حب الوطن

الملتقى العام

بعد أسابيع حلوة أمضيتها في ربوع دمشق الفيحاء رجعت إلى جدة وأنا أحمل في خلايا جسدي مخروناً غير قليل من شذا النسيم الشامي العليل!. فقد أقبل الربيع أثناء وجودي في دمشق, ورأيت أشجار الغوطتين الشرقية والغربية وقد إكتست حلة زاهية من الزهر المختلف ألوانه, وتنشقت الهواء المفعم بالأريج الفواح.. وقد صدق من قال: الشام جنة الله في أرضه.
ودمشق هي أقدم مدينة في العالم ما تزال مأهولة منذ إنشائها وحتى الوقت الحاضر, وسوف تبقى كذلك إلى قيام الساعة إن شا الله تعالى, فقد ورد في الحديث النبوي الشريف ((عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يوم الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض يقال لها الغوطة, فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ)) رواه أبو داوود, وقال الألباني إنه صحيح.. والملحمة الكبرى هي في آخر الزمن لقوله عليه الصلاة والسلام ((عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الملحمة الكبرى وخروج الدجال في سبعة أشهر)) رواه الترمذي, وقال الألباني إنه ضعيف.
ومن دمشق حكمت الخلافة الأموية معظم العالم المعروف وقتئذ حوالي تسعين سنة (من 661 م إلى 750 م)
وفي دمشق قبر النبي يحيى, وقبور بلال بن رباح ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما, وقبر أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان, وقبر زينب بنت علي, ومقام الحسين بن علي, رضي الله عنهم أجمعين, وقبور صلاح الدين وإبن كثير وإبن تيمية وإبن القيم وغيرهم رحمهم الله.
وفي دمشق الجامع الأموي الكبير الذي أنشأه الوليد بن عبد الملك في أواخر القرن الأول الهجري.. وفيه قبر يحيى ومقام الحسين.
ويحد دمشق من الشمال جبل قاسيون, ويقال إن فيه الكهف الذي أوى إليه الفتية المؤمنون, والله أعلم.
وقد فتح المسلمون دمشق في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه, بعد أن حاصروها من جميع جهات السور المحيط بها.. وكان جيش خالد بن الوليد في شرق دمشق عند الباب الشرقي, وكان جيش أبي عبيدة بن الجراح في جنوبها عند باب الجابية.. وقد فتح خالد المدينة عنوة, وفتحها أبو عبيدة صلحاً في نفس الوقت.. ولا يزال البابان المذكوران موجودين حتى الآن على حالهما, بالإضافة إلى أبواب دمشق الخمسة الأخرى, وجزء من سورها القديم.
أنا لا أسأم من التحدث عن مدينتي الغالية دمشق, وعذري أنني أعشقها كما كان يعشق قيس ليلاه, بل أشد عشقاً!. ففيها ولدت, وفيها عشت طفولتي وصباي, وفيها درست من المرحلة الإبتدائية إلى الجامعة, ولم أغادرها أبداً حتى إنتقلت مع أهلي إلى جدة.
وحب كل إنسان لوطنه أمر طبيعي, ولو كان في قلب صحراء قاحلة.. وقصة المرأة الأعرابية التي تزوجها معاوية, ونقلها من خيمتها في البادية إلى قصره في دمشق معروفة, إذ قالت تلك المرأة:
لَبيتٌ تعصفُ الأرياح فيهِ (أي خيمتها) ... أحبُ إلي من قصرٍ منيفِ (أي قصر معاوية). والأرياح جمع الريح.
ويظل الإنسان يحب وطنه – ومدينته بشكل خاص – حتى لو ولد وعاش بعيداً عنها ولم يزرها أبداً!. وكانت لي في الجامعة رفيقة فلسطينية نزح جدها من حيفا إلى دمشق عام ثمانية وأربعين من القرن الماضي مع زوجته الحامل.. ورزقهما الله ولداً ذكراً تزوج لما كبر بفتاة سورية أنجبت بنتاً هي رفيقتي التي أتكلم عنها!. وقد قالت لي ذات مرة: أنا بحب الشام كتير, لاكن حبي لحيفا أكبر, رغم إني ما بعرف عنها شي إلا موقعها على خريطة فلسطين!
والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم لما غادر مكة المكرمة مهاجراً وقف وخاطبها بقوله ((أما والله إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي, ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت)) رواه أحمد.
وفي المدينة المنورة إستوحش المهاجرون من الغربة في باديء الأمر, وحنوا إلى موطنهم مكة المكرمة.. وكان بلال الحبشي ينشد متشوقاً إلى مكة:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً ... بوادٍ وحولي إذخر وجليلُ
يقصد بالوادي مكة, والإذخر من نباتاتها.. ولا أدري ما هو الجليل, ومن كان يعرف فليتكرم بإفادتنا.
فدعا رسول الله عليه الصلاة والسلام ((اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد)) رواه البخاري.
والقول الشائع (حب الوطن من الإيمان) يتداوله الناس على أنه حديث شريف, وقد قال الصغاني إنه موضوع، ولكن معناه صحيح.
وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ((مَنْ أَصْبَح مِنْكُمْ مُعَافىً فِي جَسَدِهِ، آمِنَاً فِي سِربهِِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ, فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)) رواه إبن ماجة.. والمقصود بسربه أهله وبلده.. وحيزت له الدنيا أي جُمعت له بحذافيرها كما جاء في رواية أخرى.
وينبغي أن يذكرنا هذا الحديث الشريف بإخوة وأخوات لنا في غزة, لا يجد أحد منهم الأمن في سربه!. بل إن كثيراً منهم يُسحبون قسراً من داخل بيوتهم إلى الشوارع, ثم يقوم الجيش الإسرائيلي بهدمها فوق أمتعتهم!. كذلك فإن عدداً كبيراً من إخواننا في غزة قد أصابتهم الجراح, وفقدوا العافية في أجسادهم!. أما قوت اليوم فلا أظن أنه يتوفر لجميع الفلسطينيين في هذا الظرف العصيب!. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثلاثمئة مليون عربي يقفون مغلولي الأيدي, وهم يرون ثلاثة ملايين يهودي يرتكبون أبشع الفظائع في فلسطين ضد المدنيين الأبرياء!. والحكام ظلوا مختلفين وقتاً طويلاً على زمان ومكان القمة العربية, غير عابئين بالأحداث الجسام التي تجري من حولهم في فلسطين والعراق!. بينما قادة أوربا رأيناهم كيف بادروا إلى إجتماع عاجل, لبحث قضية جنون البقر, عندما ظهر في بعض دولهم!. ولم يتخلف أحد منهم عن الإجتماع!
هل وصل بنا الحال إلى أن يكون البقر عند زعماء الغرب أهم من الإنسان عند زعماء العالم العربي؟!
لو كان بين الحكام من عنده بعض نخوة المعتصم, لكنت ناديته: وافلاناه!. ولكني أكتفي - وأنا يعتصرني الخجل من كوني عربية - بأن أصرخ: وامذلتاه!

أنا آسفة!. فقد خرجت مضطرةً عن موضوع حب الوطن!
0
394

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️