حقيقة الحياة الدنيا
بقلم هارون يحيى
تأمل صورة هذه الرجل يقدر عمره بسبعين عاما. ترى ماذا يدور في خلده حول الأيام التي مضت من عمره؟( بصراحه ماعرفت كيف ممكن انزل الصور ياليت احد يعلمنى )
هذا وغيره من الناس من الذين عاشوا قرابة سبعين أو ثمانين عاما يصابون بالدهشة والاستغراب ويتساءلون في أنفسهم: كيف مرت كل هذه الأعوام الطويلة بهذه السرعة دون أن يشعروا بها؟ بل سيقولون لك :"لم أفهم شيئا يذكر من هذه الحياة التي مرت في لمح البصر"!.
وعندما كانت هذه الرجل في العشرين من عمره وفي ريعان شبابه لم يكن يتصور أبدا أن يد الشيخوخة سوف تطاله في يوم من الأيام ولم يدر ذلك في خياله.
ولو طلبنا من هذه الرجل أن يلخص لنا كتابة حياته التي عاشها فسوف يقول لك: "أجل!… لقد مرت كل هذه الأعوام في لمح البصر و إذا أردت مني أن أدونها لك فلا أستطيع سوى كتابة خمسة أو ستة أسطر, أو إذا أردت فيمكن أن أتكلم عنها لمدة ست ساعات. . . هذا كل ما في الأمر"!.
إن الشخص الذي عاش في خضم كل هذه الأعوام ستتبادر إلى ذهنه بعض الأسئلة المهمة:
- ما غاية هذه الحياة التي مرت كلمح البصر؟
- لأي غاية عشت هذه الأعوام السبعين؟
- حسنا!. . . ماذا سيحدث بعد الآن؟
لاشك بأننا سنسمع رأيين مختلفين لو طرحنا هذا السؤال على مجموعتين من الناس. المجموعة الأولى هي المجموعة غير المؤمنة بالله والمجموعة الثانية هم الأشخاص الذين يؤمنون إيمانا صادقاً لا يعتريه الشك بوجود الله. إن إجابة أي شخص من المجموعة الأولى -على الأغلب - ستكون كالأتي:
" لقد مرت معظم سنين حياتي لغايات تافهة وفارغة, فلم أفهم بوضوح لأي غاية عشت هذه السنين السبعين. بداية كنت أعيش من أجل أمي وأبي ومن ثم من أجل زوجتي ومن ثم لأجل أولادي. . . أما الآن فإن الموت بدأ يقترب مني وسأرحل قريبا عن هذه الدنيا. . . وماذا بعد ذلك؟. . . ماذا سيحدث بعد ذلك؟ لا أدري. . . ولكن بالتأكيد سينتهي كل شيء. "
إن أسباب هذا الفراغ الذي يقع فيه أمثال هؤلاء هي عدم إدراكهم غاية خلق جميع الموجودات والأحياء, وهذه الغاية هي وراء خلق جميع هذه الكائنات. إن الإنسان العاقل الذي إذا ألقى نظرة من حوله سيدرك أن هذا النظام المدهش والفريد من نوعه الذي يحيط به قد أوجده وصوره خالق ينفرد بعلم لانهائي وبقدرة غير محدودة. إن عدم ظهور هذه الموجودات والكائنات بشكل اعتباطي أو عشوائي أو نتيجة مصادفات، بل ضمن مخطط زمني منظم غاية النظام يجسد الغاية التي خلقت من أجلها. وإن هذه الغاية قد دلنا عليها رب العالمين من خلال كتابه العزيز وهو القرآن الكريم المرسل هدى للناس أجمعين.
إن الشخص المؤمن بالله عز وجل والذي يضع نصب عينيه هذه الحقائق سيجيب على هذه الأسئلة السابقة بصورة صحيحة وسيقول:
" لقد خلقني الله رب العالمين وأرسلني إلى هذه الدنيا, وكلفني أن أقضي هذه المدة في العبودية له وبأحسن وجه, وقد أختبرني لهذا الغرض وأمتحنني. وكنت أعلم مسبقا بأن هذه الحياة قصيرة وزائلة وستمر في لمح البصر, لذا بذلت جهدي لكي أكون عبداً مطيعاً لا ينخدع بمباهج هذه الحياة الفانية وبملذاتها.
ثم تسألني: ماذا بعد ذلك؟… لقد حاولت طوال حياتي أن أكون عبدا صالحا أقوم بجميع ما أمرني الله به على أكمل وجه، لأن طموحي وأملي كان هو الفوز بالسعادة الأبدية بالدخول إلى الجنة، والفوز بها. وأنا انتظر بفارغ الصبر اليوم الذي أمثل فيه أمام رب العالمين".
ولاستعراض الفرق بشكل أفضل بين هاتين المجموعتين التي ورد ذكرهما أعلاه يستحسن أن نركز على هاتين النقطتين:
إن إيمان أكثرهم بوجود الله لا يمثل الإيمان الحقيقي, فكثير منهم يؤمنون بوجوده ولكنهم لا يدركون الأهمية الكبرى لهذه الحقيقة العظمى, فالفكرة الباطلة والسائدة بين أغلبية الناس هي أن الله خلقهم وتركهم يتصرفون كما يحلو لهم، وترك حبلهم على غاربهم. وقد نبه القرآن المنزل لإرشاد الإنسانية إلى أنه عندما يطرح سؤال من خلق السماوات والأرض على الناس لأجابوا: الله. ولكنهم مع هذا لا يستفيدون من هذا ولا يعتبرون.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (لقمان 25)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فأنّى يُؤْفَكُون وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (زخرف 87)
لهذا فإننا نرى في حياتنا اليومية أن انقياد هؤلاء البشر إلى هذا التفكير الخاطئ قد أدى إلى انعدام تواصلهم الروحي مع الله تعالى، وهم يحسبون أنهم قد تحلوا بصفات حميدة في الحياة الدنيا ستكون كفيلة بأن تأخذ بأيديهم إلى الجنة بعد أن يقضوا فترة قصيرة من الزمان في عذاب جهنم. وبجانب هذا فإن هناك قسماً كبيراً يعتقدون بأن الله خلق لهم هذه النعم وأنه يجب أن يتنعموا بها إلى أقصى حد ممكن دون أي اعتبارات أخرى. وبمثل هذا المنطق الناقص والتفكير الساذج يستمرون في ممارسة حياتهم اليومية بشكل عادي دون الالتفاف إلى حكمة وغاية هذه النعم الربانية. ولكن الحقيقة عكس هذا بالتأكيد، لأن هؤلاء الذين نسوا الله يعيشون في الحقيقة في غفلة كبيرة وعميقة وهذا ما أشار إليه الله في كتابه العزيز:
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ (الروم 7)
فمثل هؤلاء البشر الذين يعيشون في غفلة تامة لا يدركون حقيقة هذه الحياة، ولا ماهيتها حق الإدراك, ولا يخطر على بالهم بأن هذه الحياة قصيرة جداً لدرجة إنها تمر كلمح البصر. ويمكن أن ندرك هذه الحقيقة إن أجلنا طرفنا فيما حوالينا. ومن المفارقات الغريبة أننا كثيرا ما نسمع من الذين يتندرون بإطلاق بعض الأمثال الشعبية المعروفة والتي تشير إلى تفاهة هذه الحياة وزوالها منها:
(دنيا فانية ). . . أو ( آه من هذه الدنيا الزائلة ). . . . أو (ماحدش واخد منها حاجة) !!. . . . إلخ
ولكن عندما نمعن النظر في هذه العبارات نرى أنها ليست في الحقيقة سوى عبارات وشعارات جوفاء لا تعكس وجهة نظرهم الحقيقية. لأن مثل هذه العبارات ما هي إلا عبارات شعبية مأثورة يتداولها الناس فيما بينهم دون فهم صحيح لمدلولاتها ولا لمعانيها الحقيقية. والغريب أنه بعد طرح عبارات مثل: "دنيا فإنية" أو "كم مرة يعيش الإنسان؟". . . . نرى تكملة لهذه العبارات إجابات تنم عن منطق ضحل مثل: "لذا علينا أن نعيش هذه الحياة بشكل مكثف ولا نهدر هذه الفرصة".
ولكن كون هذه الحياة قصيرة وفانية والموت هو نهايتها الحتمية، والإنسان يأتي إليها لمرة واحدة فقط. كان من المفروض أن يعد هذا الأمر من أهم الحقائق بالنسبة إلى الإنسان. قد لا ينتبه معظم الناس إلى هذه الحقيقة إلا بعد أن يصلوا إلى عمر متقدم. ولكن ما أن ينتبهوا إليها عليهم أن يراجعوا أنفسهم ويعيدوا النظر في طراز حياتهم فينظمونها من جديد وحسب مرضاة الله وما يريده منهم. إن الحياة قصيرة ولكن الروح يظل بمشيئة الله -خالدا إلى الأبد. وماذا تعني حياة قصيرة أمدها بين ستين إلى سبعين عاما بجانب الحياة الأبدية التي ليست لها حدود؟!!.
أليست من الحماقة أن يضحي الإنسان بكل شيء من أجل متعة قصيرة وفانية؟.
ولكننا نرى أن المنكرين يسعون طوال حياتهم من أجل غايات فارغة وتافهة ويستنفدونها في سبيل هذه الأهداف الفارغة ناسين الله تعالى. وعلى الرغم من كل هذا فإنهم لا ينجحون– في الغالب- في تحقيق هذه الغايات الفارغة رغم كل هذا الجري واللهاث لأن نفوسهم لا تشبع بل هي جائعة على الدوام. لأنهم وببساطة يطلبون المزيد ثم المزيد ولا يكتفون ولا تشبع نفوسهم أبداًَ. فإذا وصلوا إلى غاية ما تراهم يحاولون الوصول إلى غاية أكبر منها. ولأنهم إن حصلوا على وضع أو مرتبة ما يحاولون الوصول إلى مرتبة أعلى، ثم مرتبة أعلى. . . وهكذا يقضون حياتهم في الجري لإشباع رغباتهم التي لاتعرف الشبع حتى يدركهم الموت. إنّ رغباتهم في الحصول على الشهرة والمال والمتعة تظل ناقصة بالمعايير الدنيوية, لأنه ستظهر أمامهم بالتأكيد أشياء أحسن مما موجود لديهم.
فعلى سبيل المثال نرى أحدهم يحلم دوما باقتناء إحدى السيارات ذات الطراز الرياضي الحديث, فنراه بعد محاولات كثيرة وصعبة يحصل على هذه السيارة الغالية ويحقق حلمه هذا الذي طالما سعى لتحقيقه. ولكن ماذا نرى؟ لقد ظهرت وستظهر أنواع أخرى من هذه السيارات التي تحتوي على ميزات أحسن وأفضل وأحدث. أو لنفكر في شخص قد قضى زمنا طويلا في جمع النقود اللازمة لشراء بيت طالما حلم أن يقتنيه ويعيش فيه. ولكننا نراه بعد تحقيقه لحلمه واقتنائه ذلك البيت بعد كل هذا التعب والعناء- يصادف بيتا آخر أجمل بكثير من بيته, فنراه وقد تملكه الإحباط والحزن، وبدأ بيته يفقد في نظره جاذبيته السابقة. بالإضافة إلى الألم الذي ينتاب الذين يرون ما يعتري ممتلكاتهم من اندثار بسبب القدم وما تجريه السنوات عليها من آثار سلبية.
إن التقدم العلمي المدهش يقدم للإنسان دوما أجهزة أحدث وأجمل وأحسن، فتفقد ما لدى هؤلاء من هذه الممتلكات رونقها وجاذبيتها وتبدو قديمة في أعينهم. ويستمرون طوال حياتهم في الدوران في هذه الدائرة المفرغة فلا تسكن نفوسهم أبدا ويظلون في لهاث دائم للحصول على الأجمل وعلى الأحسن. . وبعد الحصول عليه يعتق هذا الشيء عنده ويفقد قيمته فيبدأ البحث عن الجديد مرة أخرى، وعن الأجمل. . . هذه هي الدائرة المفرغة التي عاش فيها الإنسان طوال التاريخ. لذا فإن الإنسان العاقل يجب أن يقف وأن يراجع نفسه في هذا الأمر ويعلم أن هذا الجري الأعمى لن يؤدي إلى نتيجة وان يقول لنفسه:
" لا بد وأن هناك خطأ كبيراً في هذا الطراز من التفكير".
لكن نرى مع الأسف أن أغلبية الناس لا يملكون مثل هذا المنطق ويظلون يجرون وراء أحلام وخيالات لا يمكن أن تتحقق, بينما لا يستطيع أحد منا أن يضمن حياته حتى لبضع دقائق قادمة فالتعرض إلى حادثة سيارة، والتحول إلى شخص معاق، أو التعرض حتى للموت من الأمور السهلة والاعتيادية. والشخص الذي يتذكر الموت للحظة واحدة يدرك تمام الإدراك أنه عندما يثوى في قبره فلن يجديه نفعاً لا المال ولا الأولاد ولا المنصب أو الجاه ولا أي شخص من الأشخاص الذين كانوا موجودين حواليه. وسواء أكان غنياً أم فقيراً, جميلاً أم قبيحاً، فكل إنسان سيلف ببضعة أمتار من الكفن ويدفن في القبر.
لهذا فإن هذا الكتاب سيتناول عدم أمان هذه الدنيا الفانية التي لا تعطي الضمان لأي إنسان، والتي تمر كلمح البصر، مشيرا إلى أنها حياة خادعة تغر الإنسان، وذلك بنشر جميع أسرارها أمام أعينكم. لهذا فإن الله أو صى المؤمنين أن يحذروا الناس جميعا وينذروهم وأن يطرحوا أمامهم هذه الحقائق. كذلك فقد أمر الله جميع البشر ألا ينخدعوا بهذه الحياة الدنيا وأن يطيعوا أوامره, وهو في هذه الآية يحذر الناس:
يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(فاطر 5)
الحياة الدنيا
إن الكون من حولنا موجود ضمن نظام دقيق، وتناغم فريد. وهو يضم 300 مليار مجرة وكل مجرة منها تحتوي في المعدل على 300 مليار نجمة. ويتجلى النظام المدهش الموجود في الكون في أن هذه المجرات والنجوم والكواكب والأقمار تدور حول نفسها من جهة، وتدور ضمن نظامه الفلكي في مدارات معينة من جهة أخرى. ولا يمكن بأي حال من الأحوال تفسير نشوء كل هذا النظام الرائع والترتيب المذهل، والحساب الدقيق عن طريق المصادفة.
وبالإضافة إلى هذا فإن أخذنا بنظر الاعتبار سرعة الكون فإن أمر النظام والتصميم البديع يأخذ أبعادا لا يصدقه العقل البشري, فأوزان النجوم, والكواكب, والمجرات وعناقيد المجرات والتي تصل أوزانها إلى البلايين وملايين البلايين من الأطنان تتحرك في الفضاء بسرعات مدهشة. فالأرض مثلاً تدور حول محورها بسرعة تصل إلى 1670 كم /ساعة وتدور حول الشمس بسرعة 108000 كم/ساعة, بينما تدور المجموعة الشمسية حول مركز المجرة بسرعة تصل إلى 720000 كم/ساعة. كذلك تتحرك مجرة درب التبانة- أي مجرتنا- في الفضاء بسرعة تصل إلى 950000كم/ساعة.
إن استمرار هذه الحركة والتي لا تعرف السكون وبهذه السرعة تجعل كلا من الأرض والشمس تبتعد كل سنة عن موقعهما في السنة الماضية بنحو500 مليون كم! لذلك فنحن نعيش فوق أحد هذه الأجرام السماوية التي تتحرك بسرعة فلكية مخيفة. وبالإضافة إلى هذا فإن كوكبنا يعد كوكباً صغيراً وعادياً فيما إذا قورن مع بقية الكواكب الموجودة في هذا الكون الواسع المترامي الأطراف.
إن هذه الدرجة التي لا تصدق من الدقة في التوازن الموجود في نظام الكون تشير إلى حقيقة لا مفر منها وهي, أن حياتنا على كوكبنا الأرضي مرتبطة بقيد شعرة!. لأن الأجرام السماوية إذا تزحزحت أو تحركت أو انحرفت ببضع ميليمترات فقط خارج أفلاكها فإنه من الممكن أن تتولد نتائج وخيمة تجعل الحياة فوق كوكبنا مستحيلة. لقد كان من الممكن حدوث حوادث اصطدامات مروعة ضمن هذا القدر الكبير من السرعات المختلفة وهذا القدر الكبير من التوازن الموجود داخل هذا النظام, ولكن الحياة لا تزال مستمرة على كوكبنا، ولا زلنا مستمرين في العيش مما يشير إلى أن احتمال وقوع الكوارث فيه أمر نادر, فالنظام فيه مستمر ويسير دون أي خلل أو اضطراب. ونحن البشر نعيش على هذا الكوكب ونستمر في هذا العيش بأمان من دون أي قلق دون أن نشعر حتى بسرعة دوران الأرض.
أكثر الناس لا يفكرون كثيرا في كيفية استمرار هذه الحياة على الأرض، ونظرا لأنهم لا يفكرون، فهم لا يدركون أن حياتهم مرتبطة في الحقيقة بتوفر شروط غير اعتيادية تفوق الخيال. ولا ينتبهون إلى هذه الحقائق, لذا نرى أن أغلبية الناس الذين يعيشون على هذا الكوكب لا يدركون لأي غاية محددة خلق هذا الكون, فهم يستمرون في حياتهم دون أن يعبئوا كثيرا بسبب ولا بغاية وجودهم على هذا الكوكب ولا يعيرون أي اهتمام إلى هذه الدرجة العالية من التوازن والنظام العجيب الموجود في كل زاوية من زوايا هذا الكون العظيم. بينما العقل و التأمل هو الذي يجعل الإنسان إنساناً ويميزه عن باقي المخلوقات وهو أثمن العطايا التي منحها الله لبني البشر. والإنسان الذي لا يفكر ولا يستخدم ملكة العقل عنده لا يمكن أن يصل إلى الحقائق حول العديد من الأمور مثل: لماذا ولأي سبب يعيش الإنسان؟ لماذا خلقت الدنيا؟. ومن قبل من وضع كل هذا النظام الرائع في الكون. إن الشخص الذي إذا فكر واستوعب ما استعرضناه آنفا سيصل إلى الحقيقة التي ستسطع أمامه كالنور ومفادها:
أن الكون الذي نعيش فيه والذي يحوي كل هذا التوازن الحساس قد أو جده خالق يملك علما لا حد له, وأن كرتنا الأرضية رغم صغرها مقارنة مع بقية الكواكب قد خلقت لغايات كبرى, ولا يوجد أي عبث في شأن من شؤون الإنسان. ولو تأملنا الكون من حولنا بدقة لوجدنا أن في كل ركن من أركانه دليلا قوياً على وجود خالق يمتلك قوة ً وعلماً لا نهائيين قد خلق الإنسان لغايات معينة ولم يتركه على هواه يفعل ما يشاء, وقد ذكر الله في كتابه المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلّم الغاية من وجود الإنسان على الأرض، فيقول:
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ( سورة الملك 2)
إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (سورة الإنسان 2)
وقد أخبرنا القرآن الكريم بأن الله لم يخلق أي شيء على الأرض عبثا من دون غاية.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَأتخذنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (سورة الأنبياء 16-17)
كل شيء في الطبيعة يتعرض إلى التلف مع الزمن. وهذه هي حقيقة الحياة الدنيا.
ماهية الدنيا
لقد خلق الله حياة الدنيا ليختبر فيها الإنسان ويمتحنه ولكي يرى أيهم سيتحلى بالأخلاق الحميدة ويبدي له إخلاصاً حقيقياً وعبودية كاملة. بمعنى آخر, فإن هذه الدنيا هي دار امتحان للتمييز بين الإنسان الذي يجتنب معصية الله وبين من يجحد به. ففي دار الامتحان هذه والتي تحوي القبح والجمال, الكمال والنقصان معا يمتحن العبد ضمن نظام لا يعتريه أي نقص. فالإنسان يمكن أن يظهر إيمانه بأن يسلك طرقا متنوعة في هذه السبيل, وفي النهاية فالذين يؤمنون بالله إيمانا لا يعتريه الشك أو التردد سيتميزون عن الملحدين والمنكرين وسيصلون إلى بر النجاة. وقد بين القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله:
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُون وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فليعلمن اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين ( سورة العنكبوت 2-3)
ولكي نفهم ماهية هذا الامتحان, بداية يجب أن نتعرف بصورة جيدة على خالق ومدبر هذا الكون, فهو الله خالق السماوات والأرض وما بينهما من العدم، والذي يحتاج إليه كل كائن وكل موجود, بينما هو تعالى المنزه عن النقص لا يحتاج إلى أحد, وهو خالق الإنسان من العدم قد أنعم عليه نعماً لا تعد ولا تحصى.
فليس بمقدور الإنسان أن ينظم بنفسه الفعاليات الحيوية العديدة داخل جسمه كعملية السمع والبصر والمشي وعملية التنفس. . . إلخ, ومع أن الإنسان لم يستطيع أن يدرك حق الإدراك كيفية عمل هذه الأعضاء والأجهزة فإن الله قد شكلها وصورها ووضعها في جسمه, ومقابل كل هذه النعم فإن الله لا يطلب من عبده سوى الإخلاص له في العبودية. ولكن وحسب ما تذكر العديد من الآيات نرى أن الكثير من البشر يتميزون بخاصية الجحود والظلم، فبدلاً من أن يشكروا ربهم ويحمدوه ويخضعوا له تراهم ينسون هذا ويتصرفون بكل ظلم وجحود ويتعدون الحدود الموضوعة أمامهم، متوهمين بأنهم يمتلكون قوة كبيرة, وبأنهم لن يفارقوا هذه الدنيا إلا بعد زمن طويل. لهذا السبب فإن غايتهم الوحيدة تكون متوجهة فقط لهذه الحياة الدنيا. فهم يتناسون الموت ولا يقومون بإعداد أنفسهم بأي شكل من الأشكال لما بعده, فشغلهم وشاغلهم هو أن يوفروا لإنفسهم حياة أفضل, وأن يستمتعوا بجميع اللحظات التي يعيشونها إلى أقصى حد ممكن، وأن يشبعوا جميع أهوائهم ورغباتهم.
وقد ذكر الله في آياته الكريمة حول مدى ارتباط الإنسان بهذه الدنيا بقوله:
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (سورة الإنسان- 27)
ويغيب عن بال معظم هؤلاء المنكرين والذين يلهثون وراء هذه الدنيا سر في غاية الأهمية, إلا وهو الانقضاء السريع لهذه الدنيا. وهذا موضوع ينساه الوالهون بالدنيا ولا يفكرون فيه ويحاولون تناسيه ما استطاعوه إليه سبيلا ً.
ولكن مهما حاولوا فلن يستطيعوا الفرار من هذه الحقيقة.
بضع ثوانٍِ أم بضع ساعات؟
دعنا نفترض بأنكم في يوم عطلة وأنكم- وبعد رحلة دامت ساعتين- وصلتم إلى القرية السياحية التي طالما حلمتم بالذهاب إليها, حيث المكان يعج بالزوار من حولكم. وفي صالة الانتظار التقيتم ببعض الأصدقاء وبعد تبادل التحيات معهم توجهتم إلى غرفتكم ولكي لا تضيعوا المزيد من الوقت أسرعتم في تغيير ملابسكم وانطلقتم إلى ساحل البحر. و إذا بمياه زرقاء صافية تمتد أمامكم, وساحل رملي يشع مثل الذهب, والجو الحار يدعوكم لكي تستعجلوا في النزول إلى البحر, وبدأتم بالسباحة, وفجأة سمعتم صوتا يقول لكم "انهض ! لقد بلغت الساعة الثامنة صباحا". ولكنكم لم تفهموا شيئا، ولم تعطوا تفسيرا لهذا الصوت. وفي تلك اللحظة ستحاولون أن تجدوا حلقة وصل بين ما تسمعونه وبين المكان الذي أنتم فيه. في النهاية بدأتم تفتحون أعينكم شيئا فشيئا وتستردون وعيكم, و إذا بجدران غرفتكم تتراءى أمام ناظركم. . . آه!. . . لقد كان ذلك حلما إذن!! وفعلا وبعدما أفقتم أدركتم أن كل ما رأيتموه كان عبارة عن حلم جميل. ولكن كيف؟!. . . . يا الهي!. . . لقد كان كل شيء حقيقيا إلى أبعد الحدود!. . . . لقد أمضينا قرابة الساعتين في الطريق إلى القرية السياحية ولقد التقينا العديد من المعارف والأصدقاء في تلك القرية السياحية, وكذلك كان هناك ذلك الساحل الجميل والبحر الجميل, وماذا أقول عن ذلك الجو؟ ذلك الجو الذي كان رائعا بل وما زلت أشعر بحرارته في جسمي على الرغم من الطقس الشتوي السائد حولي وأنا أحاول القيام من الفراش. . . . أنه شيء محير حقاً.
إذن فعلى الرغم من تخيلكم بأنكم قضيتم فترة طويلة, إلا أن هذا الزمن الطويل المتخيل لم يكن سوى ثوان معدودات مرت بكم في الحلم. ومهما حاولتم إثبات عكس هذا, ففي النهاية يجب القبول بالحقيقة الواقعة.
ومثل هذا الذهول والدهشة هو ما سيصيب المنكرين الذين يأتون إلى الآخرة بعد الانقضاء السريع لحياتهم الدنيوية بعد ما خدعتهم هذه الحياة القصيرة وظنوا بأنهم ماكثون فيها ألف عام. بل إن البعض منهم كان يخيل إليه أنه سيعيش فيها آلاف السنين. ولكن بعد بعثهم وحشرهم بعد الموت سيدركون بأن حياتهم الدنيا كانت قصيرة جدا.
وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله:
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أو بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّين قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إلا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُم ْتعلَمُون أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (سورة المؤمنون 112– 114)
وسيحسب الذين عمروا في الدنيا عشرة أعوام أو مائة عام بأنهم لم يلبثوا فيها سوى يوم واحد فقط. تماما مثل الشخص الذي ينتبه من نومه بعد حلم طويل فيكتشف أن ما رآه من حلم حول عطلة طويلة كان عبارة في الحقيقة عن عدة ثوان فقط. . بل ستبدو هذه الحياة التي عاش سنواتها طولاً وعرضاً وبكل حرص وتشبث بها وتمسك بأهدابها. . . ستبدو له وكأنها كانت عبارة عن ساعة واحدة فقط، وهو مستعد لأن يقسم ويحلف على هذا:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (سورة الروم 55)
فكما هو معلوم لدى الجميع وبصورة أكيدة أن الحياة الدنيا محدودة يمكن أن تمتد إلى بضع ساعات أو إلى يوم واحد أو إلى أسبوع أو إلى ثلاثين عاما أو إلى سبعين عاماً. وككل شيء محدود فإنها ستنتهي في يوم من الأيام . لذا فإن الشخص الذي يعيش 80 عاما أو حتى 100 عام, فإن كل يوم يمر من عمره هذا يعني اقترابه شيئاً فشيئاً من النهاية المحتومة والتي لا مفر منها على الإطلاق. ويعرف كل واحد منا أمثلة على هذا من حياته. فكم من خطة طويلة الأمد رتبتها في حياتك ثم إذا بك ترى أن المدة الطويلة قد انقضت تماما، وعندها نلتفت إلى الوراء ونقول: " رباه. . . كيف انقضت كل هذه المدة بهذه السرعة ؟ ".
لنأخذ مثالاً آخر ولنتصور في ماذا يفكر الشاب وهو يخطو خطواته الأولى في مرحلة الثانوية. فعندما كان في الصف الأول ثانوي فإنه يتصور بأن بلوغ المرحلة الأخيرة من الثانوية حلمُ بعيد المنال ولن يأتي, وأن أمامه مشوارا طويلا. ولكننا نراه ينهي الثانوية ويدخل الجامعة ويتخرج حتى يكاد لا يتذكر ما كان يفكر به أيام السنة الأولى من الثانوية لأنه في هذا الوقت لديه خطط أخرى يفكر في إنجازها, فربما يخطط للزواج بعد عدة أشهر وهو يجر تلك الأيام ويرى إنها لا تنتهي ويستبطئ وصول ذلك اليوم الموعود. ولكن ذلك اليوم سيأتي أيضاً وسينقضي أيضاً وبدون أن يشعر تأخذ ه دوامة الحياة فلا يرى نفسه إلا وقد أصبح أبا وجدا له أبناء وأحفاد، و إذا به قد أصبح رجلا مسناً وشيخاً. . . . إذن فقد أو شك العمر على الأنتهاء، ولم يبق على موعد اللقاء مع ذلك اليوم الكبير سوى بضعة أعوام، وربما بضعة أسابيع بل ربما بضع دقائق. . . من يدري؟.
هذا علماً بأن الله قد وضح لنا منذ فجر التاريخ حقيقة كون هذه الحياة مجرد محطة انتقالية ومؤقتة وقصيرة نمر من خلالها إلى الدار الحقيقية، إلى دار الإقامة الدائمة وهي دار الآخرة التي هي "دار المقام". وشرح لنا عن طريق الوحي جميع التفاصيل المتعلقة بالحياة الخالدة في الجنة وفي جهنم. وعلى الرغم من كل هذا نجد الإنسان يوجه جلّ اهتمامه لهذه الدنيا القصيرة محاولا إشباع نزواته وأهوائه وشهواته. ولكن لو حاول الإنسان أن يستوعب الأمر بجميع تفاصيله وأن يحكم العقل والمنطق لوجد أنه لا وجه للمقارنة بين حياة أبدية ونعم لا تزول وعدنا بها رب العالمين وبين هذه الحياة القصيرة الفانية, وأن عليه أن يعمل من أجل الفوز بالجنة وما تحويها من نعم لا مثيل لها, حيث فيها لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطرت على قلب بشر. وهذا يتم عندما يكون توجهه خالصا إلى الله.
أما الذين لا يفكرون في هذه النهاية ولا يرون بأنها واقعة بهم, فإنهم ولاشك سيستحقون العذاب الذي أعدّه الله لهم, حيث ذكر الله في قرآنه الكريم النهاية المحتومة لهؤلاء البشر الذين يهربون من أداء العبودية لرب العالمين في قوله:
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلا سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَد خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين َ ( يونس 45)
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أو لُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ( الأحقاف 35)
الحرص الذي لا يؤدي إلى نتيجة
لقد استعرضنا فيما سبق قصر هذه الحياة الدنيا, وكيف إنها تمر بنا كلمح البصر. هنا يجب الإشارة إلى نقطة مهمة تغفل عنها عيون الكثير من الذين وضعوا جلّ اهتمامهم هذه الدنيا, وهي أنه لا يمكن لأي شخص مهما امتلك من إمكانيات وقوة وثروة أن يصل إلى الطمأنينة الحقيقية وإلى الراحة النفسية من دون الإيمان بالله.
إن الإنسان ما إن يبدأ بالوعي وبإدراك الأشياء من حواليه حتى تبدأ وتظهر مطالبه ورغباته التي لا تعرف لها أي نهاية، وهو يحاول تلبية جميع هذه الرغبات وإشباعها. ولكن الإنسان مقابل هذه الرغبات التي لا تنتهي لا يملك الإمكانيات التي تحققها جميعا، لأن إمكانياته محدودة. وحتى لو فرضنا أنه يستطيع ذلك فلا يغير هذا من الأمر شيئا، لأنه حتى وإن أصبح أغنى أغنياء العالم فهذا الغنى زائل، لأنه إن كان متوسط العمر يتراوح بين سبعين إلى ثمانين سنة وما إن تنتهي هذه المدة حتى يفقد كل شيء بالموت.
لذا فإن الإنسان الذي لا يعرف حدوداً لرغباته يظل يعيش– كجزاء وعقاب من الله– في حالة من "الجوع وعدم الاكتفاء النفسي"، وتتملكه في كل فترة من فترات حياته رغبة عارمة في تملك أشياء معينة. وهو في سبيل تحقيق رغباته تلك نراه يجري ويعمل بكل جهد حتى وإن أدّى به ذلك إلى أن يسلك في هذه السبيل طرقا ملتوية, ويكون مستعدا في هذا الخصوص لكي يعادي أقرب الناس إليه:عائلته وأقرباءه وأصدقاءه إن ظن أنهم سيكونون حجر عثرة أمام تحقيق رغباته, والغريب في الأمر أنه ما إن يحصل على بغيته حتى يبطل سحر ذلك الشيء لديه ويفقد قيمته وينطفئ بريقه مهما كان ذلك الشيء ثمينا. وكأنه لم يبذل في سبيله كل تلك الأشهر والسنوات. ثم إذا بنا نراه يبدأ مجدداً في السعي لإمتلاك شيء آخر وقعت عيناه عليه ويبدأ كما فعل سابقا العمل بكل جهد من أجل ذلك الهدف الجديد. . . وهكذا يستمر في سعيه دون انقطاع.
إن الشخص المنكر يستمر حتى وفاته في السعي من أجل امتلاك الجاه والمال وكل ما تقع عيناه عليه دون أن يفتر. ولا يسعد أبدا بما تملكه وحصل عليه, فلا يكون قنوعاً بما لديه لأنه لا يوجد في نيته كسب رضى الله بل العكس فهو يسعى من أجل إرضاء روح الأنانية التي تتملّكه, وهذا بالطبع يؤدي إلى أن يكون مختالاً ومغروراً بنفسه ولهذا فإن رب العالمين لا يمنح الطمأنينة الحقيقية وراحة البال لأمثال هؤلاء من الذين أصبحوا عبيدا لشهواتهم ولنزواتهم ولأنانيتهم.
ونجد هنا أن الله ذكر في قرآنه الكريم أن الذين يتوجهون إلى الله ويذكرونه باستمرار هم الذين يعيشون حياةً ملؤها الطمأنينة وراحة البال.
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ إلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد 28)
الانخداع بالحياة الدنيا
إذا أجال الإنسان بصره فيما حوله رصد الكثير من أنواع ومن صور الجمال التي تبهج النفس والفؤاد وتسر الأعين وهو يراقب كل هذه الأشياء بإعجاب كبير, فالتصميم الدقيق والدقيقة المصممة بكل جمال في جسم الإنسان. . . ملايين الأنواع من النباتات والزهور الجميلة. . . , انتشار قطع الغيوم الكبيرة وتناثرها على مساحات شاسعة في سماء رحب. . . بالإضافة إلى الكثير من المخلوقات والأشياء التي صممت بشكل دقيق تبعث في النفوس البهجة والسرور. بالإضافة إلى ما تشاهده الأعين فإن هناك حواساً أخرى تمنح الإنسان فرصة الاستمتاع بأشياء أخرى. مثلا حاسة التذوق التي تمنحنا فرصة تذوق الأطعمة المختلفة, وحاسة السمع التي تمنحنا فرصة الاستماع إلى مقطوعة موسيقية عذبة تخترق شغاف القلب, وحاسة الشم التي تجعلنا نشم رائحة وردة عطرة. فكم هو جميل ومبهج أن نشاهد منظر فاكهة متدلية من غصن شجرة وأن نشم رائحتها ثم أن نستمتع بطعمها اللذيذ؟. وكذلك ما نراه من اختلاف الألوان وتناغمها في الأزهار وأشكالها وصورها العديدة الجميلة والتي تمنحنا الإحساس بالبهجة والانشراح والمتعة, وكذلك منظر وجه جميل لإنسان، أو منظر بيت جميل أو سيارة حديثة. . . قائمة يطول الحديث عنها وهي تجعل بني البشر يجرون طوال حياتهم من أجل أن يظفروا بها. ولكن ما أن يلتفت إلى هذه الأشياء بعد مرور فترة من الوقت عليها حتى يقع في حيرة كبيرة لأنه سيرى أن كل هذه الأشياء قد فقدت جاذبيتها وجمالها, وانقلبت إلى حال لا يرغب أحد حتى في إلقاء نظرة عليها.
فالفاكهة اليانعة التي قطفت حديثا من الشجر والتي كانت نضرة وزاهية تفوح بعطر أخاذ نراها بعد فترة وقد فقدت نضارتها وبدأت علامات التلف تظهر فيها، وتبدأ تدريجيا في التعفن وتنبعث منها روائح كريهة. ثم ما بال تلك الأزهار الحمراء التي قطفناها من الحديقة والتي كانت تضفي على البيت جمالا؟ لقد فقدت رونقها ونضارتها بعد أيام معدودات وبدأت تذبل. . لنتأمل وجه إنسان حسن الطلعة فبعد 60 عاما عندما تتطلع إليه ترى أن التجاعيد والخطوط العميقة قد أخذت مكانها في وجهه واشتعل رأسه شيباً حتى لا نكاد نعرفه. وذلك البيت الذي طالما حلمت به تراه بعد سنين وقد أصبح بيتا بالياً, ونفس المصير سيواجه سيارتكم الحديثة حيث ستفقد جاذبيتها بعد بضع سنين، ويكون الصدأ قد انتشر في أجزائها المختلفة. والنتيجة التي نخلص إليها أن كل شيء موجود حول الإنسان يميل إلى الفساد والتحلل والبلى وإلى فقد جاذبيته وجماله وجدته.
قد يعتبر معظمنا هذه الأمور " نتيجة طبيعية أو مرحلة طبيعية" لا غرابة فيها. ولكن توجد هنا دون شك عبرة كبيرة ومعنى عميق. , لأن كل شيء عندما يواجه مصيره من العطب والقدم والتآكل يرسل لنا إشارة ورسالة مهمة هي: إن هذه الدنيا ما هي إلا سراب ووهم وخدعة كبيرة! وأن جميع الموجودات الحية من نبات وحيوان وإنسان مصيره إلى الفناء والزوال, وأن السبب الكامن وراء عدم إدراك هذه الحقيقة لدى الكثيرين منا يكمن وراء ولادة أجيال جديدة من الكائنات تأخذ مكان الذين أدركهم الموت, لذا فإن الإنسان الذي لا يدرك حقيقة الموت نراه يعطي أهمية كبيرة في هذه الدنيا للأشياء الفانية بينما الله تعالى هو صاحب كل شيء ومالكه، والأحياء يحيون ويموتون بإرادته وبقدرته وحسب مشيئته.
وقد حذرنا الله من خلال العديد من الأمثلة الموجودة في القرآن الكريم من الانخداع بزيف هذه الحياة ودعانا إلى التفكير بعمق في هذه الحقيقة:
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الأنعَامُ حَتَّى إذا أخذ تْ الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أنهم قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أو نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (يونس 24)
فكما تذكر الآية الكريمة فإن كل شيء جميل وحسن, سيأتي يوم يفقد فيه نضارته وحسنه بل حتى يفنى ويختفي من الوجود. ولكن معرفة هذا لا تكفي بل يجب التفكير بعمق في هذه الحقيقة الكبيرة, والله يقول بأنه يضرب الأمثال للذين يفكرون ويتأملون ويتعظون. وبما أن الإنسان كائن عاقل إذن عليه أن يفكر وأن يصل إلى نتيجة معينة من تفكيره. لأن الإنسان الذي لا يفكر ولا يتدبر ولا يعقل ولا يحمل مثل هذه الأوصاف المهمة لا يبقى هناك فرق كبير بينه وبين الحيوانات. ولا يميزه شيء عن سائر المخلوقات الأخرى، لأن هذه المخلوقات الأخرى تتوالد وتكبر وتتكاثر أيضاً وتستمر في الحياة ضمن القوانين التي تسيّرها, وطبيعي فهي لا تفكر كيف ولماذا خلقت, وأنها ستموت يوماً ما, وهي لا تكلف نفسها عناء البحث عن حقيقة هذه الحياة الفانية. وهذا شيء طبيعي بالنسبة إلى مثل هذه المخلوقات لأنها لم تخلق ككائنات مدركة أو صاحبة عقل. لأنها ليست مكلفة في البحث عن غاية الخلق وإدراك سر وجود الخالق, لكن الأمر يختلف مع الإنسان لأنه يكون مسؤولاً عن معرفة خالقه والعمل بما أمره به وهو مسؤول بأن يدرك بأن هذه الحياة ليست دار بقاء، بل هي مجرد دار زائلة يعيش فيها لفترة قصيرة قبل أن ينتقل إلى دار الآخرة. واجب عليه أن يدرك هذه الحقيقة ويبدأ بإعداد نفسه بأن يسلك جميع الطرق التي تجعله ينال مرضاة الله قبل أن يتقل إلى دار الآخرة, ولكن أي تصرف عكس هذا سوف يؤدي به لا محالة إلى مواجهة متاعب كبيرة في الدنيا وإلى عذاب شديد في الآخرة ً.
أمثلة من القرآن حول زوال الدنيا
ضرب الله لنا في القرآن أمثلة عديدة على زوال الحياة الدنيا. فقد استعرض العديد من المجتمعات الإنسانية التي عاشت في السابق وما أصابها من كوارث وما صب فوق رؤوسها من صنوف العذاب. كما أو ضحت الآيات القرآنية الوجه الحقيقي للحياة الدنيا وصاحب الجنة وحواره مع صديقه الوارد ذكرهما في سورة الكهف مثال على هذا:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أكثر مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبدا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أو يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلاية لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ( الكهف 32-46)
تشير هذه الآية الكريمة إلى مدى الخطأ الذي يقع فيه الإنسان عندما يغتر بماله وبقوته، وكيف أن الله يستطيع في لحظة واحدة سلب كل شيء عنه. وإلى الحقيقة نفسها تشير آية أخرى:
إِنَّا بَلَوناهم كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِين وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قال أوسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( القلم 17-33)
فقد يكون الإنسان غنياً ولا يكون سعيدا بغناه. وقد تكون المرأة حسناء ويكون هذا الحسنُ وبالا ً عليها. قد يكون الإنسان مشهوراً ولكن في يوم ما يعيش وحيداً ثم يموت وحيداً في إحدى الغرف دون أنيس ولا قريب. وقد ضرب الله لنا مثالا لهؤلاء قارون وكان من قوم سيدنا موسى عليه السلام, فهنا يشير الله إلى قارون و إلى الذين على شاكلته ممن خدعوا بزينة هذه الدنيا وهم ظاهراً يؤمنون بالله ولكنهم نسوا الله بانخداعهم بسحر هذه الدنيا.
يقول الله تعالى:
إن قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أو لِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخرة وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرض إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين قَالَ إِنَّمَا أو تِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أو لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أشد مِنْهُ قُوَّةً وأكثر جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُون فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أو تِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيم وَقَالَ الَّذِينَ أوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إلا الصَّابِرُون فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرضٍ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِين وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرض وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (القصص 84 – 76)
وكما رأينا فإن الخطأ الذي وقع فيه قارون لا يتعلق بإنكاره وجود الله, ولكن خطئه يكمن في تحركه
بصورة مستقلة عن إرادة الله وبإحساسه بامتلاك قدرة منفصلة ذاتية, وأن هذه القوة التي منحه إياها الله تعالى قد فسرها على أنها حق طبيعي لإحساسه بتفوقه على باقي البشر. لكن يجب معرفة أن الجميع هم عباد الله، ولا يحق لهم المطالبة بأي حق منه, وأن ما منحه الله لعباده هو فقط ناتج عن الكرم الإلهي وعلى الذين يعون هذه الحقيقة أن لا يتمردوا أمام ما أنعم الله عليهم ولا يعصوا ولا يفرحوا بهذا الشكل المبالغ به لما منحهم رب العالمين من نعم, بل عليهم أن يشكروه وأن يفرحوا بهذا الإحساس, وأن هذا السرور الذي يجب أن يعيشوه هو أعظم وأرفع إحساس في الدنيا.
أما الذين أتخذوا قارون وأمثاله قدوة لهم في حياتهم فسوف يواجهون بالخسران والفشل, و إذا استمروا في عدم الاتعاظ بما أصابهم من محن ومصائب جراء سلوكهم هذا عندها سيكون مأواهم الخلود في نار جهنم, وهذه الحقيقة عبرت عنها هذه الآية الكريمة:
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَ الأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (الحديد 20 )
قال الله تعالى :(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا)
عجز الإنسان
لقد خلق الله الإنسان على أحسن صورة, ومنحه صفات عليا, وفضله على كثير من مخلوقاته بما وهب له من إمكانية اتخاذ القرارات وإمكانية تطبيق ذلك عمليا، ووضع الخطط واستنباط الحلول إضافة إلى القدرات الذهنية الأخرى.
لكن يا ترى هل فكرتم لماذا يحتاج مثل هذا المخلوق الذي يمتلك كل هذه الصفات العليا إلى بدن خاص لكي يحميه؟ لماذا توجد هناك مخلوقات لا ترى بالعين المجردة بل باستعمال المجاهر الإلكترونية مثل البكتريا والفيروسات التي يمكن أن تسبب ضرراً قاتلا للإنسان؟ لماذا يضطر الإنسان أن يحافظ على نظافة بدنه طوال حياته؟ولماذا يعاني جسم الإنسان من الشيخوخة والهرم؟.
قد يعتبر البعض كل هذه الأمور أشياء طبيعية, فيما نرى أن هناك غاية خاصة لكل شيء تم إستعراضه حتى الآن وقد أو جد الله جميع التفاصيل التي من خلالها نرى عجز الإنسان وضعفه , ففي سورة النساء الآية 28 يسترعي انتباهنا إلى هذه الحقيقة بقوله: ( وخلق الإنسان ضعيفاً. . . . ) أي أن كل هذه الأمور موجودة لكي يعلم الإنسان بأنه خلق ضعيفا ً ويدرك مقدار ضعفه وعجزه أمام رب العالمين, وليعرف بأن هذه الدنيا لا يطول الأنتظار فيها.
فالإنسان لا يعرف متى وأين سيولد وأين ومتى سيموت, وهو مهما عاش حياة سعيدة فإن هناك عوامل يمكن أن تؤثر سلبا ً على سير حياته، وهو لا يملك أي آلية تمكنه من السيطرة على هذه السلبيات.
أجل!. . . إن جسم الإنسان يحتاج باستمرار إلى العناية به والمحافظة عليه لأنه لا يستطيع التكهن بما يمكن أن يتعرض له في هذه الدنيا حتى ولو كان يعيش في أي بقعة من بقاع الأرض سواء أكان يعيش في إحدى المدن الصناعية أم على بعد آلاف الكيلومترات من أقرب مدينة حضرية، أو في مكان يخلو من الماء والكهرباء في قرية نائية، فمن الممكن ومن المحتمل أن يتعرض هذا الشخص إلى مصيبة لم تكن في حسبانه أو يتعرض إلى مرض مميت أو إلى حادث يفقد به قوته أو سلطانه أو أحد أعضاء جسمه الذي طالما كان يفتخر به. إ
وهذا الأمر يسري على الجميع وعلى كل شخص مهما اختلف موقع هذا الشخص من الناحية الاجتماعية أو المادية, بمعنى ان كل شخص سواء أكان راعيا يصحب حيواناته إلى المرعى أو نجما مشهوراً على المستوى العالمي فهو معرض للمرور بتجارب وحوادث تغير مجرى حياته بشكل لا يتصوره.
إن معدل وزن الشخص يتراوح بين 70-80 كغم وهو عبارة عن كتل من لحم وعظم, وهناك طبقة خفيفة من الجلد تغطي هذا اللحم. وهذا الجلد الرقيق إذا تعرض إلى ضربة ظهرت عليه الكدمات، ويمكن أن يخدش ويجرح بسهولة, وهذا الجلد لا يتحمل التعرض للشمس لفترات طويلة، فإذا تجاوز هذا التعرض الحد الطبيعي احمر في البداية الأمر ثم انتفخ. وبإختصار فإن الشخص الذي يتعرض إلى جو حار يجب أن يتخذ احتياطاته اللازمة لكي يحمي نفسه.
لقد خلق الله الإنسان على أحسن صورة وجهزه بنظام متكامل، ولكن الحكمة الإلهية قضت أن يكون
جسم الإنسان عبارة عن لحم ودهن، وهي مواد قابلة للتلف بسرعة، وذلك من أجل إبراز حقيقة فناء هذه الدنيا و بأن هذه الحياة ما هي سوى رحلة قصيرة. و إذا تخيلنا أن جسم الإنسان خلق من مادة أخرى قوية شبيهة بالدرع, حينذاك لا يمكن لأي جرثومة أو فيروس أن يخترق بدنه فلا تصيبه مختلف الأمراض المعروفة. فالمكونات الأساسية لجسم الإنسان هي الدهن واللحم وهي مواد قابلة للتلف بسرعة كبيرة. فإذا قمنا بتجربة وتركنا هاتين المادتين في العراء نلاحظ فساد وتلف هاتين المادتين بسرعة كبيرة. إن الحكمة من جعل اللبنات الأساسية لجسم الإنسان من هذه المواد القابلة للتلف هي إثبات عجز هذا الإنسان وضعفه. إن إحساس الإنسان بعجزه بشكل مستمر هو تذكير دائم من الله تعالى للإنسان. مثال على ذلك نلاحظ كيف إن تيارا هوائياً بارداً يترك آثاراً سلبيةً واضحةً على جسم الإنسان والذي يبين عجز جسم الإنسان. حيث بإمكان هذا التيار البارد أن يشل شيئا فشيئا أجهزة مناعة الجسم الفيزيولوجية.
لهذا فإن تثبيت درجة حرارة جسم الإنسان في مثل هذه الظروف وبصورة مستمرة في حدود 37 درجة مئوية ضروري جدا للمحافظة على صحته(1). ولكن في حالة تعرض جسم الإنسان إلى تيار هوائي بارد جدا فهذا سيؤدي إلى الانهيار التدريجي للجسم.
في البداية تتسارع دقات القلب ويبدأ جسم الإنسان في الارتعاش لكي يدفئ نفسه(2)، فإذا هبطت درجة حرارة الجسم إلى 35 مئوية فهذه علامة خطرة وستؤدي إلى نتائج وخيمة، إذ تبدأ ضربات القلب بالتباطؤ، وينخفض ضغط الجسم, وتبدأ الشرايين( ولا سيما في كل من الأذرع والأفخاذ والأصابع) في التقلص. والملاحظ أنه عند هبوط درجة الحرارة إلى 35 م يبدأ إحساس الشخص بالتبلد ويعاني أيضاً من عدم الدقة في تعيين الاتجاهات ويغلب عليه النعاس ويتشتت انتباهه, كما يعاني من شرود ذهني. وإذا استمر في تعرضه لموجة البرد هذه فترة أطول تهبط درجة حرارة الجسم إلى 33 درجة مئوية, وهذا يؤدي به إلى فقدانه الذاكرة والوعي. وعندها تهبط حرارة الجسم إلى 24 درجة مئوية يتوقف الجسم عن التنفس. وعند درجة حرارة 20 مئوية يتوقف الدماغ وتقف دقات القلب وهذا يؤدي بالنتيجة إلى وفاة الشخص. المثال المذكور أعلاه إحدى الأمثلة, وسوف نتناول في الصفحات القادمة من هذا الكتاب أمثلة أخرى وبشكل تفصيلي توضح عجز الإنسان وضعفه من الناحية الجسدية. إن غايتنا من هذا العرض هو إظهار أن العجز الذي هو صفة من صفات جسم الإنسان يحول دون وصوله إلى الإشباع الحقيقي في هذه الدنيا ويحول دون الجري الأعمى خلف هذه الرغبات الفانية، ويذكره بالحقيقة الواضحة التي لا جدال فيها وهي أن الجنة هي دار البقاء، لذا عليه أن يوجه جل اهتمامه للظفر بها. وفي الصفحات القادمة سنستعرض كيف أن الجنة هي المكان الذي يخلو من جميع أنواع العجز الجسدي وضعفه، ومن كل أنواع النقص والعيوب، حيث سيجد الإنسان هناك كل ما يطلبه ويشتهيه، ويكون بعيدا عن كل ما يعكر صفو حياته من جوع أو عطش أو مرض أو شيخوخة أو تعب. . . . . . . إلخ. إن هذا يظهر حقيقة أن هناك عظمة تفوق الإنسان وان هناك حقيقة واضحة وهي أن الإنسان بحاجة ماسة إلى الله تعالى في جميع الأوقات. ويؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة من خلال آيات عديدة منها الآية الكريمة :
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إلى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (فاطر 15)
متطلبات الجسد
هناك الكثير من النواقص في جسد الإنسان، فالإنسان بداية يضطر لأن يحافظ على نظافة محيطه, ويأخذ الوقت الذي يصرفه في هذا السبيل نصيبا وافراً من حياته. فالكثير من الاستطلاعات المنشورة تبرز الوقت المبذول في عملية الغسل في الحمام كالحلاقة وغسل اليدين والرجلين والشعر والجلد... الخ. نلاحظ هنا طول المدة الزمنية المستغرقة من عمره وهو يقوم بهذه الأعمال التي نندهش عند القيام بحساب طول المدة الزمنية لها، فهي مدة لا تخطر على بال الإنسان.
إذا حولنا نظرنا إلى ما يحيط بنا سنرى أناساً من مختلف الصنوف من البشر، سنجد أن الكثير منهم يهتم بنظافة جسمه وملابسه, ونرى السيدات اللائى يضعن المكياج ويصففن شعورهن بشكل دقيق، ويلبسن ملابس مكوية بشكل جيد. ترى هل يفكر أحد من الرجال أو النساء كم يصرف من الوقت لكي يظهر بهذا المنظر المناسب ؟
كما نعلم فإن المعتاد عند الكثيرين هو القيام بعمليات التنظيف المعتادة عند النهوض صباحا من النوم لحين توجههم إلى النوم مساء، وتشمل غسل جميع أعضاء الجسم. فأول عمل يقوم به الإنسان بعد الاستيقاظ في الصباح هو التوجه إلى الحمام ليقوم بغسل أسنانه نتيجة للترسبات المتراكمة في فمه من الجراثيم التي تتسبب في انبعاث روائح كريهة غير مستحبة. كذلك إلى عمليات أخرى يقوم بها الإنسان عند نهوضه صباحا. فلأن الدهون المتراكمة في وجهه وشعره وتكاثر القشرة بين بصلات شعره وما يفرزه جسمه من عرق كريه الرائحة غير مرغوبة بها، يضطره للإستحمام، وإذا لم يقم بالإستحمام فإن الدهون المتراكمة على جسمه وعلى شعره سيجعل من الصعب عليه أن يخالط الناس. والملاحظ أن كثرة مواد تنظيف الجسم وتنوعها تجعلنا نفكر إلى مدى الحاجة الماسة لهذه العملية. فبالإضافة إلى المواد التقليدية المعروفة كالماء والصابون فإن هناك مواداً أخرى يجب استخدامها لإزالة طبقات الجلد الميتة المتراكمة على جسم الإنسان. وعلاوة على تنظيف الجسم، فإن كل إنسان يخصص وقتا طويلا أيضاً في الاهتمام بنظافة ملابسه ونظافة بيته وبيئته التي تحيط به. وإلا فإنه يصعب الاقتراب من شخص انقضى على لبس ملابسه زمن طويل, أو ترك بيته دون تنظيف. وبإختصار فإن الإنسان يخصص من حياته زمناً مهما للقيام بأعمال التنظيف والصيانة المختلفة وهو يستعين بمعدات ومواد كيماوية مختلفة للقيام بهذه الأعمال.
عندما خلق الله جسم الإنسان ضعيفاً وعاجزا،ً وهب له إمكانية ستر هذا العجز وعدم إظهاره ولو بشكل مؤقت, كما وهبه القدرة على التفكير التي يستطيع من خلالها إخفاء هذا العجز وتنظيف جسده. ولكن البعض ممن لا يفكرون بشكل سليم ولا يستعملون الوسائل التي زودهم الله بها يظهرون بمظهر سيئ أمامنا، ولاسيما عندما لا يستعملون مواد التنظيف اللازمة, لذا يبدون بصورة مزرية ومنفرة جدا. ولكن مهما اجتهد الإنسان في عمليات التنظيف والعناية بجسمه فإنها ستكون مؤقتة. فإذا قمت بتنظيف أسنانك فبعد مرور ساعة واحدة فقط سيبدو وكأنك لم تقم بغسلها, و إذا أستحم أحدهم في الصيف مثلا، فإنه وبعد ساعة أو ساعتين سيبدو وكأنه لم يستحم, كذلك فكروا في حال امرأة قضت ساعات طويلة أمام المرآة لكي تبدوا بصورة جميلة بعد وضعها المكياج بشكل متقن ودقيق على وجهها، إذ لن يمر وقت طويل حتى لا يبقى أي أثر لهذا المكياج حتى وإن ظلت بقايا من هذه المواد فإنها تأخذ في الوجه شكلا غير مرغوب به.
أما الرجل الذي يحلق وجهه بعناية كبيرة - وهذا يستدعي أن يخصص زمنا لا باس به من وقته - فسيضطر بعدما ينهض في صباح اليوم التالي أن يعيد مجددا العملية نفسها. !!
المهم هنا هو الإدراك بأن هذا الضعف الجسدي يشير إلى غاية معينة، وان هذا العجز أو النقص قد وضع بصورة خاصة فينا، وهي ليست عيوب جبرية.
دعونا نتأمل هذا المثال : إن الشخص الذي ترتفع درجة حرارة جسمه سيعاني بعد فترة من التعرق وهذا شئ طبيعي وان الرائحة المنبعثة من هذا التعرق ستكون كريهة للغاية. إن كل فرد يعيش على وجه الأرض يواجه باستمرار مثل هذا الوضع.
ولكن الأمر مختلف عند النباتات : فمثلا إن الوردة يمكن أن تنبت في أراض مختلفة، فالزهرة التي تنبت بشكل طبيعي في إحدى الأزقة أو في شارع من الشوارع تكون معرضة لمختلف أنواع التلوث والأوساخ، ولكن هذا لا يؤثر على عدم نشرها لرائحتها الزكية. وهي مهما تعرضت لأي درجة من درجات التلوث والقذارة فهذا لا يجعلها تفوح بروائح كريهة، بل تظل تحتفظ دوماً برائحتها الزكية, وهي لا تحتاج إلى من يقوم يومياً بتنظيفها وبرعايتها. ولكن الأمر مختلف مع الإنسان, فالله تعالى منح الإنسان مختلف صنوف النقص لكي يحس بعجزه وبضعفه، فهو على الرغم من استعماله لمختلف وسائل التنظيف ومواد التجميل والروائح المعطرة لا يستطيع أن يجعل رائحته زكية وفواحة بصورة مستمرة ومن جميع أنحاء جسده. وبالإضافة إلى هذا العجز الجسدي فإنه يحتاج إلى الغذاء لكي يستمر في الحياة، ويجب أن تكون تغذيته هذه على مستوى عال من التنظيم. فجسم الإنسان يحتاج إلى أن يتناول في الوقت نفسه مواد غذائية تحوي فيتامينات وبروتينيات وسكر وكربوهيدرات ومختلف الأنواع من الأملاح. فإذا حدث وان كانت الكمية المأخوذة من المواد التي ذكرناها غير كافية, فإن الأعضاء الداخلية لجسم الإنسان ستعاني من أضرار كبيرة، وكذلك أنسجة الجلد ستعاني هي الأخرى من أضرار كبيرة، وكذلك ستضعف منظومة المقاومة في جسمه. ولهذا السبب فبقدر اهتمامه بنظافة جسمه عليه أن يبدي نفس الأهتمام بنظام تغذيته. هناك حاجة ملحة أخرى للإنسان حتى إنها تعتبر أهم من الغذاء، لأنه يمكنه العيش لمدة من الزمن دون تناول للطعام، ولكن لا يستطيع العيش أكثر من بضعة أيام دون شرب الماء. لأنه إذا لم يدخل الماء جسمه بأي شكل من الأشكال خلال هذه الفترة فإنه سيموت لا محالة, لأن جسم الإنسان بحاجة ماسة للماء على الدوام، فجميع الفعاليات الكيماوية الحياتية التي تتم داخل جسم الإنسان والتي تديم الحياة تتم من خلال الماء الذي يلعب دورا حيويا. أن ما تم استعراضه هنا يمثل النقص والعجز الذي يصاحب كل فرد من بني البشر. ولكن هل جميع البشر يدركون بأن هذا يمثل نقصاً أو عجزا ً؟ هل يستوعب الجميع هذا الأمر؟ أم لكون الجميع مشتركون بهذا العجز والنقص يجعلهم يعتبرون الموضوع شيئا طبيعيا ؟ إن ما تم أستعراضه هنا من أو جه النقص والعجز شاملةً لجميع البشر، ولكن ما يجب تذكره وعدم نسيانه هو أن الله تعالى لو شاء ما جعل هذا النقص والعجز موجوداً عند الإنسان، ولجعله نظيفا يفوح دوما برائحة طيبة مثل الورود.
إذن يجب التذكر بأنه لو شاء الله ما جعل هذا النقص والعجز موجودا لدى الإنسان، ولكن لحكمة معينة خلق الله تعالى الإنسان بكل هذه النواقص. والإنسان الذي يشاهد بجلاء هذا العجز أمام خالقه عليه أن يسير في الطريق الذي رسمه الله تعالى له ودعاه أن يسير فيه وألا يحيد عنه, وألا يربط نفسه بهذه الدنيا الزائلة والناقصة, وان يستعد بكل جد ويتأهب لدار الخلود.
خمسة عشر عاما من عدم الوعي
على كل إنسان أن يأخذ في كل يوم قسطاً من النوم لفترة زمنية معينة مهما كان مشغولاً أو حتى ولو لم يكن راغبا في النوم, فلا مفر أمامه من قضاء ربع يومه في النوم لكي يريح جسده وعقله، وإلا يصبح من غير الممكن أن يستمر على قيد الحياة. ففي اليوم الواحد نراه يقضي 18 ساعة وهو في أتم وعيه، والمتبقي من الزمن وهو 6 ساعات يكون غائبا عن وعيه تماماً. وإذا نظرنا إلى الموضوع من هذه الناحية نرى نتيجة مثيرة, وهي أننا لو اعتبرنا معدل عمر الفرد 60 عاما وحسبنا أنه يقضي ربع يومه في النوم فهذا معناه إن كل شخص يقضي 15 سنة من عمره وهو غائب عن الوعي. ونحن نلاحظ بجلاء كيف أن عيون الشخص الذي لم ينم لمدة يومين تصبح حمراء كالدم، ويبدو جلده وكأنه قد فقد حيويته وبهت لونه,
وإذا استمر على هذه الحالة فسيفقد وعيه لا محالة.
فالإنسان لا بد له أن يغمض جفنيه ويغيب عن الوعي وينام خلال يومه سواء أراد ذلك أم أبى, فهذه قاعدة لا تتغير ولا مفر منها سواء أكان الشخص غنيا أم فقيراً, جميلاً أم قبيحاً. فإذا أستسلم أحدنا إلى النوم فسيبدو كأنه شخص ميت لا يحس بأي شئ، ولا يقوم بأي رد فعل. فعلى الرغم من سلامة الأذنين (اللتان كانتا تسمعان وتفهمان الأصوات الصادرة قبل قليل) تصبحان عاجزتين عن أداء فعالياتهما المعتادة على الرغم من عدم وجود خلل ما في نظام الجسم الفيسيولوجي، حيث تهبط جميع الفعاليات البدنية إلى أدنى حد ممكن. ونلاحظ أن تركيز نظام الجسم ودقته يهبطان إلى أدنى مستوى لهما, وهذا يعد نوعا من أنواع الموت. لأن الجسد يرقد في الفراش بينما روحه تتجول في أماكن أخرى ويشعر بأنه يعيش حوادث مختلفة, فقد يرى نفسه وهو على شاطئ بحر ويحس بحرارة الجو، ولكن الحقيقة هي أنه مازال راقدا في فراشه ويغط في نوم عميق. ويحدث الموت التأثير نفسه فهو يأخذ روحنا من بدننا هذا الذي نعيش به في هذه الدنيا وينقلنا إلى عالم جديد. والقرآن الكريم يتطرق إلى هذا التشابه بين الموت والنوم بقوله :
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أجل مُسَمًّى ثُمَّ إليه مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( سورة الأنعام 60)
هناك آية أخرى تصف التشابه الموجود بين الموت والنوم بقوله تعالى :
اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أجل مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (سورة الزمر 42 )
وأكثر الناس لا يفكرون أبدا في مفهوم غيابهم عن الوعي والإدراك وعدم قيام أجسامهم بالفعاليات المعتادة لفترة تأخذ ربع مساحة يومهم وبالتالي ربع سنوات حياتهم الدنيوية, حيث يبدون خلالها وكأنهم موتى، ولا يخطر على بالهم أنهم خلال استغراقهم في نومهم مضطرون لترك كل شيء جانبا مهما كان الأمر عاجلا ً, حيث تصبح بعض الأعمال التي قاموا بها وبعض الفعاليات التي أجروها خلال يومهم هذا لا تحمل أي معنى خلال نومهم وغيابهم عن الوعي, مثل ما ربحوا من نقود, أو دخولهم لإمتحان مهم, أو شرائهم هدية ثمينة, لأنهم دخلوا إلى عالم انقطع من خلاله ارتباطهم بهذه الدنيا.
لقد استعرضنا سابقا من خلال بعض الأمثلة مدى قصر هذه الحياة الدنيا، ومدى انشغال الإنسان لإنجاز هذه الأعمال الضرورية، فإذا تم طرح الزمن الذي تم قضاؤه في هذه الحياة لإنجاز هذه الأعمال الضرورية, فسيجد أن المتبقي من الزمن الذي سيقضيه الإنسان لكي يلهو ويعمل ما يحلو له ويحقق رغباته لكي يستطيع أن يقول لنفسه ``إنني أعيش في هذه الدنيا كما يحلو لي``... سيجد أن هذا الزمن قليل جداً. لأن الزمن الذي يقضيه لإنجاز أعمال ضرورية مثل النظافة والتنظيف والنوم, وكذلك الزمن المهدر في ذهابه إلى عمله وإيابه منه لكي يضمن العيش في ظروف حياتية أحسن. . . كل هذه الفعاليات تأخذ مساحة واسعة من الزمن المتبقي من حياته.
ومما لاشك فيه فإنّ الحسابات والأرقام المتعلقة بمقدار الزمن الذي يقضيه الإنسان وهو يعيش أوضاعاً وأحوالا مختلفة تدعو إلى الدهشة. فكما نوهنا سابقا بأننا لو فرضنا بأن معدل عمر الإنسان هو 60 عاما فإنه يقضي ما لا يقل من 15 إلى 20 سنة في النوم، والمتبقي هو 40 سنة إلى 45 سنة يقضي منها 5 إلى10 سنوات في مرحلة الطفولة التي لم يتكامل بعد فيها وعيه وشعوره تماما. وهذا يعني أن الإنسان الذي يعيش قرابة 60 عاما يقضي نصف عمره تقريبا في حالة من عدم الوعي. أما المتبقي من عمره فيمكن التطرق إليه من خلال إعطاء بعض الأرقام. مثال ذلك الزمن الطويل الذي يقضيه في إعداده الطعام والأكل، وتنظيف جسمه وبيئته من حوله، والزمن المهدر في الطريق لكي يتنقل من مكان إلى مكان آخر. وطبعا نستطيع أن نزيد من عدد هذه الأمثلة.
وفي النهاية نرى أنه لم يبق من عمره الطويل سوى ما بين ثلاث إلى خمس سنوات لكي يشبع رغباته وحاجاته الطبيعية. حسنا!.... ما هو وجه المقارنة الأن بين حياة أبدية وخالدة وبين هذه الحياة القصيرة جدا؟.
في هذه النقطة الفاصلة يظهر الفرق الكبير بين أصحاب الإيمان الحقيقي وبين المنكرين والعصاة.
إن الإنسان العاصي والمنكر يحسب أن الحياة هي الفترة الزمنية التي يقضيها على وجه الأرض فقط، وهو يتعب من دون جدوى لكي يستمتع بطعم هذه الحياة الفانية التي تمر كلمح البصر، لأنه كما ذكرنا منذ البداية فالحياة الدنيا هذه قصيرة جدا وهي تشتمل على نواقص عديدة, ونتيجة لعدم اعتمادهم وتوكلهم على الله فإنهم يجترعون طوال حياتهم الآلام الناتجة عن المصاعب الدنيوية من القلق والتفكير فيما سيحدث في الغد.
أما أصاحب الإيمان الحقيقي فهم يعملون طوال حياتهم لكسب رضا الله تعالى, وهم يعيشون حياتهم بطمأنينة وسكينة، بمنأى عن جميع المخاوف والأحزان نتيجة لانقيادهم لله تعالى، وهو ما يقودهم في النهاية إلى الفوز بدار النعيم الخالد ألا وهي الجنة.
والحقيقة أن غاية وجود الإنسان على وجه الأرض هي إمتحان لتصرفاته وسلوكه. لأن الله جل شأنه وعد الذين يتحلون بالأخلاق الحميدة والصفات الجميلة بالسعادة في الدنيا وفي الآخرة :
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهم الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون-َ (سورة نوح 31 – 30)
الأمراض والحوادث
الأمراض هي إحدى العلامات التي تذكر بعجز الإنسان، فنلاحظ أن الجسم المحصن والمحمي بشكل جيد يتأثر سلباً وبشكل جدي بالفيروسات والجراثيم التي لا ترى بالعين المجردة. ففي الوهلة الأولى فإنه من الصعب التصديق بأن بدن الإنسان يمكن أن يقع فريسة في أيدي هذه المخلوقات المجهرية بعدما زوده الله تعالى وعلى أكمل وجه بمختلف أنظمة وأجهزة الحماية المدهشة و بالأخص النظام الدفاعي المدهش والمناعة الموجودة في جسم الإنسان.
لكن رغم كل هذه النظم الدفاعية والتحصينات الموجودة في جسم الإنسان نراه يتعرض لمختلف الأمراض والعلل. فالنقطة التي يجب التفكير فيها هنا هي أن الله تعالى الذي منح الإنسان كل هذا النظام المذهل لو شاء ما جعل الإنسان يصاب بمثل هذه الأمراض ولا يتأثر مطلقا بهذه الجراثيم والفيروسات والبكتريا، بل لو شاء ما خلق هذه الجراثيم. لكن الملاحظ أن الإنسان يمكن أن يتعرض لخطر حقيقي من أصغر وأتفه الأسباب. ومثال على ذلك, أنه لو وجد في الجلد جرح صغير فإن فيروساً واحداً يستطيع إختراق الجسم من خلال هذه الفتحة الصغيرة ويتكاثر وينتشر في جميع أنحاء الجسم. فمهما تقدمت التكنولوجيا فإن أبسط جرثومة زكام يمكنها وبكل سهولة أن تسبب إزعاجاً جدياً للإنسان. والتاريخ يقدم لنا شواهد كثيرة على مثل هذه الحوادث, فمثلا نلاحظ كيف أن إحدى أنواع أو بئة الزكام التي انتشرت في إسبانيا عام 1918م قضت على أكثر من 25 مليون إنسان، وفي ألمانيا أنتشر وباء تسبب في وفاة 30 ألف شخص. إن ما ذكرناه ليست إحدى الأخطار البعيدة عنا، بل يمكن أن يتعرض لها كل إنسان وفي أي لحظة. وبالطبع فمن الخطأ المرور على هذا الموضوع دون تفكير فيه، واعتباره أمراً طبيعياً.
إن الأمراض من ضمن عوامل الضعف الأخرى التي وضعها الله تعالى في الإنسان لكي يدرك المتكبرون منهم مدى ضعفهم وعجزهم، ويجعلهم يستوعبون أيضاً الوجه الحقيقي لهذه الدنيا الفانية.
بالإضافة إلى الأمراض فإن هناك مخاطر أخرى يواجهها الإنسان في حياته ألا وهي الحوادث المختلفة. فعلى سبيل المثال حوادث المرور التي اعتدنا مشاهدتها في التلفزيونات وقراءتها من الصحف. فالإنسان لا يفكر كثيرا باحتمال تعرضه يوما ما لمثل هذه الحوادث. كما يمكن للإنسان أن يتعرض خلال ساعات يومه إلى حوادث أبسط بكثير من حوادث المرور وما أكثرها. فكثير ما نسمع أن أحدهم كان يمشي في طريق مستو و إذا بقدمه تصطدم بشيء ما فيقع على رأسه فيحصل عنده نزيف دماغي. أو نسمع عن شخص فقد توازنه وهو ينزل من سلم البيت ووقع فانكسرت قدماه ورقد في الفراش أشهر عديدة. أو عن شخص انسد مجرى التنفس عنده عندما كان يتناول الطعام مما أدى إلى حدوث عملية إختناق لديه. فكل هذه الحوادث ما هي إلا نتيجة أسباب بسيطة, ويمكن أن يتعرض لها بكل سهوله الآف الناس في مختلف بقاع الأرض.
وأمام استعراضنا لمثل هذه الحقائق فإنه يجب على الإنسان أن يفكر في معنى عدم الإرتباط بهذه الدنيا. فيجب عليه أن يدرك بأن كل شئ منح له بشكل مؤقت من أجل اختباره، فهو لا يستطيع أن يقاوم جرثومة واحدةً دخلت جسمه وعرضت حياته لخطر حقيقي, كذلك لا يأمن انزلاق قدمه عند عدم دقته في حساب خطواته التي يمشيها، لذا فكيف يجوز له أن يتجاهل كل هذا العجز ويتكبر تجاه خالقه؟
لا شك أن الله تعالى الذي خلق الإنسان قادر وحده على أن يحميه من جميع المخاطر. ولا يملك الإنسان حماية نفسه من مختلف الأضرار والمخاطر المحيطة به مهما توهم نفسه كبيراً ومهما اغتر بقوته ولا أن ينفع نفسه بعيدا عن قدرة الله تعالى. ولكي يتذكر عجزه فإن الله تعالى قادر على أن يجعل في جسمه مختلف أنواع الأمراض, وإذا شاء الله تعالى جعل في بدنه الكثير من العاهات. وأخيراً - وكما بينا في البداية - فإن الله تعالى خلق الدنيا لكي يمتحن عباده, وكل إنسان مكلف أن يعمل الأعمال الصالحة لكي ينال رضا الله تعالى، وعليه أن يتبع مختلف الطرق لتحقيق هذه الغاية الكبيرة. وستكون الجنة من نصيب الذين يتحلون بهذه الأخلاق الحميدة من الذين يتبعون ما أمرهم به ربهم وينتهون عما نهى عنه.
أما الذين يعاندون ويتكبرون ويطغون ويؤثرون هذه الحياة القصيرة الزائلة فسيتجرعون الكثير من الأحزان والآلام.
النتائج المتولدة من الأمراض والعاهات
كما ذكرنا سابقا فإن الأمراض والحوادث ما هي إلا بعض الوسائل التي خلقها الله لكي يختبر بها الإنسان في هذه الدنيا. فالإنسان المؤمن والصادق في إيمانه إذا ألم به أي حادث لجأ إلى الله بالتضرع والبكاء، لأنه يعلم جيدا بأنه ليست هناك أي قوة على وجه الأرض تستطيع إنقاذه سوى الله تعالى.
وبالطبع فإن الله تعالى الذي يختبر إيمان الإنسان وصبره وتوكله في مثل هذه الحوادث سيمنح هؤلاء المؤمنين مقابل هذا الإحسان سعادة لا نهائية، وكما ذكر القرآن الكريم كان سيدنا إبراهيم عليه السلام نموذجاً مثالياً من خلال حسن تصرفاته وصدقه في توجهه ودعائه إلى الله تعالى. لذا فحري بالمؤمنين أن يحتذوا حذو سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي كان دعاؤه:
وَإذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (الشعراء 79-81 )
ومثال آخر هو سيدنا أيوب عليه السلام الذي لجأ إلى الله تعالى في كربته, حيث نجاه من الأمراض والآلام الشديدة التي أصيب بها وصبر عليها سنوات طويلة، وبذلك أضحى أنموذجاً للصبر يحتذي به من قبل المؤمنين :
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ( سورة ص 41 )
إن أمثال هذه المعاناة لا تزيد المؤمنين إلا نضجاً وتعد خيراً بالنسبة إليهم, بينما كل كارثة أو مرض يعد للملحد نوعاً من أنواع البلاء, لذا نراه يتقلب بين جوانح الألم لأنه لا يدرك بأنه قد خلق لحكمة معينة, وأنه في الآخرة سيحصل على مكافأة مقابل هذه الآلام إن توكل على الله تعالى وصبر عليها. وعلاوة على هذه الآلام المادية فهناك بجانبها الآلام المعنوية. لأن القيم السائدة في مجتمع ونظام ينكر الله تعالى هي قيم مادية بحتة. فإذا تعرض شخص معروف ومحبوب لدى الكثير من الناس لحادثة أقعدته عن الحركة وأصبح لا يقوى على مزاولة نشاطه المعتاد نرى بأن معظم أصحابه القدماء يتركونه وحده ولا يبدون الأهتمام السابق به، أو يهملون حتى السؤال عنه، فإذا كان جميلاً وفقد جماله, أو إذا كان شخصاً قوياً وفقد قوته فإن الاهتمام به يقل عما كان عليه قبل ذلك, والسبب يعود إلى أن المجتمعات التي تعيش بعيدة عن قيم الدين نرى أن الأفراد فيها يقَيمون بعضهم البعض بروابط مادية فقط, لذا فإن حصل لأحدهم ضيق مادي فإن قيمة هذا الإنسان تنتهي. فمثلا نرى زوجة وأقرباءً الشخص الذي يصاب بعاهة جسدية يبدءون بإظهار تذمرهم وضيقهم منه، ويبدأ المصاب بعاهة جسدية بشرح سوء حظه هذا لأصدقائه وأقربائه، فمنهم من يتحسر على شبابه وبأنه مازال في ربيع عمره وأنه لا يستحق أن يقع في مثل هذه الحال، ويظل نادباً حظه العاثر.
في النهاية فإن عدم إظهار الأهتمام اللازم بهذا الشخص المصاب سيدفعه لكي يطلب المزيد من الأهتمام والرعاية من أفراد عائلته وأقربائه. ويتمنى معظم المحيطين به والقريبين منه أن يتركوا مثل هذا الإنسان العاجز المريض لشأنه ويبتعدوا عنه، ولكنهم لا يجرأون على مثل هذا التصرف خوفاً من الناس ولومهم وخوفاً من تنديد المجتمع بهم وما سيقولونه عنهم إن تصرفوا على ذلك النحو.
والغريب أننا نرى أن الأفكار والأفعال والعبارات التي تنم عن الأنانية والمصالح الشخصية تحل محل كلمات وعبارات الوفاء والثناء عندما كان هذا الإنسان في أتم غناه وصحته. وفي الحقيقة فليس من الغريب على الذين يعيشون ضمن هذا النظام الجاهلي والمادي أن يكون مفهوم الصداقة والوفاء قصيراً بهذا الشكل وغير دائم، فليس من الممكن أن تنتظر من الشخص الذي يخلو قلبه من مخافة الله والذي يقيم جميع علاقاته البشرية على المعايير المادية فقط أن يدرك معنى الصداقة الحقيقية, لأنه يعتبر حسب منطقه أن من الحمق أن يتصرف الإنسان بشكل جيد وقويم مادام لا يؤمن بوجود أي آلية تقوم بمعاقبته إن اقترف أعمالا غير صالحة، كما يرى أنه من العبث قيام أي شخص - حسب المنطق الجاهلي الذي يؤمن به- بأي تضحية لشخص آخر، أو إظهار وفاء غير مبرر مادام يعتقد أنه بعد سنوات سيموت وسيفنى إلى الأبد. ولكون كل فرد في مثل هذا المجتمع الجاهلي يؤمن بنفس المنطق وهو أنه سيذهب إلى ظلمة العدم بالموت، وسينتهي به الأمر إلى عالم الفناء ففي هذه الحالة نجد أن كل فرد منهم يفكر في مصلحته وفي راحته الشخصية فقط.
ولكن الوضع يختلف مع المؤمنين، فالذين يؤمنون بالله ويعترفون بعجزهم وبضعفهم ويخافون الله تعالى ويحبونه، فإنهم يُقيمون علاقاتهم الشخصية ويبنونها على ضوء ما أمرهم الله تعالى به. فأهم الخصال التي يجب أن يمتلكها المؤمن هي التقوى, التي تعني مخافة الله تعالى وخشيته وهذا ما يجعله يمتلك خلقا أصيلا وصفات حسنة وحميدة.
فإذا امتلك شخص ما في هذه الحياة مثل هذه الصفات الحميدة - وإن كان يعاني من بعض العاهات الجسدية – فإن مآله سوف يكون الجنة خالدا في نعيمها. وهذا ما وعده الله تعالى للمؤمنين به. لذا فإن المؤمنين ومن هذا المنطلق يكونون فيما بينهم على درجة عالية من الوفاء والحب والصداقة الحميمة والستر على عيوب الآخرين ونقائصهم، ومعاملتهم بالرحمة والشفقة. وهذا الاختلاف الكبير ما هو إلا عقاب للمجتمع الجاهلي الذي يعيش بلاءً كبيراً في الحياة الدنيا سلّطه الله على هؤلاء المنكرين وغير المنكرين.
إن الذين عاشوا في هذه الدنيا كما يحلو لهم، وتصرفوا كيفما شاءوا دون محاسبة سيعيشون في الآخرة رعباً كبيراً لأنهم سيحاكمون على ما اقترفوه من أعمال وأفعالِ قبيحة من ظلم ٍ وجحود وأخلاق دنيئة. وتشير الآية الكريمة على إن الكفار الذين تخلقوا بالأخلاق والتصرفات السيئة ستكون وبالا ًعليهم في الحياة الدنيا بقوله:
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِ لأنفسهم إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (آل عمران 178 )
الشيخوخة
نرى بوضوح التأثير السلبي للعامل الزمني في كل شئ. فالسيارة حديثة الطراز بعد مرور بضع سنين ستبدأ بالتعرض لمختلف الأعطال والخدوش, وهذا ما سيؤدي إلى قدمها, وهي نتيجة لا مفر منها. كذلك الحال للبيت الذي إذا ترك خمس أو عشر سنوات ( من دون القيام بالأهتمام اللازم به ) فإنه سيبدو بمظهر قديم نتيجة لفقدان أصباغ البيت ورونقه, ولكن الأهم من كل هذا هو مشاهدة الإنسان نفسه بصمات الزمن على جسده. فمع تقدم العمر تظهر آثار سلبية على مختلف أنحاء جسمه والتي لا يمكن تلافيها ولا إخفاءها مع أن الإنسان يحاول الحفاظ على جسمه من هذه التأثيرات الخارجية المضرة. ولقد ذكر القرآن الكريم هذه التغيرات التي تطرأ على جسم الإنسان خلال فترة زمنية معينة بقوله :
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (سورة الروم 54)
وعند التفكير في وضع الخطط المستقبلية فإن فترة الشيخوخة هي الفترة التي لا تؤخذ في الحسبان في كثير من الأحيان. فالإنسان يحاول بقدر المستطاع الابتعاد عن التفكير في هذه الفترة من عمره التي سيعاني فيها بسبب الشيخوخة من العجز والضعف الجسدي، فنلاحظ الخوف والقلق الذي يعتري الوجوه بين فترة وأخرى عند التكلم حول مثل هذه المواضيع, ولكن سرعان ما ينسون هذه المواضيع وكأن شيئا لم يكن، ويرجعون إلى مزاولة حياتهم الأعتيادية وبشكل طبيعي. ولعل السبب الرئيسي الذي يدفعهم إلى عدم التفكير في شبح الشيخوخة هو أن الشيخوخة تذكرهم بعدم الخلود في هذه الدنيا وبالموت والزوال، ولهذا السبب ومن هذا المنطلق فهم لا يحبذون التفكير كثيراً في مثل هذه المواضيع التي تبدو لهم مزعجة والتي ستواجههم عاجلا ً أم أجلاً. وهم يحسبون بأن العمر أمامهم ما زال طويلاً ولا يزال هناك وقت طويل جداً على الشيخوخة والموت. لقد بين القرآن الكريم وبشكل واضح الوهم الكبير الذي يقع فيه مثل هؤلاء الناس بقوله:
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافهَا أَفَهُمْ الْغَالِبُونَ ( الأنبياء 44)
إن الوهم الذي يقع فيه أمثال هؤلاء وهم كبير, لأن كل إنسان مهما كان عمره إذا رجع إلى الوراء فأنه سيلاحظ وجود ذكريات واضحة وذكريات غير واضحة المعالم. ففي فترة الطفولة والشباب حيث مرت به ذكريات وحوادث مؤلمة وسعيدة, كان البعض منها يبعث على الفرح والغبطة, كذلك مرت عليه أوقات كان عليه اتخاذ قرارات حاسمة, وكانت هناك سنوات وجهود أهدرها عند محاولاته الوصول إلى غاياته وأهدافه. كل هذه الذكريات وإن صعب عليه تذكرها بوضوح ستبدو وكأنها لحظات سريعة جداً مرت به. لذا فإن طلب من أحدهم أن يشرح حياته التي عاشها, فسنرى أنه يحتاج إلى بضع ساعات فقط كي يلخصها لنا. إن الوقوف على هذه الحقيقة واستيعابها لا يحتاج سوى إلى بضع ثوان, فمثلاً الشخص الذي عمره 40 عاماً والذي يأمل بالعيش حتى 65 عاماً عليه أن يدرك جيداً أنه كما مضت الأربعون عاماً بهذه السرعة كذلك فالمتبقي وهو 25 عاماً سيمضي بنفس السرعة التي مرت بها الأعوام الأربعون السابقة.
ويمكن قول الشيء نفسه للشخص الذي سيعيش حوالي 90 عاماً. فليس هناك من فرق, لأنه لو كان المتبقي من عمره سنوات طويلة أو قصيرة فإنه في النهاية ستنقضي وتنتهي لا محالة. إن شيخوخة الإنسان ما هي إلا تنبيه بأن هذه الدنيا ما هي إلا محطة انتظار، وأنه مهما عمل فعليه أن يحزم حقائبه ويرحل من غير رجعة إلى دار البقاء الأبدي. لذا يجب على الإنسان أن يكون أكثر واقعية وأن يترك الأحكام المسبقة جانبا, وعليه أن يدرك أولاً أن الزمن يمر بسرعة كبيرة وأن انقضاء كل يوم من حياة الإنسان لا يجعله أكثر شباباً وقوة, بل على العكس هو خطوة أخرى نحو الشيخوخة.
وبإختصار فإن الشيخوخة ما هي إلا دلالة واضحة على عجز الإنسان. ومع تقدم عمر الإنسان تتولد أمارات وعلامات العجز البدني حيث تكون واضحة للعيان.
والقرآن الكريم يتناول العجز والضعف الذي يلف الإنسان وهو يتقدم بخطوات إلى فترة الشيخوخة بقوله تعالى:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌَ ( سورة النحل 70 )
وبطبيعة الحال فيمكن القول بأن الشيخوخة تمثل فترة الطفولة الثانية، لأن الإنسان في مثل هذه الفترة يحتاج إلى الرعاية والحماية التي يحتاجها الطفل. حيث تظهر في الإنسان في هذه المرحلة صفات بدنية وذهنية تجعله وكأنه عاد إلى فتره الطفولة. فلم يعد يملك تلك القوة والمقدرة على إنجاز الأعمال التي كان يقوى عليها وبكل سهولة في فترة شبابه. وعندما كان شاباً كان يمتلك ذاكرة قوية ومع تقدم العمر سيظهر بشكل طبيعي تراجع وضعف في ذاكرته.
ويمكن الإكثار من سرد هذه الأمثلة وفي كل المواضيع, ولكن كنتيجة نهائية يمكن القول بأن الأنهيار الذهني والجسماني الذي يظهر على الإنسان في فترة زمنية معينة تمثل نوعاً من أنواع الرجوع إلى فترة الطفولة.
وبإختصار يمكن القول بأن الإنسان كما بدأ حياته من فترة الطفولة, فإن حياته تنتهي بعدما يعود كي يمر بهذه الفترة مرة ثانية. ومما لاشك فيه أن هذه الفترة لم تظهر بشكل عشوائي.
إن الله تعالى لو شاء لجعل الإنسان يتمتع بشبابه حتى يدركه الموت، وما جعله يعاني من أي مرض أو عجز جسماني, ولكن الحكمة الإلهية قضت أن يتذكر الإنسان بأن هذه الدنيا فانية وزائلة، وذلك من خلال خلق سلسلة من الأمراض والمشاكل الصحية له.
وفي الوقت نفسه فإن الغاية من إظهار هذه النواقص في الحياة الدنيا هو من أجل زيادة ولعه وشغفه بالآخرة دار البقاء الحقيقية. وقد بينت الآية الكريمة أدناه وبشكل واضح للعيان الحكمة من وصول الإنسان لفترة الشيخوخة وجعل الدنيا زائلة فانية بقوله تعالى :
يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلى أجل مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أشدكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فإذا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (سورة الحج 5 )
العوارض البدنية المتأتية من الشيخوخة
مهما كان الإنسان غنيا ومشهورا ً وقوياً فأنه لا يستطيع إن ينقذ جسده من العوارض السلبية التي ستواجهه مع تقدم العمر. حيث يمكن استعراض قسمً من هذه العوارض على النحو التالي:
إن جلد الإنسان يلعب دورا مهما جدا في جماله، فإذا رفعت هذه الطبقة التي يقدر سمكها ببضع ملليمترات سنلاحظ مشهداً غير مفزعا، وبعيداً كل البعد عن أي مقياس من مقاييس الحسن والجمال، وهذا الأمر يشمل كل الكائنات الحية. بل يصل إلى درجة أنه يصعب حتى النظر إلى هذا المنظر، لأن الجلد علاوة على قيامه بوظيفة الحفاظ والحماية لجسم الإنسان فهو يعطي منظراً مستوياً وخالياً من النتوءات والتعرجات, لذا فهو يقوم بوظيفة جمالية مهمة جداً.
وهنا يمكن القول بأن حسن الإنسان الذي طالما يتفاخر به بين أقرانه ما هو إلا كيلوغرامين من الجلد الذي يغطي كل جزء من أجزاء جسده، ويمكن القول بأنه ولحكمة ما فإن أكثر المناطق التي تعاني من التشوه مع تقدم العمر هي جلد الإنسان.
ومع تقدم العمر يبدأ الجلد تدريجيا بفقدان مرونته ويقل سُمكه نتيجة لإنهيار طبقة البروتينيات التي تشكل النواة الرئيسة لتركيبة الجلد، حيث تزداد هشاشته مع تقدم العمر، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى ترهل الجلد. لذا فتقدم العمر يؤدي عند الكثير إلى زيادة المخاوف من ظهور التجاعيد والخطوط على الوجه الذي يحدث لنفس الأسباب الت
tant pis @tant_pis
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
أمونة القمورة
•
جزاك الله خيرا
الصفحة الأخيرة