تَوْطِئَة ~
سارت بنا الأيام بعد ( حديث القلب )
مساراً آخر .. نأى بنا عن ( حديث العقل )..
الذي رسمنا ظلال أبجدياته في وعد القلم القريب
ولكن الفصول شحبت في عقم الانتظار ..
فتراخت أصابع القلم .. وهمد شوق الروح ..
أخيراً.... في إفاقة .. قبل زوال الرحيق
انثنينا في محاولة لإنعاش المعاني ..
وإضاءة العبارة ليكمل نهر الإيقاع جريانه ..
ويكتب ماتيسر من ( حديث العقل ) ..
في هذا البحث المتنقل بين محاني القلم ..
وأبجدية العربية ... وأريج الإسلام ..
مختلساً زهرة فلسفة صغيرة .. ليضمها إلى الباقة ..!
اسْتِهْلالْ~
هو الطاقة المفجرة ...
تتفتق منها ديناميكية الحياة ...
لايلمس ... ولكن يعرف بآثاره ...
هو الشخصية التي تحمل التفكير والجدل ..
هو المؤرشف لماضينا .. المدون لحاضرنا ...
المنفعل وجدانياً بنا ... ولنا ..
هو عرش مملكة التفكير والإبداع ...
هو نحن .. الإنسان .. ميزتنا .. وهويتنا ..
خياراتنا .. وإرادتنا ...
هو جوهر الإنسانية ..
ومركز التكليف .. ومناط التشريف ..
هو العقل ...!
فأيما شأن من وظائف الحياة ليس للعقل فيه حضور ...
لاقيمة له ..
وجوهر وظيفته يكمن في التعمق في الأشياء المعلومة الموجودة
لاستخراج المجهولة المفقودة،
وتحليل الظواهر... لسبر المخابر،
فهو يقف بعمله على حقائق الأشياء التي بها عمارة الأرض،
وبه استحق الإنسان خلافة الأرض ..
لذلك كانت الأيات القرآنية متوجهة بالخطاب دائماً
لأولي الألباب ..
خاصة تلك التي تدعو إلى التأمل والتفكر في آيات الكون :
( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ)..
وماقامت نهضة قط في الأمم إلا بأكمل الناس عقولاً !.
بصمة شاعر ~ قولٌ شهير للمتنبي:
( ذو العقلِ يشقى في النّعيم بعقلِه ..
وأخو الجهالةِ في الشقاوةِ ينعمُ ).
معاني العقل في اللغة العربية :
هي أسماء عديدة تلك التي يُعنى بها العقل.. ومنها :
اللُبّ , و الحِجَا , و الحِجْر , والنُّهَى .
فتعالين لنتعرف على معنى كل مسمى منها :
العقل : سمّي (عقلاً)لأنه يعقل صاحبه عن ركوب الشهوات ،
وإتيان المكاره والمضار. يقال : عقل الناقة أي ربطها ..
و سمّي (لبـًّا) لأنه صَفوة الروح ولبُـابه،
وخالص مافي الإنسان من معانيه .
هو العقل الخالي من الشوائب كاللباب واللب من الشيء،
وقيل: هو ما زكى من العقل، فكل لبّ عقل، وليس كل عقل لبا،
ولهذا علق الله تعالى الأحكام
التي لا يدركها إلا العقول الزكية بأولي الألباب
نحو قوله تعالى :
(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ) .
أما معنى (الحِجَـا) فلإصابة الحجّة به
والاستظهار على جميع المعاني بصحته
ومنه يقال : حَاجَّيتُهُ فَحَجَجْتُهُ :
إذا نَاظرته فأبكمته .
يقول الله تعالى في آية المباهلة في سورة عمران :
( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ
ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ).
وسمّي(حِجْرًا) لأنه يَحجر عن ركوب المناهي ،
و منه يقال : حجرَالحاكم على فلان أي منعه ،
والإنسان إذا كان ضابطًا لنفسه ,
رابطًـا ِلجأشه يقال : ذو حجر .
يقول الله تعالى في سورة الفجر :
( إنّ في ذلك قسمٌ لذي حجر ).
كما أنه سمي ( النهى ):
لأنه ينتهي إليه الذكاء و المعرفة و النظر ،
هو نهاية ما يمنح العبد من الخير
المؤدي إلى صلاح الدنيا والآخرة ..
يقول الله تعالى
( إن في ذلك لآياتٍ لأولي النهى )
إذن الخطاب القرآني يتوجه دائماً إلى العقل ..
تلك الهبة الإلهية التي اختص الله تعالى للإنسان ،
وعلمه مالم يعلم ..
بصمة حكمة ~ للإمام علي كرم الله وجهه :
( إذا تم العقل نقص الكلام ).
( إن القلوب تمل كما تمل الأبدان فاهدوا إليها طرائف الحكمة ).
الفلسفة والعقل ~
في جولة سريعة مختصرة نعرج بكن إلى ديار الفلسفة
وندخل إلى ( الموسوعة الحرة )
لنقرأ عن مايسمى بفلسفة العقل ..
( فلسفة العقل )~ هي أحد فروع الفلسفة التي تهتم بدراسة طبيعة العقل ،
وهي أكثر المشكلات تعقيداً التي يواجهها الإنسان ...
فقضية ( العقل جسد ) هي مسألة تبحث في العلاقة
بين العقل والحالة الجسدية،
و كثيرًا ما تعتبر القضية الأساسية في فلسفة العقل،
ولكن هناك أيضًا قضايا أخرى تهتم بطبيعة العقل
مجردة من أي علاقة بالجسم:
كالإدراك وطبيعة بعض الحالات الذهنية الأخرى.
وتشير هذه الفلسفة إلى أن العقل هو المحلل للأحداث ..
والذي تجري فيه عملية : التحليل المجرد.. والتحليل المتسلسل
وعلى ذلك يمكن اعتبار فلسفة العقل :
( هي طريقة التفكير والحوار المبني على أسس منطقية وبيانية (فلسفية)).
بصمة حكيم :
( كفاك من عقلك ما دلك على سبيل رشدك ).
( كل شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه إذا كثر غلا ).
بصمة عالم ~
( ركب الله الملائكة من عقل بلا شهوة،
وركب البهائم من شهوة بلا عقل،
وركب ابن آدم من كليهما؛
فمن غلب عقله على شهوته فهو خير من الملائكة،
ومن غلبت شهوته على عقله فهو شر من البهائم).
والسؤال المطروح في البحث :
أين موقع العقل في كيان الإنسان ؟
ترى طائفة من العلماء قديما وحديثا بأن محل العقل هو القلب
كالقرطبي والشوكاني، والرازي وابن تيمية، والأمين الشنقيطي والألباني،
وابن عثيمين والحويني. واستدلوا على ذلك بآيات من الكتاب
( أفلم يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا
أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ
وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
إذن العقل في القلب، والقلب في الصدر فكان العقل في القلب.
وقال البعض الآخر : بل العقل في الدماغ ؛
لأن الإنسان إذا اختل دماغه اختل تصرفه.
ولأننا نشاهد في الزمن الأخير الرجل يزال قلبه
ويزرع له قلب جديد ونجد عقله وتفكيره لا يختلف عما كان عليه
وقد نجد إنسانا يزرع له قلب شخص مجنون لا يحسن يتصرف،
ويبقى هذا الذي زرع فيه القلب عاقلا فكيف يكون العقل في القلب؟
إذًا العقل في الدماغ لأنه إذا اختل الدماغ اختل العقل.
والجواب ... استناداً إلى أقوال أئمة المسلمين :
إن العقل في القلب والقلب في الصدر ..
ولا يمكن أن نحيد عما قال الله تعالى وهو الخالق
وهو أعلم بمخلوقه من غيره
( ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
لكن الدماغ يستقبل ويتصور ثم يرسل هذا التصور إلى القلب لينظر أوامره،
ثم ترجع الأوامر من القلب إلى الدماغ ثم ينفذ الدماغ.
إذن الدماغ بمنزلة السكرتير ينظم المعاملات ويرتبها
ويقبل الأشياء ويتصورها
ثم يرسل النتيجة إلى القلب،
إلى المسؤول الذي فوقه. هذا القلب يوقع على الأمر ..
إما بالتنفيذ .. وإما بالمنع .. وحينها يأمر الدماغ الأعصاب فتنفذ ..
وهذا ماأشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه ..
فبين هناك فرقاً بين :
الفكر والنظر ... وذكر أن محلها الدماغ
وبين الإرادة والاختيار ، و محلها القلب فهو الذي يختار مايريد
وهذا مصداق لقول الرسول عليه الصلاة والسلام:
( إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله
وإذا فسدت فسد الجسد كله .. ألا وهي القلب ).
وهو القول الذي تطمئن إليه النفس وهو الموافق للواقع.
بصمة حكيم ~
قال بعض الحكماء:
( إذا غلب العقل الهوى، صرف المساويء إلى المحاسن،
فجعل البلادة حلما، والحدة ذكاء، والمكر فطنة،
والهذر بلاغة، والعي صمتا، والعقوبة أدبا،
والجبن حذرا، والإسراف جودا).
توضيح الشرع :
سئلت اللجنة الدائمة عن التوفيق بين قول الله عز وجل:
( أفلم يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا
أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ
وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
وبين قوله سبحانه
( هذا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ
وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ).
باعتبار أن الآية الأولى تدل على أن القلوب هي التي تعقل،
وأن الآية الثانية خصت أولي الألباب بالذكرى.
فكان الجواب :
لا تنافي بين الآيتين ..
لأن العقل مصدره القلب وله اتصال بالدماغ
كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم،
والعقل الصريح لا يتعارض مع النقل الصحيح،
فإن تعارضا ففي أحدهما خللا.
ثم ما كل ما جاء في النصوص يدركه العقل،
فالواجب تقديم النقل؛ لأن النقل معصوم،
والعقل ناقص وغير معصوم.
بصمة شاعر حكيم :
( ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ...
ويكدي الفتى من دهره وهو عالم
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا ...
هلكن إذن من جهلهن البهائم ).
تعريف العقل عند علماء المسلمين :
- العالم المسلم الحارث المحاسبي.. ألَّف كتابًا سماه:
( مائية العقل ومعناه واختلاف الناس فيه)
يبين أن للعقل عند العلماء ثلاثةَ معانٍ:
أولها: أن العقل غريزة )
فهو لا يعرف إلا بفعاله في القلب والجوارح،
لا يقدر أحدٌ أن يصفَه في نفسه ولا في غيره بغير أفعاله ..
واعتبر العقل (نور الغريزة ) ، يزيد مع التجارب ، ويقوى بالعلم والحلم .
ثانيها : أن العقل فهم )
لأن ما فهمته فقد قيدته بعقلك وضبطته كما البعير قد عُقل .
ثالثها: ( أن العقل بصيرة )
والبصيرة ظاهرة عقلية ، وهي فهم حقائق معاني البيان،
وتحصل بعد العقل عن الله تعالى ،وبعد أن تعظُم معرفته
بعظيم قُدْرة الله وبقدر نعمِه وإحسانه.
- أما العالم قدامة بن جعفر قال:
(العقل قسمان: موهوب ومكسوب، فالموهوب خلقه الله،
والمكسوب ما يستفاد من التجربة والعِبَر والأدب والنظر).
وقد شبَّه بعض القدماء العقل الغريزي بالبدن،
وشبَّه المكتسب بالغذاء"ويُظهِر هذا القولُ أن قدامة متأثر بقول المحاسبي
بأن العقل نور الغريزة يزيد ويقوى بالعلم.
وهذا أيضاً رأي الإمام أحمد بن حنبل والغزالي ومعظم السلف .
- الإمام أبو حامد الغزالي:
قال في كتابه إحياء علوم الدين: إن العقل يطلق على أربعة معانٍ:
فالأول: الوصف الذي يُفارِق الإنسان به سائرَ البهائم،
وهو الذي استعدَّ به لقَبول العلوم النظرية، وتدبير الصناعات الخفية الفكرية.
الثاني: هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل
المميِّز بجواز الجائزات، كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد.
الثالث: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال، فإن حنَّكَتْه التجارب،
وهذَّبَتْه المذاهب يقال: إنه عاقل في العادة،
ومَن لا يتصف بهذه الصفة، فيقال إنه غبي غُمْر جاهل،
فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلاً.
الرابع: أن تنتهي قوَّة هذه الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور،
ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذَّة العاجلة ويقهرها،
فإذا حصلت هذه القوَّة سمِّي صاحبُها عاقلاً من حيث إقدامه وإحجامه،
بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب .
- وينقل ابن الجوزي في كتابيه: (الأذكياء)، و(ذم الهوى) ما قاله الغزالي،
ويضيف مبيِّنًا ماهية العقل:
( يعرف العقل بسكوتِه وسكونه ومراقبته للعواقب،
وليس العقل محسوسًا، وإنما يدل عليه ظاهرُ قول العاقل وعمله)
هذا وهنالك تعريفات آخر لعلماء شتى لكنا اكتفينا بهذه الخيارات ..
بصمة حكمة ~
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
( أصل الرجل عقله، وحسبه دينه، ومروءته خلقه ).
عزيزتي ~
في ختام هذه المحاولة لجمع أطراف بحثنا المتواضع ..
نحمد الله على نعمة العقل
تلك المكرمة الإلهية
التي خصّ الله بها المخلوق الإنساني ..
وعلمه بها ماعجزت الملائكة عن علمه
فلنشكر الله المعطي المانح
ولنحسن تعاطي هذه الهبة...
بأن نوجهها للبناء وننميها في الخير
لنحقق الغاية التي من أجلها خلقنا ..
العقل نعمة ..
فإن أحسن المرء توظيفها في مايرضي الله
كانت له ..
وإن أساء استعمالها ..
كانت وبالاً عليه .
( نُهْيَة ) بصمة شاعر ~
قال ابن دريد:
وأفضل قسم الله للمرء عقله
فليس من الخيرات شيء يقاربهُ
فزين الفتى في الناس صحة عقله ...
وإن كان محظوراً عليه مكاسبهُ
ويزري به في الناس قلة عقله ...
وإن كرُمتْ أعراقه ومناسبهُ
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله ...
فقد كملت أخلاقه ومآربهُ.
المراجع :
صيد الفوائد /. الموسوعة الحرة
فتاوي اسلام / كتاب احياء علوم الدين
وأخرى ...
