حاجة حماس إلى التواضع

الملتقى العام



خطاب حماس ومواقفها السياسية وإعلاناتها المتسرعة بعد حرب غزة تحتاج إلى مراجعة عميقة. هناك نوع من "الثمالة" الزائدة عن حدودها بنصر مُبالغ في توصيف مكوناته. ما حدث هو عدم تمكين إسرائيل من تحقيق كثير من أهدافها, وهذا نصف نصر للفلسطينيين ونصف هزيمة لإسرائيل.


صمود قطاع غزة والمقاومين, وفي مقدمتهم حماس, ولفترة جاوزت الأسابيع الثلاثة هو حقيقة لا يماري فيها أحد وتستحق التقدير بلا مواربة. الجيش الإسرائيلي الذي حطم جيوش عربية في ستة أيام وإحتل سيناء بكاملها والجولان بكاملها والضفة الغربية بكاملها, لم يستطع أن يحقق أهدافه العسكرية في قطاع غزة ويحطم مقاومتها. حماس انتزعت شرعية إضافية, فلسطينية, وإقليمية, وعالمية, كنتيجة لتلك الحرب وهذه أيضا حقيقة سياسية لا يُماري فيها من يريد أن يرى الحقائق من دون مناظير أيديولوجية.

لكن سياسة وخطاب حماس بعد الحرب لا تطمئن, وتقديراتها للوضع الفلسطيني والإقليمي والدولي غير دقيقة وفيها مقادير خطيرة من تفكير التمنيات.

هناك أولاً نبرة الخطابة العالية في توصيف "النصر" والمباهاة به والاحتفالات التي لم تراعي حساسية الأكلاف الفلسطينية الباهظة وألوف الشهداء والجرحى والمعاقين الذين خلفتهم الحرب. ربما ليس هناك بيت أو عائلة فلسطينية في قطاع غزة إلا ولحق بها جزء ولو يسير من بطش الوحشية الإسرائيلية, من قريب أو بعيد. وما زالت آلام هؤلاء جميعا طرية ودموعهم ساخنة, وأجدى بأن تكفكف وتحتضن عوض عن تحقن بشعارات الخطباء الذين يرددون بلا إنقطاع بأن تحرير الأوطان يمر بالتضحيات الجسام, في نبرة بعضها إتهام للذين ضحوا أنفسهم وكابدوا وفقدوا أعزاءهم ولا يُراد لهم أن يعبروا حتى عن جراحاتهم.

ما يحتاجه هؤلاء هو تضميد الجراح والتأكيد على هول خساراتهم, وليس التخفيف من هولها, والتضامن مع كل قطرة دم بريئة سالت, وليس إظهار عدم الاهتمام بشلالات الدماء!

على حماس وكل فصائل المقاومة وغير المقاومة أن تصوغ خطابا وسياسة تعتبر أهمية كل فلسطيني لا تقل قيد أنملة عن أهمية جلعاد شاليط, الأسير الإسرائيلي بيد المقاومة والذي تخوض دولته حروبا وتطلق صراعات من أجل تحريره.

وهناك ثانياً مسألة حفظ المسافات السياسية المتساوية إزاء الأطراف العربية والإقليمية بدقة وحساسية, خاصة إيران. تثير علاقة حماس مع إيران بطبيعة الحال حساسيات عربية معروفة, ولا تحتاج إلى إعادة شرح وتشريح. وسواء إعتبارا لتلك الحساسيات أو بطرحها جانباً فإن الإعلانات المتواصلة في إهداء النصر ل "ولي أمر المسلمين" لا معنى لها, وليست من السياسة في شيء, وتفتقد إلى الحد الأدنى من الحصافة السياسية. إن كان هناك "ولي أمر للمسلمين" في هذه الأيام فيجب أن يُحال إلى المحاكمة لسكوته على إحتلال فلسطين لهذه العقود الطويلة من السنين, ولعدم تسييره الجيوش لتحريرها. يُقال هذا مع ضرورة الإشارة هنا إلى خطأ العرب في التعامل مع حماس, وهو ما فاقم من اندفاع حماس إلى المربع الإيراني.
فالسياسات الحكومية العربية بعد الحادي عشر من سبتمبر حكمها الإرتباك الشديد والخوف من الاقتراب من أي من الحركات الإسلامية في البلدان العربية, مما ولد فراغاً سياسياً في علاقات هذه الحركات. بموازاة ذلك تصاعد الخطاب الأمريكي في إستعدائه لإيران وتنصيبها على رأس "محور الشر" والتوعد بإستهدافها, دافعاً إياها إلى المزيد من التطرف ومحاولة كسب أكثر ما يمكن من أوراق إقليمية, بما في ذلك حماس والبعد الفلسطيني الذي تتيحه, لتساعدها على المواجهة من الولايات المتحدة.

لكن خمول السياسة العربية إزاء حماس استمر وتواصل حتى بعد أن فازت في الانتخابات الفلسطينية في أوائل 2006 حيث سارع العرب في الإندراج في سياسة الحصار وطبقوها بأمانة. في ذلك الوقت فتحت إيران بواباتها لحماس على مصاريعها. وفي لحظة الحصار المطبقة كان من الطبيعي أن تدلف حماس إلى الباب المفتوح, أما بقية الأبواب المغلقة والتي تصايح أصحابها من خلفها لائمين حماس على التوجه إلى إيران فإنها كانت تفترض أن السياسة تشتغل بحسب قوانين خيالية لا واقعية. بإختصار حماس دُفعت إلى الحضن الإيراني بسبب قصر نظر الساسة العرب والحكومات العربية هي التي ساهمت في حصار حماس بدل أن تفتح العلاقات معها. وسحب حماس مرة أخرى إلى الحضن العربي لا يتأتى بمواصلة شتمها وإتهامها بأنها إيرانية الولاء, بل بفتح مساحات تسيس عربي أمامها.

وهناك ثالثاً, وهو الأهم, الطرح السياسي "الحماسي" في اللحظة الحالية والمستقبل القريب. نتائج ما بعد الحرب وصمود قطاع غزة أكدا رسالة مدوية للعالم وهي إستمرارية مركزية القضية الفلسطينية وإلحاحها, ليس فقط إقليميا بل ودوليا أيضا. وهذا التأكيد قوض التفكير الذي أريد له أن يسود خلال السنوات الثماني الماضية والذي خفض من مركزية الاحتلال الإسرائيلي الإقليمية ونضال الفلسطينيين لإنتزاع حقوقهم الوطنية, وأعتبر ذلك مجرد قضية من القضايا وليس القضية الأساسية. أشتغلت إدارة جورج بوش بحماس على هذا التخفيض مستندة إلى تنظيرات لا تنتهي من قبل عتاة المحافظين الجدد. وكانت حرب العراق, وحرب أ فغانستان, ثم تلاحق ملفات لبنان, وإيران, والصومال قد أستخدمت كلها لتقول إن "البعد الفلسطيني في أزمات الشرق الأوسط" ليس إلا وجها لتلك الأزمات وليس الأهم فيها". الانجاز الأهم لما حدث في غزة هو إعادة ترتيب الأولويات, وإن كان ثمة نصر فهذا هو. لكن هذا يحتاج إلى استثمار على مستوى وطني وعربي وبالتالي يستدعي مناقشة طرح حماس السياسي بعد الحرب.
لحد الآن ما يستشفه المرء من خطاب حماس المتولد عن الحرب هو الرغبة الجارفة في استثمار تلك النتيجة أو غيرها لحصد أرباح حزبية على صعيد تكريس وجود الحركة, أكثر من تلمس رغبة للاستثمار على المستوى الوطني. يتلخص هذا في الإعلان عن الرغبة في "إقامة مرجعية فلسطينية جديدة", سواء عامة أو خاصة بالمقاومة.

هذا الإعلان يفتح معركة جانبية مدهشة وسوف يستنزف الجهد والوقت ويكرس الإنقسام. طبعا من حق حماس أن تفكر بما يمكن أن تحققه كحزب, وبما يمكن أن يقويها, وليس علينا إفتراض مثالية غير موجودة في السياسة أصلا.

لكن في نفس الوقت من حق الفلسطينيين أن يحاسبوا حماس على طرحها الحالي على المستوى العام وفيما إن كان يستثمر أو يضيع فرص ما بعد الحرب, خاصة وأنهم هم الذين دفعوا ثمناً باهظاً وغالياً فيها. وبشكل أكثر تحديداً يجب على حماس أن تطرح برنامجاً سياسياً وعلى مستوى وطني, وليس حزبي أو فصائلي, يأخذ بالإعتبار اولوية الوحدة الوطنية التي تحطمها أية دعوات لمرجعيات جديدة, ويأخذ بالاعتبار الإنزياح الهائل نحو اليمين في المجتمع الإسرائيلي, ويأخذ بالإعتبار قدوم أوباما, وعلى الأغلب قدوم نتنياهو, وللحديث بقيات.


خالد الحروب
5
420

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

كـويتيه قمر
كـويتيه قمر
صادق والله

كاتب منصف بصراحه ونقده بنّاء
ام روز
ام روز
ااااااااااااااااااااب
قمر فوشي
قمر فوشي
روعه
متفائله في زمن الياس
الله يعينهم ويكون معهم
دندونه لودي
دندونه لودي
شكرا لكم