آذريونة

آذريونة @athryon_1

عضوة جديدة

حِـــــــــــكَايَةُ صَمْت ...

الأدب النبطي والفصيح

كانت ورقةً صغيرة ملصقة في
الصفحةِ الأولى من دفتري,
بدَّلتْ كل شيء..
،
،


وصيّةٌ من قلبٍ خرمَهُ الصَّمْت! :

( أبي..
حين يغطِّيني التراب يوماً ما،
حتماً.. سيحملك الحنين إليّ،
وسيناديك طيفي لتدخل غرفتي،
وتفتح درج مكتبي..
عندها فقط.. سيصرخ ألمي في وجهك قائلاً : "أنتَ السبب".)

* * *

منذ زمنٍ لم أكَدْ أسمع صوتي، وملامح نبرتي باتتْ تحتضر.
كأنهم يتفقون على إهالةِ التراب عليّ لأصمت إلى الأبد؛ حتّى البكاء تحالف معهم, وألجم صرخاتي, فليس ثمة دليل على توجّعي سوى دموع تُسحُ بغزارة.

غادرتُ الظلمات الثلاث, وكأي مولود بدأتُ حياتي بصرخة.
بالتأكيد.. هرعنَ الممرضاتُ نحوي, أسكتْنَنِي, كأنَّهنَّ يستكثرنَ صرخةً أظُنّني كنتُ أعبِّر بها عن دهشةِ جنينٍ لم يكن يعرف سوى سرمدية رحِم. في كل مرة أبكي فيها كانت أمي تلقمني ثديها كي لا أقضَّ مضجع أبي. كبرتُ قليلاً، تعلمتُ النطق، فرحتُ حين اكتشفتُ شيئاً أستطيع التعبير به عن ذاتي،، لكن سرعان ما انطفأ فتيل فرحي؛ فأوامر الصمت لا تفتُر تلاحقني..
الصراخ بكل أنواعه - حتى البريء منه - مؤذٍ لجماجمهم، والكلام في حضرة الكبار يُعدُّ مِن قلة الأدب, لذا كان علي ألاَّ أتكلم إلا بأمر.
عندما التحقت بالمدرسة ... لم تتسع الدنيا لسعادتي ... كنتُ سأنطلق, سألهو, سأصرخ, سألعب, وأحرر الطفل بي...
في المدرسة عليَّ أن ألتزم الصمت أيضاً وإلا سأُعاقب. أساتذتي لا يمنحونني فرصة لنقاشهم فيما أظنه همَّاً يؤرقني، ويجزمون بأنه هراء لا أسلم بسببه من عبارة توبيخ أو نظرة ازدراء يسحلون بها بقايا شخصيتي. بعضهم لا يلقي لي بالاً ... وآخرون يصمونني بالتطاول. حتى حين أهمس أو أفتح فمي لأتثاءب يظنون بأني سأنطق بالذي يكرهون فيرمقونني بإشارة صرتُ أفهم معناها التي تأمرني بالصمت! كنتُ أخاف أن أبثَّ لمديرهم شكواي, فلربما أدى الأمر إلى استدعاء والدي ولن أسلم من عقابه حينها.
أركبُ إلى جوار والدي، وفي الطريق من المدرسة إلى المنزل كنت أتمنى أن يسألني عن يومي الدراسي الذي انقضى, لكنه لا يفعل, وإذا حصل وبدرتُه بالحديثِ سرعان ما يتهمني بالثرثرة, ويأمرني بالصمت لأن الصداع ينخر رأسه كما يقول، وبالكاد يحتمل همّ العمل!
أصمت.. وبداخلي أنين.
فور وصولي إلى حجرتي أتمدد على سريري, أطلق دموعاً كانت مأسورةً في عيني, وكان سجانها... أبي!!

* * *

ذلك اليوم الذي انتظرت فيه والدي مستندا على سور المدرسة والشمس تتعامد فوقي لتحرقني بلهيبها لا يريد مغادرة ذاكرتي البتة. لا أدري حينها أنسيني أبي؟! أم أنه تناساني؟! الذي أعلمه أنه قد تركني لآلامٍ أخرى نهشتْ قلبي الصغير.
يدٌ لم أعتدْ على ملمسها الحاني فاجأتني وهي تربت على كتفي. أخرج من جيبه منديلاً ومسح به العرق عن جبيني. رفعت بصري بعدَ أن احتضنتْ روحي رائحته العبقة. جارنا "أبو محمد" الذي كثيرا ما رأيته يسامر أولاده ويتنزه بهم في الحدائق ومدن الألعاب يدثر يأسي بابتسامته الدافئة. يالها من مفارقة! كم تمنيت أن يبدر تصرف كهذا من أبي ...
- تعال معي سأوصلك إلى منزلك .. هكذا قال.
صمتُّ برهةً. ارتسمت في ذهني صورة أبي حين يغضب. خفتُ من أن يأتي ولا يجدني فأتعرض لعقابه الصارم، هو لن يغضب من عدم وجودي بقدر غضبه على ما سيهدره من وقتٍ وجهد من أجل لا شيئ. شكرته، وقلتُ له أخشى أن يقلق علي أبي حين يأتي ولا يجدني هنا. أردف قائلا:
- سأتصل على والدك وأستأذنه.. فقط أريد رقم هاتفه ...
أعطيته رقم الهاتف ... والدي أبدى موافقته وفرحه بما يُوفر عليه من تعب. ركبتُ سيارته. سألني ذات السؤال الذي كنتُ أتمنى سماعه من فم أبي. تفاجأتُ، تلعثمتُ، وارتبكتْ الحروف في فمي. شعرتُ بصعوبة في النطق. لم أعتد أن يُطلب مني قراءة تفاصيلي، فلم أهتدِ إلى إجابته كما أريد، قد يعذرني، وقد تحتويني عيونه المشفقة لو علم أنني محروم من الكلام ولم أعرف سوى الصمت الجبري. اكتفيت بقولي الحمد لله على كل حال.
شكرت ذاك الرجل الكريم. دلفت للمنزل. كالعادة وجدتُ الخادمة قد أعدت لي الغداء. غدائي أتناوله لوحدي في غرفتي. هي فقط بعض لقيمات تقيم الأود. تمددتُ على سريري. حاولتُ أن أعقد مقارنة بين الرجلين باءت بالفشل. بكيت كثيراً. احتضنتُ وسادتي، وغبتُ.

* * *

حياتي تتعمدُ السير بشكلٍ رتيب ممل وعلى وتيرة واحدة لا تحمل أي جديد؛ فأمي غارقة في حياة أخرى بعيدة عني، لا تهتم سوى بصديقاتها وباجتماعاتهنَّ التي لا يجدنَ ما يلُكنَه بين ألسنتهن من أحاديثٍ غير القيل والقال، ولا يصرفهنَّ عن ذلك سوى أخبار صرعات الموضة الحديثة، أو الركض خلف مراكز التجميل والنوادي الصحية، وأبي الفض الذي لم يحاول يوما أن يتقصى دواخلي، ويتعفف من أن يفض بكارة ألمي المحتقنة. هي فقط أوامر أتلقاها منه وعليَّ أن أنفذها بحذافيرها وإلا تعرضت للعقاب. حتى الأقران منعني من أن أختار منهم صديقاً أجد في نفسه مساحة لسماعي، كان يدَّعي خوفاً من أن يجرونني في هوة الإنحراف.
كنتُ أحسُّ دائماً باكتئاب شديد، أرغبُ في الصراخ، أحتاجُ البكاء، ولا أستطيع..
أريد أن أغرف كل الحزن من صدري وأسكبه جانبا - ولو لدقائق معدودة - فقط لأتنفس الهواء النقي.

* * *

كثيرة هي الأيام التي أستحضرُ فيها شبح الصمت لأحاوره، كنت دائما أسأله:
- لِمَ أنا بالذات من أوقعت الاختيار عليه لتدثره بردائك؟ هل لأني الجسد الوحيد الذي يناسبه مقاس الرداء الذي تنسجه؟! ..
قبل أن أسمع إجابته أصرخ في وجهه :
- أريد الفكاك منك، أود تمزيق هذا الرداء الذي ألصقته بي رغما عني .
فيأتيني صوته الواثق بصلف :
_ لن تستطيع .

* * *

مُسبقاً لم أكن أبد اهتماما بقلمي المهمل, ولم أكن أعلم أن بإمكاني أن أنفس به عما احتبس بداخلي, أمسكته, أخذت أتأمله, تحسست نتوءات جسده النحيل, رسمت به على يدي خطوطا وكلمات مبهمة, بات لون يدي أزرقاً. شعرت بشيءٍ من الراحة وأنا أضغط بالقلم على جلدي...
أحضرت ورقاً وبدأت أسكب كل وجعي. نزفت كثيراً. تراكمت أوراقي المكتظة بالدموع, وامتلأ بها درج مكتبي..

* * *
أصيب أبي بجلطة, أُدخل المستشفى, تخلَّى عنه الصخبُ لبضعة أيام. رافقته، استقبلتُ نفراً قليلاً أتوا لعيادته. حين يغطُّ في نومه أسامر دفتري، وأرشيه بقبلة على دفته كي أدون به شيئا من مذكراتي. المرض رقَّقَ قلب والدي قليلاً، جعله لينا عطوفا بعض الشيء..
ذاتَ مرّةٍ حان موعدُ الدواء، فطلبَ مني كأساً من الماء, انسكب قليل منهُ على فراشه, صرخ في وجهي "متى ستكبر؟! أنت لا تجيد شيئا" حينها تركت الغرفة وانطلقت مسرعاً وأنا أبكي, نعم بكيتُ ولم يهمني أن يرى الآخرون ضعف رجولتي, خرجت متجهاً إلى المنزل, أغلقت باب غرفتي وواصلتُ بكائي.
في الصباح أجبرتُ نفسي على الذهاب للمستشفى, وفي الممر المؤدي إلى حجرته, تذكرتُ دفتري الذي نسيتهُ بالأمس هناك.
كان بين يديه.. يتصفّحُ نزفَ جراحاتي فيه. يقلّب دفقَ الآلام. يضع أصابعه على أفواه البوح المتقرِّحة..
رفع بصرهُ نحوي حين تيقن من وقوفي المرتجف قبالته. تأمَّلني.. تبادر إلى ذهني أنه سيمطرني بتقريعاته التي يعتاد صبَّ لظاها على مسمعي. أشار إلي بيده لأقترب. تسمرتُ في مكاني. توالت إشاراته. اقتربتُ حتى لامس جسدي سريره. أمسك بيدي، مسح بكفه على رأسي، ضمَّني إلى صدره، احتضنني بدفء، قبَّلََني بحرارة .. وبكى.
10
875

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

kamilla Ahmed
kamilla Ahmed
الى اذريونه لقد نزلت دمعتي حقا...باخر القصه حين ظم الاب ابنه واحتظنه بدل ان يظربه
انها موثره حقا وهذه حقيقه موحوده عند بعظ الامهات والاباء ولاسوء من ذالك هو عدم اعطاء حريه الرائ في المدارس الشرقيه
وفقك الله لهذا الاختيار وننتظر المزيد منك
kamilla Ahmed
noodi
noodi
جزاك الله خير مؤثرة جداً وبالتوفيق للجميع في الاختبارات
آذريونة
آذريونة
\

/


أختي الجميلة kamilla Ahmed

أعتذر بصدق لأني أسقطتُ دموعكِ

لكن حتى أنا لم أستطع أن أمسك دمعتي وأنا أكتب

كحبات المطر جاءتني حروفك

شكراً بياضكِ

شكراً دموعك
أملاك غالي
أملاك غالي
رائعه

جميله

ومعبرة

تمنياتي لك بالتوفيق
آذريونة
آذريونة
\

/
أختي الجميلةnoodi

شكرا مرورك

هلال فضي أرسمه في سمائك

دمت بخير

وفقك الله وجميع المسلمين في الاختبارات

بالتوفيق والتفوق