حبة دواء

حبة دواء

في ليلة صقيعية باردة..
هبت الرياح بقوة، لتهديه زمهريرا قارساً
تسلل إليه من ثنايا نافذة مهترئة..
لا يعنيه هبوبها القاسي،فقد
تحامل على قواه الضعيفة ..
وتكور داخل بطانية ،ألفته جسداً ،لبس ثياب البرد،
منذ نعومة أظفاره.
*********
لبس الليل ثوبه الأسود الصابغ،فارتدى
معطفا غير مألوف ،
واضعا نظارة طبية سميكة على عينيه...
يقرع باباً متهالكاً قرعة قوية تلتها دقات خفيفة.
_ عمو أبو عزيز افتح الباب ،عمو أبو عزيز .
_ نعم ياولدي...
قالها ..ثم قفل أدراجه متخفيا
بعد أن وضع نقودا ودواء وشيئاً من طعام،
هذادأبه آخر كل شهر منذ سنوات ...
فتح العجوز بابه وتباشير الفرح تعلو محياه ..
فرزقه ساقه الله إليه
عبر غريب لا يعرفه،يبد أنه ليس غنيا بل هو للفقر أقرب ...!
فنقوده كلها معدنية بينها ورقة أو اثنتان مطوية بحرص
*****
اختنق فجأة كعادته في نومه ..
فأسرج فانوسه ليضيء عتمة بيت خالٍ
إلا من ربطة هدية الغريب الثمينة
كم تمنى لقياه...!
فتح الربطة واخذ منها حبة دواء بعد أن ظل يبحث عنها لبرهة من الزمن ..
ثم افترش سجادته يناجي ربه ..يسأله الشفاء
*********
ومع آذان الفجر الأول لبس ثوبه الرث
متكئا على عصاه وانطلق إلى المسجد بخطوات متعبة،بث لربه شجونه وأحزانه .
**
وبعد صلاة الفجر وتلاوة القرآن
عاد إلى بيته وخيوط الشمس الذهبية تحيي الصباح
وهو يجر خطاه الواهنة مستنداً على عصاه ..
**
رغم فقره المدقع ،و صحتة المتعبة،
ظل العجوز عزيز النفس من الذين يحسبهم الجاهل أغنياء
من التعفف،رغم حالة الحرب في بلاده التي أثرت على حالة العجوز سلبا،فلم تعد النقود تشبع جوعته،لكنها أبقت له عزته ومهابته ..
*********
ترقب مجيء الغريب المحسن كعادته ..
لكنه لم يأت ...!
مر يوم ..يومان .. أسبوع تلاه آخر ...
ونفذ كل مالديه حتى حبات دواءه لم يبق من أثرها الا علبة فراغة مركونة
في زاوية غرفته .
كان يعلم مضاعفات عدم تناول العلاج .......
ثم جثى على ركبتيه باكياً بين يدي ربه (ربي إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين)
لم تبكه أمعاء بطنه الخاوية،
ولكن خوفه من مجهول يترصد صحته المهدودة أنهك جلده وتحمله ..!
********
تناول خنجراً ورثه عن أبيه كان يعتز به كذكرى غالية
وتحامل بقدمين متعبتين إلى الصيدلي .
ـ بكم هذا الخنجر ؟
لم يحب الصيدلي أن يجرحه ...
- ليس ثمينا و لكني سأشتريه منك لحاجتي إليه.
ابتسم العجوز ثم أخرج وصفة الطبيب
_أريد بدلا من النقود هذا الدواء
_نظر الصيدلي إليه محدقا ،يا إلهي هذا العلاج غال جدا .
حزن العجوز حين سمع كلام الصيدلي وهم بالانصراف.
_ عمي هل تتناوله ؟
_صمت لبرهة من الزمن ثم تلفظ بكلمة يتيمة (نعم)
_ علم الصيدلي حينها أن صديقه المقرب الذي كان يشتري هذا الدواء كل شهر ليس لوالده
كما كان يزعم ،وإنما هو للعجوز المعدم.
**
لم ينبس الصيدلي بكلمة عن الحقيقة ..
رحمك الله يا صديقي رحلت عنا دون كلمة وداع ..!
اغتالتك أيادي الشر في صراع الحق مع الباطل
لكنك غرست خيرا ستجني ثمره يوم القيامة ...
ثم أخذ الوصفة وناوله علبة الدواء ..
ليكمل مابدأه صديقه
**




طيييييييييف