز طائر غريب على غصن متدل من الشجرة التي أمامي، تحبس أنفاسي وتتسمر عيناي ، ما هذا؟ ما هذا الجمال الأخاذ؟، ما هذه الألوان الزاهية؟، ما هذا الشكل الغريب المتناسق؟. ويشدو الطير الجميل فيأتي شدوه كبلسم للروح يصل إلى أغوارها فينفض عنها الغبار المتراكم عليها منذ سنين.
الآن تأتي أيها الطير الحبيب بعد كل هذا الانتظار بعد أن شرعت بالنزول وبعد أن أخذ اليأس مني كل مأخذ، الآن تأتي أيها الطير النادر وقد عصفت بي رياح الوهن والضعف.
خذ طريقك إلى الأعالي أيها الطير بينما تقودني خطواتي إلى الأسفل.
خذ طريقك إلى الأعلى إلى القمة وتجول حيث شئت هناك، عند القمة أو على حافة السفح أو في بطن الغابة فلن تشعر بالغربة. قد تجد نظرة عتاب للوهلة الأولى من كل من حولك هناك من الشجر والصخر والطير فقد كانوا شهداء على عذاباتي في أيام الانتظار الطويلة.
نعم لن تشعر بالغربة فالكل تعرفك هناك لكثرة ما حكيت عن جمالك وصفاتك.
سترحب بك شجرة البلوط المعمرة المتدلية الأغصان على طرف الغابة فطالما جلست تحت أفياءها أتغنى بجمالك وأبث لك اشتياقي.
سيرحب بك النسر الرمادي الذي يسكن الحافة الصخرية تلك فكان يراني أجلس قرب عشه في كل مواسم صيده أنتظر قدومك.
وسيحلو للمغارة الصغيرة في فم الغابة أن تمر بها فقد شهدت عبراتي المسكوبة بغزارة وأحست بالشجن الذي يملأ قلبي عندما كنت أسكن فيها شتاء أو ألجأ إليها هربا من زخات مطر ربيعي أو خريفي.
سيشرق ربيع جديد هنا بدوني وإذا قدر لك أن تبقى حتى ترى مقدمه سترحب بك كل الورود البرية التي ستنبت هناك في المرج الأعلى أو على جنبات الغابة أو تحت ضلال أشجارها، سترحب بك جميعها زهرة زهرة فكلها في شوق للقياك فطالما كنت أحدثها عنك وأنا أمر بها وأملأ عيني من جمالها.
سيدعوك النبع الربيعي الذي سيتفجر تحت الصخرة الناتئة تلك لتشرب من ماءه العذب فكان يسألني عندما كنت أزوره هل جاء طائرك الحبيب ؟ وكان يعرف الجواب من الشرود الذي يتملكني عندها والعبرات التي تتلألأ في مقلتي.
خذ طريقك إلى الأعالي أيها الطير الجميل بينما تجرني قدماي نحو الوادي فقد شاءت الأقدار أن يكون لقاءنا وداعا.
نعم شاءت الأقدار أن يكون لقاءنا وداعا..
ملاحظة: هذه لم أكتبها فهي نقلا عن والدي ز.ط.ح
أتمنى أن تنال أعجابكم
زائرة
هذا الموضوع مغلق.
الصفحة الأخيرة
حياك الله ويانا بالواحة الادبية وياهلا وسهلا فيك حبيبتي ...
مشاركة جميلة جدا واسلوب متميز والفاظ سهلة معبرة .....
اتمنى ان ارى المزيد من مشاركاتك الشخصية ..
تقبلي تحياتي