جميلة.. رغم كلّ ش
أستغربُ غيابها المتكرر عن القدوم إلينا، وقد كان بيت جدها هو الأثيرُ عندها..:(
تركضُ إليه بمرحها وعفويتها كقطة مدللة، تعرف أن كلّ من في البيت يحبّ ميرا الفتاة الجميلة اللذيذة!
تسلّم على عجل وتطرقُ بابي بحبّ، تقبّلني وتجلس على سريري، وتحكي لي مغامراتها..
- خالتي.. اليوم ثارت غرفة صفّنا ضحكاً على ضفدعٍ أحمقٍ صغير اصطادته لنا هنادي وأفلتته في حصّة الجغرافية ليقفز حول الكرة الأرضية على طاولة المعلمة...
أصغي إليها كما أصغي لصوت الحلم الجميل حين يطلّ بعد غياب..
ميرا.. حبيبتي.. كم كبرتِ وأصبحتِ تُشبهين خالتكِ!
تدورُ حول نفسها أمام المرآة بدلال وتقول متحدّية:
- بل أنا أجمل ولا شكّ!
أيام الشتاء تمرُّ طويلة، وأنا مازلتُ في سريري العاجز..
ميرا باتت تزورني في فتراتٍ متباعدة، فقد أخذتها المرحلة الثانويّة بصخبها، وازدحمت الكتب والمراجع أمام طاولتها، وازداد تأففها وتململها من الدراسة، وأصبحت تميلُ إلى أشياء أخرى..
اشتكت لي أختي مرّة عنها، فهي تمضي أوقاتاً طويلة في المكتبات.
استبشرتُ خيراً وقلتُ لها: الثقافة خيرٌ لابنتكِ، لا تضيّقي الخناق عليها في الكتب المدرسيّة فقط!
اسمحي لها بالاطلاع، واكتشاف صنوف المعارف بنفسها.
ابتسمت أختي بمرارة وقالت:
- لكنها تجوبُ المكتبات بحثاً عن وجه جميلٍ تودُّ لو أصبحت مثله!
تذكرت لحظتها تلك المجلات السخيفة التي كانت تحضرها، وصور الممثلات والعارضات التي كانت تريني إياها وهي معجبة بها أيما إعجاب..
- أليست تصفيفة شعرها جميلة، بسمتها واتساع عينيها.... إنها بعيدة كل البعد عن ملامحي القاسية وأنفي المستطيل..!
كنتُ أخبرها دائماً بأنّ الجمال جمال الرّوح..:26:
وبأن الله أعطانا الجمال لكي نحفظه، فلا نرخصه للعرض أمام الناس..
وكانت تصمتُ طويلاً، ثمّ تغيّرُ بذكاء مجرى الحديث كي لا أفهم ما يدور في خلدها فأثنيها عنه.
لأول مرّة في حياتها تغيب شهراً كاملاً..
ألهذا الحدّ يا ميرا هانت عليكِ خالتكِ..
لولا العجز في قدميّ لأتيتُ ووبختكِ بما أستطيع..
ولو أنّي أستطيع..... لعانقتكِ باشتياق..!
ترى.. ماذا حلّ بكِ يا حبّة القلب.
اتصلتُ بأختي معاتبة باكية، فأتتني الصاعقة!
ميرا تودّ أن تترك دراستها، وهي تصرّ على عمليّة تجميلٍ تغيّر بها أنفها ليبدو أصغر، وتضفي بعض الاتساع على عينيها.
إنها تعتقد بأنه حقٌّ شخصيٌّ لها، وبأنني ووالدها نقفُ في طريقها..
أهذه المعرفة التي كنتِ تودّين أن تتعمّق بها؟ أهذه هي الثقافة التي شجعتِها على الوصولِ إليها..!
أغلقتُ السّماعة وفكّرتُ طويلاً بالمسألة..
ليست قضيّة ميرا فحسب! بل قضيّة العالمِ بأسره.. فما الحل؟!
اتصلتُ على عجلٍ بأختي ودون تحيّة طلبتُ أن تأتي ميرا إليّ بعدَ ثلاثةِ أيّامٍ للضرورة القصوى، فهناكَ مفاجأة رائعة أودّ أن أهديها لها بمناسبة شكلها الجديد..
وطلبتُ منها ألا توافق على عملية التجميل قبل الثلاثة أيامٍ مهما حصل!
استجابت أختي على مضض، وبدأتُ بهمّة العمـل.
لم يكن الأمر سهلاً أبداً..
فالبحثُ في دليل الهاتف عن أرقام المكتبات، وأن تطلب منهم أشياء غير محددة، وأن يأتوا بها إلى المنزلِ.. كان أمراً عسيراً.. لكنني حققته بنجاح.
مقصّ وأوراق بيضاء، وأخرى ملونة، مجلاتٌ ملأت السرير تدثرتُ بها عوضاً عن لحافي الدافئ، وليلٌ طال بعملٍ مضنٍ، ومغامرة قد لا تؤتي أكلها..!
أيّامُ ثلاثة مرّت.. لا أحد يدري ماذا يجري في غُرفتي..
سمعتُ أمي تقول لوالدي بأني أصبت بالصدمة، بسبب ما حدث لميرا، وبأنني على حافّة الجنون!
وسمعتُ أيضاً بأنّ ما يحصلُ ردة فعلٍ عنيفة، فتقطيع أوراق المجلات – برأي الطبيب النفسي – نوع من التنفيس عن تأنيب الضمير، لأنني أنا السبب بقرار ميرا.
أخيراً جاء الموعد..!
البيتُ هادئ، والكلّ يترقب المفاجأة..
سريري مرتّبٌ وأنا في أحسن حالاتي، لا وجود لقصاصة ورقٍ في الغرفة، البابُ يطرقُ بحذر..
ليسَ كعادتها، لم تعد مرحة، ربما قرارها، أو مخاوفها مما قد حضرته لها.
دخلت بصمت، قبلتني على جبيني..
نظرتُ في عينيها، ومسحتُ شعرها المجعّد عنوة، وقلتُ لها دامعة:
- اشتقتُ لكِ.
حاولت الهروب من عتابي، فسألتني عن المفاجأة، ولم أرغب بتأخيرها أكثر.
أخرجتُ المغلف، ووضعته بين يديها، وأنا أراقبُ ردّة فعلها..
أصابتها الدهشة وهي ترى صور الممثلات على غلافه..
ابتسمت بفرحِ طفلة أُعطيت قطعة حلوى..
ثم بدأت تتصفح بشوق..
كانت الصورُ غريبة!
صورة هرّة قطعت أذنيها وألصق مكانها أذنا أرنب، وعينا جمل استبدلا بعيني غزال..
وردة جوريّة وضعت مكانها زهرة ياسمينٍ رقيقة، وقرنفلة قطعت أوراقها وألصقت أوراق فاصولياء..
وهكذا.. كانت كلّ صفحات الكتاب.. تحملها على ضحكٍ هستيريّ..!
أغلقت الكتاب ولم تزل تضحك..
نظرت إليّ وقال:
- خالتي... ما هذا؟
بثقة أجبتها.. هكذا ستصبحين قريباً..
فاجأتها الإجابة وأصابتها بصدمة، صمتت طويلاً، ثمّ انفجرت باكية، وكأنها فهمت اللغز ورأت الحقيقة دون زيف..
عانقتها وقلت لها:
- يا صغيرتي.. أتشكين في أنني أتمنى أن أراك أجمل فتاة في الكون؟
بالطبع لا.. لكنني على يقين بأن الله جعل لكل مخلوقٍ ما يناسبه من ملامح، لا يكون جميلاً إلا بها
(ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)
فإن حاول التسلط عن طبيعته أو تحدي فطرته أدّى ذلك به إلى التشوّه مهما ظن نفسه جميلاً.
الجمالُ هو التكامل، وأن يسعد المرء بما وهبه الله تعالى من نعم، فيشكر الله تعالى عليها، وأن يحميها ويحافظ عليها من التلوث بدلاً من أن يعبث بها فيفسدها.
وهناك جمالٌ آخرُ هو أصلُ كلّ جمال.. إنه جمال الرّوح.. ننميه بتعميق الإيمان بالله، ونرفعه بقراءة ما ينمي العقل، فيتكامل المظهر والجوهر..
أخذت المغلف وقلت لها:
-انظري إلى هؤلاء النساء.. ربما قد وهبهن الله جمالاً، ووجهاً حسناً، لكنهن وللأسف لا يمتلكن الجمال الأهم، جمال العقل والروح.. ولو كنّ يمتلكنه حقاً لما فرّطن به هذا التفريط، ولما أضعنه فعشن حياتهنّ بلا هدف، فبتن دمى.. مجرد دمى بلا عقل أو روح..
تركتني باكية..
وغابت ليلتها، ولم أتصل لتفقد حالها..
لم أنم ليلتها، فقد ساهرني ألمٌ شديدٌ في ساقيّ أعياني..
رنينُ الهاتف في الصباح أيقظني من غفوة قصيرة..
كانت هي.. ميرا..
لا ليست ميرا التي ودعتني البارحة، بل ميرا المرحة الحبيبة التي أعرفها.
أخبرتني بأن لديها مفاجأة أيضاً لي، وبأنها آتية لتهديني إياها..
توقعتُ كلّ شيء إلا هذا الكرسي الكهربائي المدولب الذي كان لي حلماً يئست من أن يتحقق..
حملتني إليه بفرح وهي تقول..
الآن سأقوم مع خالتي – أجمل الجميلات – بجولة في حديقة جدتي!
أعوام طويلة مضت..
لم تنقطع ميرا عن زيارتي كلّ أسبوع..
أضحكتني كثيراً هذه المرة وهي تتحدث عن خطيبها راضي وهي تقول:
-عجيبٌ أمره يا خالتي، فأكثر ما يعجبه فيّ إضافة إلى ثقافتي وفكري.. أنفي الطويل!:) :) :)
رحيل5 سابقا @rhyl5_sabka
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
رحيل5 سابقا :نسيت اقول انه منقوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووولنسيت اقول انه منقوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووول
موضوع رائع..!!:)
شكراً على النقل..
شكراً على النقل..
الصفحة الأخيرة
منقوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووول