تأملات في سورة المنافقون
مفهوم الجذر العربي (ن ف ق) في القرءان متعلّق بستر شيء و إخفاءه تعمدا و من معاني المنافقين في القرءان كل من أخفى قناعاته الحقيقية و سترها و أظهر عكسها و من معاني المنافقين في القرءان كل جماعة امتنعت من تقديم العون المالي و الإقتصادي لمستحقيه في المجتمع و تعمدت إخفاء دخلها و ستره بشتى الوسآئل، و عادة ما يربط الناس النفاق بالمتغير في رأيه المنقلب عن قناعاته الفاسق من عهوده، وربطهم هذا هو نتيجة للنفاق و ليس تدليلا على مفهومه العميق و ماهيته. فالممتنع من المشاركة في الإنفاق و التارك لواجباته الإجتماعية يجره موقفه هذا إلى تغيير قناعاته حسب الظروف، و هذا التغيير و التحويل هدفه دائما واحد و هو الحفاظ على الإمتيازات الإجتماعية و الحظوات المالية.
لنبدأ الأن في التدليل على ما قلناه سابقا و ذلك بعرض أقرب مشتقات الجذر (ن ف ق) في القرءان :
أنفق / أنفقت / أنفقوا / تنفقوا / تنفقون / ينفق / ينفقوا / ينفقون / أنفقوا
نافقوا
نفقة
نفقات
الإنفاق
نفقا
و كلهّا تدل على إخفاء المال و الثروة عن مستحقيه. و نرى بين هذه المشتقات لفظ "نَفَق" الذي قادنا إلى تحديد مفهوم الجذر (ن ف ق) المعبر عن مكان الإخفاء في باطن الأرض :
34. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ
35. وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ
36. إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
الأنعام
فأين المفر و أين سيختفي من يحمل رسالة و هي تسكنه في أعماقه، هل سيجد معراجا إلى السماء "سلّما في السماء" أو نفقا في الأرض ليفر من سماع المناوئين !!!! إنّها الرسالة و لأهميتها القصوى لجميع العالمين ، فليترك الرسول من يريد العواء ليمضي في التبليغ "إنّما يستجيب الذين يسمعون" و يوم الحساب سيتم وضوع كل واحد أمام بينات نفسه و عمله.
و نرى أنّ لفظ "نافق" أتى مرتين في القرءان بثوره "ا" المنتصب المثير للنون مشيرا إلى ظاهرة إخفاء القناعة الذاتية عن تعمد ووعي و إرادة التمييع و لنقرأ :
" وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ "
أل عمران:167
فهؤلاء مقتنعون بأنّ القتال سياتي لا محالة بل كل مؤشراته واضحة و مع ذلك يريدون بتصريحاتهم السلمية زرع البلبلة و التثبيط في المجتمع المقبل على المواجهة ، بكلامهم هذا ابتعدوا كثيرا عن مجتمع الذين ءامنوا ليعلنوا ولاءهم الحقيقي للذين كفروا و امتنعوا عن أي مشاركة فعّالة في الدفاع و مع ذلك يرفعون كل شعارات المقاومة و الدفاع "يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم" !!!!!! و نلاحظ في كلّ مرّة تلفظ المنافقين بغير قناعتهم الداخلية العميقة في القرءان و كأنّه خاصيتهم المميزة فلفظ نافق بثوره "ا" الممدود المنتصب يضع الحاجز و الحائط بين محتوى نونه سواء كان المحتوى قناعة أو مالا و بين ظهوره.
لنقرأ :
" أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ"
الحشر:11
الكذب مطيّة من يمنع العون عنك لغرض مبطن في نفسه و يؤملك الأماني حتّى إذا جدّ الجد وجدته على بعد السماء منك فحال من نافق حال من يجعلك تعيش الحلم و تستفيق في الكابوس، و من نافق هو مبتدئ في الطريق لم يرتق بعد إلى مستوى المنافق الذي دبت فيه حياة النفاق و أصبحت حركاته كلّها مركزّة حول البحث عن إخفاء أمره بكل الوسائل و الطرق و لو عدنا إلى عبارة المنافقين في القرءان للاحظنا الأمور التالية :
ـ لا وجود لمفرد المنافقين / منافقات في القرءان، فلا وجود للفظ "منافق" و هذا يدّل أنّ الإخفاء يستحيل أن تكون غايته فردية بل هو عملا تكتليّا دوما أي تجمع و لوبي بتعبيرنا سواءا كان هذا التجميع ظاهره سياسي أو إقتصادي و هنا نرى الفرق بين الكذب و النفاق
ـ لم يرد رسم المنافقون و المنافقات في القرءان إلاّ بالثور المخفف على النون بالرسم التالي : منـ ا ـفقون / منـ ا ـفقين / منـ ا ـفقـ ا ـت لكنّه ورد مرّة واحدة في القرءان برسم "المنافقون" في عنوان سورة المنافقون ذاتها و هي المرّة الوحيدة. و لو طبقنا هذه الملاحظة على من يخفي فائض ماله كي يمنع إنفاقه فسنلاحظ أنّ المنافقين يعيشون حياة البذخ و الترف و الدعة و الإنفاق في حاجاتهم دون حساب حتّى إذا أتى وقت الدفع و الإعانة و تقديم الصدقات اللازمة اختفت كل المظاهر و بدأت الشكاوي و الدعاوي و أُغلقت الباب و هذا ما يرسمه الثور المخفف "ا" بين النون و الفاء و كأنّها بوابة خزينة مالية تفتح و تقفل حسب الظروف، فالثور المخفف يرسم هذا التقطع.
ـ لم ترد لفظة "منـ ا ـ فقـ ا ـت " إلاّ مرتبطة بلفظ "منـ ا ـفقين / منـ ا ـفقون و ووردت دائما لفظة "منـ ا ـ فقـ ا ـت " بعد لفظ "منـ ا ـفقين / منـ ا ـفقون و لم ترد أبدا قبلها و ليحقق القارئ في البلاغات التالية :
التوبة :67 ؛ 68 ـ الأحزاب: 73 ـ الفتح :6 ـ الحديد:13
كنّا تطرقنا في بحث "الذكورية في القرءان وهم بصري أم حقيقة موضوعية" إلى نفي تعلق " ـات" بجمع الإناث ونفي تعلق " ـون " أو " ـين" بجمع الذكور وحينها أكدنا أنّ القضية درجية و ليست جنسية و سنحصر معنى النفاق في المنع المالي لتسهل متابعة شرح هذه الجزئية ، فالمنافقات هي كل جماعة بدأت السير في و توّلدت جديدا في عالم الإمتناع عن الإنفاق و إخفاء المال الفائض عن مستحقيه أمّا المنافقون فهم من تضاموا على الإمتناع و المنافقين هم من مدّوا أياديهم لإخراج هذا الإمتناع إلى الوجود و كل هذا مفصل في البحث المذكور فليعد إليه من شاء.
ورود المنافقات دائما و أبدا وراء المنافقون / المنافقات إشارة واضحة أنّ منع الإنفاق يجر إلى توّلد جماعات المنع في كل المجتمع و كأنّ تولد المنع ليس هو من يسبق تأصله في المجتمع و الأمر غير منطقي لأول وهلة إذ تأصل منع الإنفاق في جماعة يسبقه تحضير إلى أن تتولد الجماعة ثم تتحول إلى كيان لوباوي و هندسة التعبير في القرءان أعمق فهي تدّلنا أن منع الإنفاق لا يحتاج إلى تولد إذ هو متأصل في كل فرد فينا :
"و أحضرت الأنفس الشح" النساء :128
ـ ورد لفظ "منافقين" ست مرّات في سورة النساء و هي أكبر نسبة في القرءان و هذا يؤكد ما ذهبنا إليه أنّ لفظ المنافقين متعلق بمعنى الإمتناع عن الإنفاق بإخفاء موارده إذ سورة النساء حديثها و موضوعها الطبقات المتأخرة في المجتمع.
و قبل الدخول في سورة المنافقون أوّد التعريح على ءايات سورة التوبة فهي من ستنقلنا عبر بساطها إلى سورة المنافقون ، لنقرأ :
"
53. قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ
54. وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ
55. فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
56. وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
57. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ
58. وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ
59. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ
60. إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
61. وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
62. يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
63. أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ
64. يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ
65. وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ
66. لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
67. الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
68. وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ "
التوبة
آثرت إيراد هذه البلاغات القرءانية لبيان ماهية النفاق المتعلّقة في السياق بمعاني إخفاء الفائض عن مستحقيه أو إخفاء الإكتفاء و التذرع بالحاجة ففي الشق الأول نقرأ:
ـ "أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم" 53
ـ "لا ينفقون إلاّ و هم كارهون"54
ـ "ويقبضون أيديهم" 67
و تترى الإشارات للتنبيه إلى الشق الثاني من إخفاء الإكتفاء و إنتفاء الحاجة لأخذ ما ليس بحق:
ـ " و منهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منهآ إذا هم يسخطون" 58
ـ "إنّما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل ، فريضة من الله ، والله عليمـ حكيمـ " 60
فتحديد وجهات الفائض الآتي من الخمس للأعيان أفرادا هو قطع للطريق أمام كل راغب طحلبي يريد الإستفادة من غير حق، و تسمية هذا الفائض صدقة متعلق بصدق الدافع في الإعلان على دخله "الفيء بتعبير القرءاني" و هؤلاء الأعيان محصورون فيمن كان :
ـ الفقراء : العاجز عن الحركة قارا بفعل حادث أقعده عن العمل و الكسب و يمكن أن يكون البطّال الذي فقد عمله هو التعبير الأمثل للفقير في عصرنا.
ـ المساكين : الثابث على وظيفة واحدة شأن موظف الحكومة أو المقعد بفعل مرض مزمن أو عجز خِلقي أو غيره
ـ العاملين عليها :من يعمل في مؤسسات الصدقة و مؤسسات الدولة بصفة عامة إذ مهمة الدولة في القرءان و مؤسساتها هي توزيع الثروة و العمل على إحداث التوازن، و يمكن أن يكون الموظفين في عصرنا أقرب مثال للعاملين عليها .
ـ المؤلفة قلوبهم : ممن تشتت ذاته و تحتاج إلى تأليف و أقرب مثال لهم من حلّت بهم الكوارث من موت زوج أو معيل لتعطى له فترة تجرع الحزن دون الحاجة إلى عمل أو من بمنطقته كارثة زلزالية أو غيره. و ليس صحيحا أنّ المؤلفة قلوبهم هم من دخلوا في "عقيدة" مرغمين فتُعطى لهم الأموال ليشترى سكوتهم، فهذا ليس من طبيعة القرءان و ليس في نصه إرغام على عقيدة أو رشوة لمغير لعقيدته
ـ الرقاب : من يرغب في إطلاق مشروع و ينتظر من يعينه عليه فيمكن للدولة أن تعينه بنصيب و تراقب تصرفاته فلفظ الرقاب مشتق من الجذر العربي (ر ق ب ) و هو مفهوم متعلق بالرصد و التتبع و المراقبة و الرقبة المعروفة حسيّا هي من هذا المفهوم فهي التي تستدير للترقب و الرصد.
ـ الغارمين : أصحاب الديون أو من توّرط في قتل خطأ أو جرح غير عمدي يتطلب دفع غرامة
ـ في سبيل الله : كل ما من شأنه تقوية الحرية في المجتمع من جمعيات خيرية و أحزاب سياسية ناشئة و إعلام و غيره على أن يكون حقيقة في سبيل الله و ليس في خدمة سلطة، فسبيل الله في القرءان هو مرادف الحرية.
ـ ابن السبيل : من فقد من يعوله ووجد نفسه دون أهل يهل إليهم من ولد أتى بمعاشرة غير شرعية أو ليتيم .
و قد يختلف معي القارئ في تحديد معاني الألفاظ و الواجب أن نتفق على المفهوم و بعدها فلتختلف المعاني. فالأصناف السابقة هي المستحقة للفائض المالي في المجتمع و من لم يكن من هؤلاء فلا يحاول إستغلال الموقف لأخذ ما ليس له. و نرى هنا الوجهان المتقابلان في المجتمع من أهل التفاق ممن يمتنع عن الإنفاق و إخراج الفائض و هو قوّي مقتدر و من يرغب في الأخذ من هذا الفائض و هو ليس مستحقا محتاجا. و الآفة من هذين الطرفين ممن يريد العون و لا يعين إن تحسن حاله أو من يريد الأخذ و التكديس دون تفكير في المحتاجين الحقيقيين في المجتمع. و يعبر القرءان بلفظ "الفضل" على الفائض في الأية 59 من التوبة :
"و لو أنّهمـ رضوا مآ ءاتاهمـ الله و رسوله و قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله و رسوله إنّآ إلى الله راغبون"
و نرى المنافقين صورة و صوتا في بحثهم عن مخرج لما يعتبروه مأزقا حقيقيا في دعوتهم إلى المشاركة في توازن المجتمع الذي هم منه "و يحلفون بالله إنّهم لمنكـــــــــــــم و ما هم منكمـ " ، نراهم يبحثون عن كل سبل للتستر :
"لو يجدودن ملجأ أو مغارات أو مدّخلا لّولوا إليه و هم يجمحون "
و تفاجئنا الأيات بوعد تحذيري لمن اختار طريق النفاق النالي أنّ القرءان سيكشف بواعثه الحقيقية رغم كل الروتوشات الخطابية التي يعتمدها و رغم كل الشعارات المرفوعة لتمييع الحقيقة و تذويبها و هي حقيقة واضحة متعلّقة بالشح و البخل و الكنز و الإمتناع من الإشتراك في توازن المجتمع رغم إستفادة هؤلاء من كل شيء فيه :
"يحذر المنافقون أن تنزّل عليهمـ سورة تنبئهم بما قلوبهم ؛ قل استهزءوا إنّ الله مخرج مّا تحذرون" 64
من هنا سننتقل مباشرة إلى السورة الكاشفة عن عمق ذات المنافقين و فكرهم أقصد ولوج سورة المنافقون.
السورة وحدة موضوعية و ءاياتها مفصلة أي كل ءاية مرتبطة بالتي تليها. و موضوع السورة يحدده عنوانها فهو الموجة التي تسير في كل ءاية من ءايات السورة. و أوّل ما يلفت النظر مخالفة عنوان السورة لقواعد اللغة الموضوعة و التي سمّاها الناس ظلما "قواعدعربية". فالمضاف إليه في هذه القواعد ينبغي أن يجر بالياء و النون و لكنّنا نفاجأ بهذه العنوان : "سورة المنافقون". لنرى الأن خصائص هذا التجمع:
ـ الكذب "إنّ المنـ ا ـفقين لكـ ا ـذبون"
ـ إستخدام علاقاتهم ووسطاتهم "أيمانهم" لحماية تجاوزاتهم "جُنّة"
ـ الإختيار الطوعي لطريق الإكراه و التغطية و البعد عن الصلاة و الحوار "كفروا" بعد أن تمرّسوا طريق تأمين الأخر الذي تصورّه أداة ثمّ "ءامنوا ثمّ كفروا" . هذا الخيار أتى من صعوبة طريق الإيمان و الواجبات التي يفرضها من صبر على الأذى و مد الأيدي لعون الأخر فكريا و عون المحتاج ماليا و الرضا بالإنصياع لنفس الحكم الذي يجتمع عليه المؤمنون فلا محاباة و لا تجاوز و لا حظوة.
ـ الإهتمام بالهيئة الخارجية و تحسين الخطاب في روتين مضبوط "خشب مسنّدة"
ـ الخوف من كل صوت تغيير في المجتمع "يحسبون كل صيحة عليهم"
ـ الإستكبار و عدم قبول ستر الثروة
ـ البعد عن الإهتمام بمسؤولياتهم الإجتماعية في من ذكرهم الرسول أي القرءان : الفقراء ـ المساكين ...الخ " لا تنفقوا على من عند رسول الله" و الرهان على إذابة مطالبهم "حتّى ينفضوا"
ـ تحين الخروج من الميثاق "المدينة" و إرادة السيطرة على مقادير الدولة و مؤسساتها و الإستكبار على باقي المؤمنين و تصور الرفعة و العلو " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"
إنّ السورة تنهي موضوعها بالتأكيد على الإنفاق و إستحضار السنن الدالة على أنّ الإمتناع عن الإنفاق لغرض التخزين "أموالكم" أو لتوريث العقب "أولادكم" سيوّلد أزمات في المجتمع ، فهذه سنّة كونية يرسمها لفظ الله في الأية :9 و هذا الإمتناع يجعل الكل خاسر في النهاية. فالإنفاق تحضير للنفس لتدخل العالم الأرحب صالحة لمواصلة الرحلة فلفظ الصالحين في القرءان هو تعبير تشريحي لتأكيد أن ليس كل من يموت صالح لمواصلة المسيرة، فبعد الحساب سيلقى المجرمون جزاءهم و سيواصل الصالحون مسيرتهم الخلافية التي بدأوها و سينقلب الغالبية العظمى ترابا تنتهي رحلتهم بإنتهاء حسابهم و كشف نسختهم التي لم تبلغ الوفاة.
إنّ القرءان يريد العمل الأن و ليس غدا فالفرد الذي يريد إصلاحه القرءان لا يمهله للغد بل يطالبه ببدء المسيرة الأن و فورا، فمسيرة التغيير و الخلافة ليست قضية للإرجاء و الإنساء ، فأي تأخير يرسم نسخة المرء الأخروية و حين يأتي أجلها الذي تصل فيه إلى درجة الوفاة أي إكتمال عناصر النسخة الأخروية إيجابا أو سلبا فليس هناك بعدها أي عودة للوراء. و ليس الأجل ساعة تحديد الموت تحديدا مسبقل بل هو تحديد لإكتمال نسخة المرء الأخروية.
النفاق في مفهومه القرءاني يجرنا إلى تحليل مواقف الناس بحسب موقعهم الإجتماعي و المالي و مقدار مشاركتهم و عونهم سرّا و جهرا و لذلك فالشهادة اللسانية في الرفع من الرسالة خطابا شفويا و ضربها حقيقة بالإمتناع من أداء الواجب لا معنى له بل هو إمعان في تثبيت الإتهام و نرى في البلاغ القرءاني :
"إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ"
دليل أنّ ما يفعله الناس من شهادة لسانية من قبيل "أشهد أنّ لا إله إلاّ الله محمد رسول الله" ليس شهادة على شيء فالشهادة بتاءها المربوطة تحتاج إلى تفتيق حقيقتها واقعا و ليس خطابا.
النفاق المالي فيروس مجتمع الذين ءامنوا بإمتناع حزبه عن الإنفاق لإحداث التوازن في المجتمع و لحمايته من الهزّات التي يخسر فيها المنافق أضعاف ما تخسره النساء . فالدولة في القرءان تبنى على الصدقات و ليست الصدقة عطاء يحتقر به المعطي من أعطاه بل هي واجب إجتماعي حدّده القرءان بالخمس كأقل نسبة ، فالصدقة هي ما نسميه اليوم ضريبة و أي ممتنع عن الضريبة ينبغي أن يُشار إليه بالبنان على أنّه من المنافقين و يحسن بمجتمعاتنا أن تستعين بتعابير القرءان كي تطمس أكثر كلّ من يمتنع عن واجباته الإجتماعية أو يحاول الإستفادة من غير حقّه.
مؤسسات الدولة في القرءان تعيش على الصدقات و هي من العاملين عليها و لا يجوز لأي فرد فيها أن يأخذ أكثر من المعروف ووظيفة الدولة ليست عقائدية بل وظيفتها الأساسية إجتماعية فكرية أساسها إحداث التوازن الإجتماعي بتوزيع دقيق للميزانية.
هذا مدخل بسيط بسيط لسورة المنافقين و لنا عودة بعد التعليقات و هو هدّية لأخي عالم غريب و لأخي خالد هلال لمطالبتهم بالإهتمتم بالقضايا النهضوية القرءانية مع أنّي أرى في كل حرف فيه نهضة.
مفهوم الجذر العربي (ن ف ق) في القرءان متعلّق بستر شيء و إخفاءه تعمدا و من معاني المنافقين في القرءان كل من أخفى قناعاته الحقيقية و سترها و أظهر عكسها و من معاني المنافقين في القرءان كل جماعة امتنعت من تقديم العون المالي و الإقتصادي لمستحقيه في المجتمع و تعمدت إخفاء دخلها و ستره بشتى الوسآئل، و عادة ما يربط الناس النفاق بالمتغير في رأيه المنقلب عن قناعاته الفاسق من عهوده، وربطهم هذا هو نتيجة للنفاق و ليس تدليلا على مفهومه العميق و ماهيته. فالممتنع من المشاركة في الإنفاق و التارك لواجباته الإجتماعية يجره موقفه هذا إلى تغيير قناعاته حسب الظروف، و هذا التغيير و التحويل هدفه دائما واحد و هو الحفاظ على الإمتيازات الإجتماعية و الحظوات المالية.
لنبدأ الأن في التدليل على ما قلناه سابقا و ذلك بعرض أقرب مشتقات الجذر (ن ف ق) في القرءان :
أنفق / أنفقت / أنفقوا / تنفقوا / تنفقون / ينفق / ينفقوا / ينفقون / أنفقوا
نافقوا
نفقة
نفقات
الإنفاق
نفقا
و كلهّا تدل على إخفاء المال و الثروة عن مستحقيه. و نرى بين هذه المشتقات لفظ "نَفَق" الذي قادنا إلى تحديد مفهوم الجذر (ن ف ق) المعبر عن مكان الإخفاء في باطن الأرض :
34. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ
35. وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ
36. إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
الأنعام
فأين المفر و أين سيختفي من يحمل رسالة و هي تسكنه في أعماقه، هل سيجد معراجا إلى السماء "سلّما في السماء" أو نفقا في الأرض ليفر من سماع المناوئين !!!! إنّها الرسالة و لأهميتها القصوى لجميع العالمين ، فليترك الرسول من يريد العواء ليمضي في التبليغ "إنّما يستجيب الذين يسمعون" و يوم الحساب سيتم وضوع كل واحد أمام بينات نفسه و عمله.
و نرى أنّ لفظ "نافق" أتى مرتين في القرءان بثوره "ا" المنتصب المثير للنون مشيرا إلى ظاهرة إخفاء القناعة الذاتية عن تعمد ووعي و إرادة التمييع و لنقرأ :
" وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ "
أل عمران:167
فهؤلاء مقتنعون بأنّ القتال سياتي لا محالة بل كل مؤشراته واضحة و مع ذلك يريدون بتصريحاتهم السلمية زرع البلبلة و التثبيط في المجتمع المقبل على المواجهة ، بكلامهم هذا ابتعدوا كثيرا عن مجتمع الذين ءامنوا ليعلنوا ولاءهم الحقيقي للذين كفروا و امتنعوا عن أي مشاركة فعّالة في الدفاع و مع ذلك يرفعون كل شعارات المقاومة و الدفاع "يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم" !!!!!! و نلاحظ في كلّ مرّة تلفظ المنافقين بغير قناعتهم الداخلية العميقة في القرءان و كأنّه خاصيتهم المميزة فلفظ نافق بثوره "ا" الممدود المنتصب يضع الحاجز و الحائط بين محتوى نونه سواء كان المحتوى قناعة أو مالا و بين ظهوره.
لنقرأ :
" أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ"
الحشر:11
الكذب مطيّة من يمنع العون عنك لغرض مبطن في نفسه و يؤملك الأماني حتّى إذا جدّ الجد وجدته على بعد السماء منك فحال من نافق حال من يجعلك تعيش الحلم و تستفيق في الكابوس، و من نافق هو مبتدئ في الطريق لم يرتق بعد إلى مستوى المنافق الذي دبت فيه حياة النفاق و أصبحت حركاته كلّها مركزّة حول البحث عن إخفاء أمره بكل الوسائل و الطرق و لو عدنا إلى عبارة المنافقين في القرءان للاحظنا الأمور التالية :
ـ لا وجود لمفرد المنافقين / منافقات في القرءان، فلا وجود للفظ "منافق" و هذا يدّل أنّ الإخفاء يستحيل أن تكون غايته فردية بل هو عملا تكتليّا دوما أي تجمع و لوبي بتعبيرنا سواءا كان هذا التجميع ظاهره سياسي أو إقتصادي و هنا نرى الفرق بين الكذب و النفاق
ـ لم يرد رسم المنافقون و المنافقات في القرءان إلاّ بالثور المخفف على النون بالرسم التالي : منـ ا ـفقون / منـ ا ـفقين / منـ ا ـفقـ ا ـت لكنّه ورد مرّة واحدة في القرءان برسم "المنافقون" في عنوان سورة المنافقون ذاتها و هي المرّة الوحيدة. و لو طبقنا هذه الملاحظة على من يخفي فائض ماله كي يمنع إنفاقه فسنلاحظ أنّ المنافقين يعيشون حياة البذخ و الترف و الدعة و الإنفاق في حاجاتهم دون حساب حتّى إذا أتى وقت الدفع و الإعانة و تقديم الصدقات اللازمة اختفت كل المظاهر و بدأت الشكاوي و الدعاوي و أُغلقت الباب و هذا ما يرسمه الثور المخفف "ا" بين النون و الفاء و كأنّها بوابة خزينة مالية تفتح و تقفل حسب الظروف، فالثور المخفف يرسم هذا التقطع.
ـ لم ترد لفظة "منـ ا ـ فقـ ا ـت " إلاّ مرتبطة بلفظ "منـ ا ـفقين / منـ ا ـفقون و ووردت دائما لفظة "منـ ا ـ فقـ ا ـت " بعد لفظ "منـ ا ـفقين / منـ ا ـفقون و لم ترد أبدا قبلها و ليحقق القارئ في البلاغات التالية :
التوبة :67 ؛ 68 ـ الأحزاب: 73 ـ الفتح :6 ـ الحديد:13
كنّا تطرقنا في بحث "الذكورية في القرءان وهم بصري أم حقيقة موضوعية" إلى نفي تعلق " ـات" بجمع الإناث ونفي تعلق " ـون " أو " ـين" بجمع الذكور وحينها أكدنا أنّ القضية درجية و ليست جنسية و سنحصر معنى النفاق في المنع المالي لتسهل متابعة شرح هذه الجزئية ، فالمنافقات هي كل جماعة بدأت السير في و توّلدت جديدا في عالم الإمتناع عن الإنفاق و إخفاء المال الفائض عن مستحقيه أمّا المنافقون فهم من تضاموا على الإمتناع و المنافقين هم من مدّوا أياديهم لإخراج هذا الإمتناع إلى الوجود و كل هذا مفصل في البحث المذكور فليعد إليه من شاء.
ورود المنافقات دائما و أبدا وراء المنافقون / المنافقات إشارة واضحة أنّ منع الإنفاق يجر إلى توّلد جماعات المنع في كل المجتمع و كأنّ تولد المنع ليس هو من يسبق تأصله في المجتمع و الأمر غير منطقي لأول وهلة إذ تأصل منع الإنفاق في جماعة يسبقه تحضير إلى أن تتولد الجماعة ثم تتحول إلى كيان لوباوي و هندسة التعبير في القرءان أعمق فهي تدّلنا أن منع الإنفاق لا يحتاج إلى تولد إذ هو متأصل في كل فرد فينا :
"و أحضرت الأنفس الشح" النساء :128
ـ ورد لفظ "منافقين" ست مرّات في سورة النساء و هي أكبر نسبة في القرءان و هذا يؤكد ما ذهبنا إليه أنّ لفظ المنافقين متعلق بمعنى الإمتناع عن الإنفاق بإخفاء موارده إذ سورة النساء حديثها و موضوعها الطبقات المتأخرة في المجتمع.
و قبل الدخول في سورة المنافقون أوّد التعريح على ءايات سورة التوبة فهي من ستنقلنا عبر بساطها إلى سورة المنافقون ، لنقرأ :
"
53. قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ
54. وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ
55. فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
56. وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ
57. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ
58. وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ
59. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ
60. إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
61. وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
62. يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
63. أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ
64. يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ
65. وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ
66. لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
67. الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
68. وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ "
التوبة
آثرت إيراد هذه البلاغات القرءانية لبيان ماهية النفاق المتعلّقة في السياق بمعاني إخفاء الفائض عن مستحقيه أو إخفاء الإكتفاء و التذرع بالحاجة ففي الشق الأول نقرأ:
ـ "أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم" 53
ـ "لا ينفقون إلاّ و هم كارهون"54
ـ "ويقبضون أيديهم" 67
و تترى الإشارات للتنبيه إلى الشق الثاني من إخفاء الإكتفاء و إنتفاء الحاجة لأخذ ما ليس بحق:
ـ " و منهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منهآ إذا هم يسخطون" 58
ـ "إنّما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل ، فريضة من الله ، والله عليمـ حكيمـ " 60
فتحديد وجهات الفائض الآتي من الخمس للأعيان أفرادا هو قطع للطريق أمام كل راغب طحلبي يريد الإستفادة من غير حق، و تسمية هذا الفائض صدقة متعلق بصدق الدافع في الإعلان على دخله "الفيء بتعبير القرءاني" و هؤلاء الأعيان محصورون فيمن كان :
ـ الفقراء : العاجز عن الحركة قارا بفعل حادث أقعده عن العمل و الكسب و يمكن أن يكون البطّال الذي فقد عمله هو التعبير الأمثل للفقير في عصرنا.
ـ المساكين : الثابث على وظيفة واحدة شأن موظف الحكومة أو المقعد بفعل مرض مزمن أو عجز خِلقي أو غيره
ـ العاملين عليها :من يعمل في مؤسسات الصدقة و مؤسسات الدولة بصفة عامة إذ مهمة الدولة في القرءان و مؤسساتها هي توزيع الثروة و العمل على إحداث التوازن، و يمكن أن يكون الموظفين في عصرنا أقرب مثال للعاملين عليها .
ـ المؤلفة قلوبهم : ممن تشتت ذاته و تحتاج إلى تأليف و أقرب مثال لهم من حلّت بهم الكوارث من موت زوج أو معيل لتعطى له فترة تجرع الحزن دون الحاجة إلى عمل أو من بمنطقته كارثة زلزالية أو غيره. و ليس صحيحا أنّ المؤلفة قلوبهم هم من دخلوا في "عقيدة" مرغمين فتُعطى لهم الأموال ليشترى سكوتهم، فهذا ليس من طبيعة القرءان و ليس في نصه إرغام على عقيدة أو رشوة لمغير لعقيدته
ـ الرقاب : من يرغب في إطلاق مشروع و ينتظر من يعينه عليه فيمكن للدولة أن تعينه بنصيب و تراقب تصرفاته فلفظ الرقاب مشتق من الجذر العربي (ر ق ب ) و هو مفهوم متعلق بالرصد و التتبع و المراقبة و الرقبة المعروفة حسيّا هي من هذا المفهوم فهي التي تستدير للترقب و الرصد.
ـ الغارمين : أصحاب الديون أو من توّرط في قتل خطأ أو جرح غير عمدي يتطلب دفع غرامة
ـ في سبيل الله : كل ما من شأنه تقوية الحرية في المجتمع من جمعيات خيرية و أحزاب سياسية ناشئة و إعلام و غيره على أن يكون حقيقة في سبيل الله و ليس في خدمة سلطة، فسبيل الله في القرءان هو مرادف الحرية.
ـ ابن السبيل : من فقد من يعوله ووجد نفسه دون أهل يهل إليهم من ولد أتى بمعاشرة غير شرعية أو ليتيم .
و قد يختلف معي القارئ في تحديد معاني الألفاظ و الواجب أن نتفق على المفهوم و بعدها فلتختلف المعاني. فالأصناف السابقة هي المستحقة للفائض المالي في المجتمع و من لم يكن من هؤلاء فلا يحاول إستغلال الموقف لأخذ ما ليس له. و نرى هنا الوجهان المتقابلان في المجتمع من أهل التفاق ممن يمتنع عن الإنفاق و إخراج الفائض و هو قوّي مقتدر و من يرغب في الأخذ من هذا الفائض و هو ليس مستحقا محتاجا. و الآفة من هذين الطرفين ممن يريد العون و لا يعين إن تحسن حاله أو من يريد الأخذ و التكديس دون تفكير في المحتاجين الحقيقيين في المجتمع. و يعبر القرءان بلفظ "الفضل" على الفائض في الأية 59 من التوبة :
"و لو أنّهمـ رضوا مآ ءاتاهمـ الله و رسوله و قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله و رسوله إنّآ إلى الله راغبون"
و نرى المنافقين صورة و صوتا في بحثهم عن مخرج لما يعتبروه مأزقا حقيقيا في دعوتهم إلى المشاركة في توازن المجتمع الذي هم منه "و يحلفون بالله إنّهم لمنكـــــــــــــم و ما هم منكمـ " ، نراهم يبحثون عن كل سبل للتستر :
"لو يجدودن ملجأ أو مغارات أو مدّخلا لّولوا إليه و هم يجمحون "
و تفاجئنا الأيات بوعد تحذيري لمن اختار طريق النفاق النالي أنّ القرءان سيكشف بواعثه الحقيقية رغم كل الروتوشات الخطابية التي يعتمدها و رغم كل الشعارات المرفوعة لتمييع الحقيقة و تذويبها و هي حقيقة واضحة متعلّقة بالشح و البخل و الكنز و الإمتناع من الإشتراك في توازن المجتمع رغم إستفادة هؤلاء من كل شيء فيه :
"يحذر المنافقون أن تنزّل عليهمـ سورة تنبئهم بما قلوبهم ؛ قل استهزءوا إنّ الله مخرج مّا تحذرون" 64
من هنا سننتقل مباشرة إلى السورة الكاشفة عن عمق ذات المنافقين و فكرهم أقصد ولوج سورة المنافقون.
السورة وحدة موضوعية و ءاياتها مفصلة أي كل ءاية مرتبطة بالتي تليها. و موضوع السورة يحدده عنوانها فهو الموجة التي تسير في كل ءاية من ءايات السورة. و أوّل ما يلفت النظر مخالفة عنوان السورة لقواعد اللغة الموضوعة و التي سمّاها الناس ظلما "قواعدعربية". فالمضاف إليه في هذه القواعد ينبغي أن يجر بالياء و النون و لكنّنا نفاجأ بهذه العنوان : "سورة المنافقون". لنرى الأن خصائص هذا التجمع:
ـ الكذب "إنّ المنـ ا ـفقين لكـ ا ـذبون"
ـ إستخدام علاقاتهم ووسطاتهم "أيمانهم" لحماية تجاوزاتهم "جُنّة"
ـ الإختيار الطوعي لطريق الإكراه و التغطية و البعد عن الصلاة و الحوار "كفروا" بعد أن تمرّسوا طريق تأمين الأخر الذي تصورّه أداة ثمّ "ءامنوا ثمّ كفروا" . هذا الخيار أتى من صعوبة طريق الإيمان و الواجبات التي يفرضها من صبر على الأذى و مد الأيدي لعون الأخر فكريا و عون المحتاج ماليا و الرضا بالإنصياع لنفس الحكم الذي يجتمع عليه المؤمنون فلا محاباة و لا تجاوز و لا حظوة.
ـ الإهتمام بالهيئة الخارجية و تحسين الخطاب في روتين مضبوط "خشب مسنّدة"
ـ الخوف من كل صوت تغيير في المجتمع "يحسبون كل صيحة عليهم"
ـ الإستكبار و عدم قبول ستر الثروة
ـ البعد عن الإهتمام بمسؤولياتهم الإجتماعية في من ذكرهم الرسول أي القرءان : الفقراء ـ المساكين ...الخ " لا تنفقوا على من عند رسول الله" و الرهان على إذابة مطالبهم "حتّى ينفضوا"
ـ تحين الخروج من الميثاق "المدينة" و إرادة السيطرة على مقادير الدولة و مؤسساتها و الإستكبار على باقي المؤمنين و تصور الرفعة و العلو " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"
إنّ السورة تنهي موضوعها بالتأكيد على الإنفاق و إستحضار السنن الدالة على أنّ الإمتناع عن الإنفاق لغرض التخزين "أموالكم" أو لتوريث العقب "أولادكم" سيوّلد أزمات في المجتمع ، فهذه سنّة كونية يرسمها لفظ الله في الأية :9 و هذا الإمتناع يجعل الكل خاسر في النهاية. فالإنفاق تحضير للنفس لتدخل العالم الأرحب صالحة لمواصلة الرحلة فلفظ الصالحين في القرءان هو تعبير تشريحي لتأكيد أن ليس كل من يموت صالح لمواصلة المسيرة، فبعد الحساب سيلقى المجرمون جزاءهم و سيواصل الصالحون مسيرتهم الخلافية التي بدأوها و سينقلب الغالبية العظمى ترابا تنتهي رحلتهم بإنتهاء حسابهم و كشف نسختهم التي لم تبلغ الوفاة.
إنّ القرءان يريد العمل الأن و ليس غدا فالفرد الذي يريد إصلاحه القرءان لا يمهله للغد بل يطالبه ببدء المسيرة الأن و فورا، فمسيرة التغيير و الخلافة ليست قضية للإرجاء و الإنساء ، فأي تأخير يرسم نسخة المرء الأخروية و حين يأتي أجلها الذي تصل فيه إلى درجة الوفاة أي إكتمال عناصر النسخة الأخروية إيجابا أو سلبا فليس هناك بعدها أي عودة للوراء. و ليس الأجل ساعة تحديد الموت تحديدا مسبقل بل هو تحديد لإكتمال نسخة المرء الأخروية.
النفاق في مفهومه القرءاني يجرنا إلى تحليل مواقف الناس بحسب موقعهم الإجتماعي و المالي و مقدار مشاركتهم و عونهم سرّا و جهرا و لذلك فالشهادة اللسانية في الرفع من الرسالة خطابا شفويا و ضربها حقيقة بالإمتناع من أداء الواجب لا معنى له بل هو إمعان في تثبيت الإتهام و نرى في البلاغ القرءاني :
"إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ"
دليل أنّ ما يفعله الناس من شهادة لسانية من قبيل "أشهد أنّ لا إله إلاّ الله محمد رسول الله" ليس شهادة على شيء فالشهادة بتاءها المربوطة تحتاج إلى تفتيق حقيقتها واقعا و ليس خطابا.
النفاق المالي فيروس مجتمع الذين ءامنوا بإمتناع حزبه عن الإنفاق لإحداث التوازن في المجتمع و لحمايته من الهزّات التي يخسر فيها المنافق أضعاف ما تخسره النساء . فالدولة في القرءان تبنى على الصدقات و ليست الصدقة عطاء يحتقر به المعطي من أعطاه بل هي واجب إجتماعي حدّده القرءان بالخمس كأقل نسبة ، فالصدقة هي ما نسميه اليوم ضريبة و أي ممتنع عن الضريبة ينبغي أن يُشار إليه بالبنان على أنّه من المنافقين و يحسن بمجتمعاتنا أن تستعين بتعابير القرءان كي تطمس أكثر كلّ من يمتنع عن واجباته الإجتماعية أو يحاول الإستفادة من غير حقّه.
مؤسسات الدولة في القرءان تعيش على الصدقات و هي من العاملين عليها و لا يجوز لأي فرد فيها أن يأخذ أكثر من المعروف ووظيفة الدولة ليست عقائدية بل وظيفتها الأساسية إجتماعية فكرية أساسها إحداث التوازن الإجتماعي بتوزيع دقيق للميزانية.
هذا مدخل بسيط بسيط لسورة المنافقين و لنا عودة بعد التعليقات و هو هدّية لأخي عالم غريب و لأخي خالد هلال لمطالبتهم بالإهتمتم بالقضايا النهضوية القرءانية مع أنّي أرى في كل حرف فيه نهضة.
اخت المحبه :
تأملات في سورة المنافقون مفهوم الجذر العربي (ن ف ق) في القرءان متعلّق بستر شيء و إخفاءه تعمدا و من معاني المنافقين في القرءان كل من أخفى قناعاته الحقيقية و سترها و أظهر عكسها و من معاني المنافقين في القرءان كل جماعة امتنعت من تقديم العون المالي و الإقتصادي لمستحقيه في المجتمع و تعمدت إخفاء دخلها و ستره بشتى الوسآئل، و عادة ما يربط الناس النفاق بالمتغير في رأيه المنقلب عن قناعاته الفاسق من عهوده، وربطهم هذا هو نتيجة للنفاق و ليس تدليلا على مفهومه العميق و ماهيته. فالممتنع من المشاركة في الإنفاق و التارك لواجباته الإجتماعية يجره موقفه هذا إلى تغيير قناعاته حسب الظروف، و هذا التغيير و التحويل هدفه دائما واحد و هو الحفاظ على الإمتيازات الإجتماعية و الحظوات المالية. لنبدأ الأن في التدليل على ما قلناه سابقا و ذلك بعرض أقرب مشتقات الجذر (ن ف ق) في القرءان : أنفق / أنفقت / أنفقوا / تنفقوا / تنفقون / ينفق / ينفقوا / ينفقون / أنفقوا نافقوا نفقة نفقات الإنفاق نفقا و كلهّا تدل على إخفاء المال و الثروة عن مستحقيه. و نرى بين هذه المشتقات لفظ "نَفَق" الذي قادنا إلى تحديد مفهوم الجذر (ن ف ق) المعبر عن مكان الإخفاء في باطن الأرض : 34. وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ 35. وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ 36. إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ الأنعام فأين المفر و أين سيختفي من يحمل رسالة و هي تسكنه في أعماقه، هل سيجد معراجا إلى السماء "سلّما في السماء" أو نفقا في الأرض ليفر من سماع المناوئين !!!! إنّها الرسالة و لأهميتها القصوى لجميع العالمين ، فليترك الرسول من يريد العواء ليمضي في التبليغ "إنّما يستجيب الذين يسمعون" و يوم الحساب سيتم وضوع كل واحد أمام بينات نفسه و عمله. و نرى أنّ لفظ "نافق" أتى مرتين في القرءان بثوره "ا" المنتصب المثير للنون مشيرا إلى ظاهرة إخفاء القناعة الذاتية عن تعمد ووعي و إرادة التمييع و لنقرأ : " وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ " أل عمران:167 فهؤلاء مقتنعون بأنّ القتال سياتي لا محالة بل كل مؤشراته واضحة و مع ذلك يريدون بتصريحاتهم السلمية زرع البلبلة و التثبيط في المجتمع المقبل على المواجهة ، بكلامهم هذا ابتعدوا كثيرا عن مجتمع الذين ءامنوا ليعلنوا ولاءهم الحقيقي للذين كفروا و امتنعوا عن أي مشاركة فعّالة في الدفاع و مع ذلك يرفعون كل شعارات المقاومة و الدفاع "يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم" !!!!!! و نلاحظ في كلّ مرّة تلفظ المنافقين بغير قناعتهم الداخلية العميقة في القرءان و كأنّه خاصيتهم المميزة فلفظ نافق بثوره "ا" الممدود المنتصب يضع الحاجز و الحائط بين محتوى نونه سواء كان المحتوى قناعة أو مالا و بين ظهوره. لنقرأ : " أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ" الحشر:11 الكذب مطيّة من يمنع العون عنك لغرض مبطن في نفسه و يؤملك الأماني حتّى إذا جدّ الجد وجدته على بعد السماء منك فحال من نافق حال من يجعلك تعيش الحلم و تستفيق في الكابوس، و من نافق هو مبتدئ في الطريق لم يرتق بعد إلى مستوى المنافق الذي دبت فيه حياة النفاق و أصبحت حركاته كلّها مركزّة حول البحث عن إخفاء أمره بكل الوسائل و الطرق و لو عدنا إلى عبارة المنافقين في القرءان للاحظنا الأمور التالية : ـ لا وجود لمفرد المنافقين / منافقات في القرءان، فلا وجود للفظ "منافق" و هذا يدّل أنّ الإخفاء يستحيل أن تكون غايته فردية بل هو عملا تكتليّا دوما أي تجمع و لوبي بتعبيرنا سواءا كان هذا التجميع ظاهره سياسي أو إقتصادي و هنا نرى الفرق بين الكذب و النفاق ـ لم يرد رسم المنافقون و المنافقات في القرءان إلاّ بالثور المخفف على النون بالرسم التالي : منـ ا ـفقون / منـ ا ـفقين / منـ ا ـفقـ ا ـت لكنّه ورد مرّة واحدة في القرءان برسم "المنافقون" في عنوان سورة المنافقون ذاتها و هي المرّة الوحيدة. و لو طبقنا هذه الملاحظة على من يخفي فائض ماله كي يمنع إنفاقه فسنلاحظ أنّ المنافقين يعيشون حياة البذخ و الترف و الدعة و الإنفاق في حاجاتهم دون حساب حتّى إذا أتى وقت الدفع و الإعانة و تقديم الصدقات اللازمة اختفت كل المظاهر و بدأت الشكاوي و الدعاوي و أُغلقت الباب و هذا ما يرسمه الثور المخفف "ا" بين النون و الفاء و كأنّها بوابة خزينة مالية تفتح و تقفل حسب الظروف، فالثور المخفف يرسم هذا التقطع. ـ لم ترد لفظة "منـ ا ـ فقـ ا ـت " إلاّ مرتبطة بلفظ "منـ ا ـفقين / منـ ا ـفقون و ووردت دائما لفظة "منـ ا ـ فقـ ا ـت " بعد لفظ "منـ ا ـفقين / منـ ا ـفقون و لم ترد أبدا قبلها و ليحقق القارئ في البلاغات التالية : التوبة :67 ؛ 68 ـ الأحزاب: 73 ـ الفتح :6 ـ الحديد:13 كنّا تطرقنا في بحث "الذكورية في القرءان وهم بصري أم حقيقة موضوعية" إلى نفي تعلق " ـات" بجمع الإناث ونفي تعلق " ـون " أو " ـين" بجمع الذكور وحينها أكدنا أنّ القضية درجية و ليست جنسية و سنحصر معنى النفاق في المنع المالي لتسهل متابعة شرح هذه الجزئية ، فالمنافقات هي كل جماعة بدأت السير في و توّلدت جديدا في عالم الإمتناع عن الإنفاق و إخفاء المال الفائض عن مستحقيه أمّا المنافقون فهم من تضاموا على الإمتناع و المنافقين هم من مدّوا أياديهم لإخراج هذا الإمتناع إلى الوجود و كل هذا مفصل في البحث المذكور فليعد إليه من شاء. ورود المنافقات دائما و أبدا وراء المنافقون / المنافقات إشارة واضحة أنّ منع الإنفاق يجر إلى توّلد جماعات المنع في كل المجتمع و كأنّ تولد المنع ليس هو من يسبق تأصله في المجتمع و الأمر غير منطقي لأول وهلة إذ تأصل منع الإنفاق في جماعة يسبقه تحضير إلى أن تتولد الجماعة ثم تتحول إلى كيان لوباوي و هندسة التعبير في القرءان أعمق فهي تدّلنا أن منع الإنفاق لا يحتاج إلى تولد إذ هو متأصل في كل فرد فينا : "و أحضرت الأنفس الشح" النساء :128 ـ ورد لفظ "منافقين" ست مرّات في سورة النساء و هي أكبر نسبة في القرءان و هذا يؤكد ما ذهبنا إليه أنّ لفظ المنافقين متعلق بمعنى الإمتناع عن الإنفاق بإخفاء موارده إذ سورة النساء حديثها و موضوعها الطبقات المتأخرة في المجتمع. و قبل الدخول في سورة المنافقون أوّد التعريح على ءايات سورة التوبة فهي من ستنقلنا عبر بساطها إلى سورة المنافقون ، لنقرأ : " 53. قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ 54. وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ 55. فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ 56. وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ 57. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ 58. وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ 59. وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ 60. إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 61. وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 62. يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ 63. أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ 64. يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ 65. وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ 66. لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ 67. الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 68. وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ " التوبة آثرت إيراد هذه البلاغات القرءانية لبيان ماهية النفاق المتعلّقة في السياق بمعاني إخفاء الفائض عن مستحقيه أو إخفاء الإكتفاء و التذرع بالحاجة ففي الشق الأول نقرأ: ـ "أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم" 53 ـ "لا ينفقون إلاّ و هم كارهون"54 ـ "ويقبضون أيديهم" 67 و تترى الإشارات للتنبيه إلى الشق الثاني من إخفاء الإكتفاء و إنتفاء الحاجة لأخذ ما ليس بحق: ـ " و منهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا و إن لم يعطوا منهآ إذا هم يسخطون" 58 ـ "إنّما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل ، فريضة من الله ، والله عليمـ حكيمـ " 60 فتحديد وجهات الفائض الآتي من الخمس للأعيان أفرادا هو قطع للطريق أمام كل راغب طحلبي يريد الإستفادة من غير حق، و تسمية هذا الفائض صدقة متعلق بصدق الدافع في الإعلان على دخله "الفيء بتعبير القرءاني" و هؤلاء الأعيان محصورون فيمن كان : ـ الفقراء : العاجز عن الحركة قارا بفعل حادث أقعده عن العمل و الكسب و يمكن أن يكون البطّال الذي فقد عمله هو التعبير الأمثل للفقير في عصرنا. ـ المساكين : الثابث على وظيفة واحدة شأن موظف الحكومة أو المقعد بفعل مرض مزمن أو عجز خِلقي أو غيره ـ العاملين عليها :من يعمل في مؤسسات الصدقة و مؤسسات الدولة بصفة عامة إذ مهمة الدولة في القرءان و مؤسساتها هي توزيع الثروة و العمل على إحداث التوازن، و يمكن أن يكون الموظفين في عصرنا أقرب مثال للعاملين عليها . ـ المؤلفة قلوبهم : ممن تشتت ذاته و تحتاج إلى تأليف و أقرب مثال لهم من حلّت بهم الكوارث من موت زوج أو معيل لتعطى له فترة تجرع الحزن دون الحاجة إلى عمل أو من بمنطقته كارثة زلزالية أو غيره. و ليس صحيحا أنّ المؤلفة قلوبهم هم من دخلوا في "عقيدة" مرغمين فتُعطى لهم الأموال ليشترى سكوتهم، فهذا ليس من طبيعة القرءان و ليس في نصه إرغام على عقيدة أو رشوة لمغير لعقيدته ـ الرقاب : من يرغب في إطلاق مشروع و ينتظر من يعينه عليه فيمكن للدولة أن تعينه بنصيب و تراقب تصرفاته فلفظ الرقاب مشتق من الجذر العربي (ر ق ب ) و هو مفهوم متعلق بالرصد و التتبع و المراقبة و الرقبة المعروفة حسيّا هي من هذا المفهوم فهي التي تستدير للترقب و الرصد. ـ الغارمين : أصحاب الديون أو من توّرط في قتل خطأ أو جرح غير عمدي يتطلب دفع غرامة ـ في سبيل الله : كل ما من شأنه تقوية الحرية في المجتمع من جمعيات خيرية و أحزاب سياسية ناشئة و إعلام و غيره على أن يكون حقيقة في سبيل الله و ليس في خدمة سلطة، فسبيل الله في القرءان هو مرادف الحرية. ـ ابن السبيل : من فقد من يعوله ووجد نفسه دون أهل يهل إليهم من ولد أتى بمعاشرة غير شرعية أو ليتيم . و قد يختلف معي القارئ في تحديد معاني الألفاظ و الواجب أن نتفق على المفهوم و بعدها فلتختلف المعاني. فالأصناف السابقة هي المستحقة للفائض المالي في المجتمع و من لم يكن من هؤلاء فلا يحاول إستغلال الموقف لأخذ ما ليس له. و نرى هنا الوجهان المتقابلان في المجتمع من أهل التفاق ممن يمتنع عن الإنفاق و إخراج الفائض و هو قوّي مقتدر و من يرغب في الأخذ من هذا الفائض و هو ليس مستحقا محتاجا. و الآفة من هذين الطرفين ممن يريد العون و لا يعين إن تحسن حاله أو من يريد الأخذ و التكديس دون تفكير في المحتاجين الحقيقيين في المجتمع. و يعبر القرءان بلفظ "الفضل" على الفائض في الأية 59 من التوبة : "و لو أنّهمـ رضوا مآ ءاتاهمـ الله و رسوله و قالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله و رسوله إنّآ إلى الله راغبون" و نرى المنافقين صورة و صوتا في بحثهم عن مخرج لما يعتبروه مأزقا حقيقيا في دعوتهم إلى المشاركة في توازن المجتمع الذي هم منه "و يحلفون بالله إنّهم لمنكـــــــــــــم و ما هم منكمـ " ، نراهم يبحثون عن كل سبل للتستر : "لو يجدودن ملجأ أو مغارات أو مدّخلا لّولوا إليه و هم يجمحون " و تفاجئنا الأيات بوعد تحذيري لمن اختار طريق النفاق النالي أنّ القرءان سيكشف بواعثه الحقيقية رغم كل الروتوشات الخطابية التي يعتمدها و رغم كل الشعارات المرفوعة لتمييع الحقيقة و تذويبها و هي حقيقة واضحة متعلّقة بالشح و البخل و الكنز و الإمتناع من الإشتراك في توازن المجتمع رغم إستفادة هؤلاء من كل شيء فيه : "يحذر المنافقون أن تنزّل عليهمـ سورة تنبئهم بما قلوبهم ؛ قل استهزءوا إنّ الله مخرج مّا تحذرون" 64 من هنا سننتقل مباشرة إلى السورة الكاشفة عن عمق ذات المنافقين و فكرهم أقصد ولوج سورة المنافقون. السورة وحدة موضوعية و ءاياتها مفصلة أي كل ءاية مرتبطة بالتي تليها. و موضوع السورة يحدده عنوانها فهو الموجة التي تسير في كل ءاية من ءايات السورة. و أوّل ما يلفت النظر مخالفة عنوان السورة لقواعد اللغة الموضوعة و التي سمّاها الناس ظلما "قواعدعربية". فالمضاف إليه في هذه القواعد ينبغي أن يجر بالياء و النون و لكنّنا نفاجأ بهذه العنوان : "سورة المنافقون". لنرى الأن خصائص هذا التجمع: ـ الكذب "إنّ المنـ ا ـفقين لكـ ا ـذبون" ـ إستخدام علاقاتهم ووسطاتهم "أيمانهم" لحماية تجاوزاتهم "جُنّة" ـ الإختيار الطوعي لطريق الإكراه و التغطية و البعد عن الصلاة و الحوار "كفروا" بعد أن تمرّسوا طريق تأمين الأخر الذي تصورّه أداة ثمّ "ءامنوا ثمّ كفروا" . هذا الخيار أتى من صعوبة طريق الإيمان و الواجبات التي يفرضها من صبر على الأذى و مد الأيدي لعون الأخر فكريا و عون المحتاج ماليا و الرضا بالإنصياع لنفس الحكم الذي يجتمع عليه المؤمنون فلا محاباة و لا تجاوز و لا حظوة. ـ الإهتمام بالهيئة الخارجية و تحسين الخطاب في روتين مضبوط "خشب مسنّدة" ـ الخوف من كل صوت تغيير في المجتمع "يحسبون كل صيحة عليهم" ـ الإستكبار و عدم قبول ستر الثروة ـ البعد عن الإهتمام بمسؤولياتهم الإجتماعية في من ذكرهم الرسول أي القرءان : الفقراء ـ المساكين ...الخ " لا تنفقوا على من عند رسول الله" و الرهان على إذابة مطالبهم "حتّى ينفضوا" ـ تحين الخروج من الميثاق "المدينة" و إرادة السيطرة على مقادير الدولة و مؤسساتها و الإستكبار على باقي المؤمنين و تصور الرفعة و العلو " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" إنّ السورة تنهي موضوعها بالتأكيد على الإنفاق و إستحضار السنن الدالة على أنّ الإمتناع عن الإنفاق لغرض التخزين "أموالكم" أو لتوريث العقب "أولادكم" سيوّلد أزمات في المجتمع ، فهذه سنّة كونية يرسمها لفظ الله في الأية :9 و هذا الإمتناع يجعل الكل خاسر في النهاية. فالإنفاق تحضير للنفس لتدخل العالم الأرحب صالحة لمواصلة الرحلة فلفظ الصالحين في القرءان هو تعبير تشريحي لتأكيد أن ليس كل من يموت صالح لمواصلة المسيرة، فبعد الحساب سيلقى المجرمون جزاءهم و سيواصل الصالحون مسيرتهم الخلافية التي بدأوها و سينقلب الغالبية العظمى ترابا تنتهي رحلتهم بإنتهاء حسابهم و كشف نسختهم التي لم تبلغ الوفاة. إنّ القرءان يريد العمل الأن و ليس غدا فالفرد الذي يريد إصلاحه القرءان لا يمهله للغد بل يطالبه ببدء المسيرة الأن و فورا، فمسيرة التغيير و الخلافة ليست قضية للإرجاء و الإنساء ، فأي تأخير يرسم نسخة المرء الأخروية و حين يأتي أجلها الذي تصل فيه إلى درجة الوفاة أي إكتمال عناصر النسخة الأخروية إيجابا أو سلبا فليس هناك بعدها أي عودة للوراء. و ليس الأجل ساعة تحديد الموت تحديدا مسبقل بل هو تحديد لإكتمال نسخة المرء الأخروية. النفاق في مفهومه القرءاني يجرنا إلى تحليل مواقف الناس بحسب موقعهم الإجتماعي و المالي و مقدار مشاركتهم و عونهم سرّا و جهرا و لذلك فالشهادة اللسانية في الرفع من الرسالة خطابا شفويا و ضربها حقيقة بالإمتناع من أداء الواجب لا معنى له بل هو إمعان في تثبيت الإتهام و نرى في البلاغ القرءاني : "إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ" دليل أنّ ما يفعله الناس من شهادة لسانية من قبيل "أشهد أنّ لا إله إلاّ الله محمد رسول الله" ليس شهادة على شيء فالشهادة بتاءها المربوطة تحتاج إلى تفتيق حقيقتها واقعا و ليس خطابا. النفاق المالي فيروس مجتمع الذين ءامنوا بإمتناع حزبه عن الإنفاق لإحداث التوازن في المجتمع و لحمايته من الهزّات التي يخسر فيها المنافق أضعاف ما تخسره النساء . فالدولة في القرءان تبنى على الصدقات و ليست الصدقة عطاء يحتقر به المعطي من أعطاه بل هي واجب إجتماعي حدّده القرءان بالخمس كأقل نسبة ، فالصدقة هي ما نسميه اليوم ضريبة و أي ممتنع عن الضريبة ينبغي أن يُشار إليه بالبنان على أنّه من المنافقين و يحسن بمجتمعاتنا أن تستعين بتعابير القرءان كي تطمس أكثر كلّ من يمتنع عن واجباته الإجتماعية أو يحاول الإستفادة من غير حقّه. مؤسسات الدولة في القرءان تعيش على الصدقات و هي من العاملين عليها و لا يجوز لأي فرد فيها أن يأخذ أكثر من المعروف ووظيفة الدولة ليست عقائدية بل وظيفتها الأساسية إجتماعية فكرية أساسها إحداث التوازن الإجتماعي بتوزيع دقيق للميزانية. هذا مدخل بسيط بسيط لسورة المنافقين و لنا عودة بعد التعليقات و هو هدّية لأخي عالم غريب و لأخي خالد هلال لمطالبتهم بالإهتمتم بالقضايا النهضوية القرءانية مع أنّي أرى في كل حرف فيه نهضة.تأملات في سورة المنافقون مفهوم الجذر العربي (ن ف ق) في القرءان متعلّق بستر شيء و إخفاءه تعمدا و...
:... سبحان الله وبحمده ؛ سبحان الله العظيم ...:
تم حفظ .. سورة المنـافقون ؛
دونـا ..
كثير اعجبتني مشاركتك في ..
انتم مذكرون في القرآن ..
حبوبـه .. نورتي ؛ الحمد لله على السلامه
الله يجزاك الجنه
على تقرير سورة المنافقون
بس ما كلمته ..
ان شاء الله ارد واكمل الباقي
تم حفظ .. سورة المنـافقون ؛
دونـا ..
كثير اعجبتني مشاركتك في ..
انتم مذكرون في القرآن ..
حبوبـه .. نورتي ؛ الحمد لله على السلامه
الله يجزاك الجنه
على تقرير سورة المنافقون
بس ما كلمته ..
ان شاء الله ارد واكمل الباقي
الصفحة الأخيرة
روي أن الأحنف بن قيس
كان جالساً يوما فجال في خاطره: ��
قوله تعالى
*** لقد انزلناإليكم كتاباً فيه ذكركم***
فقال:
عليَّ بالمصحف لألتمس ذكري حتي أعلم من أنا ومن أشبه؟
فمر بقوم كانوا
**قليلاُ من الليل مايهجعون
وبالأسحار هم يستغفرون
وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم**
ومرَّ بقومٍ
** ينفقون في السرَّاءوالضرَّاء
والكاظمين الغيظ
والعافين عن الناس**
ومرَّ بقوم
** يؤثرون على أنفسهم
ولو كان بهم خصاصة
ومن يوق شُحَّ نفسه
فأولئك هم المفلحون**
ومرَّ بقوم
**يجتنبون كبائر الإثم والفواحش
وإذا ما غضبوا هم يغفرون**
.. فقال تواضعاُ منه
اللهم لست أعرف نفسي في هؤلاء ..
ثم أخذ يقرأ
ومر بقوم
**إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون**
ومرَّ بقوم
**يقال لهم ما سلككم في سقر
قالوا لم نك من المصلين
ولم نك نطعم المسكين**
فقال
.. اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء ..
حتى وقع علي قوله تعالي
**وآخرون اعترفوابذنوبهم
خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً
عسى الله أن يتوب عليهم
إن الله غفور رحيم**
فقال
.. اللهم أنا من هؤلاء
****