حكم الاحتفال بذكرى المولد النبوي
فضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
(عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، وبعد : فلا يخفى ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر باتباع ما شرعه الله ورسوله ، والنهي عن الابتداع في الدين ، قال - تعالى - : ، وقال - تعالى - : ، ، وقال - تعالى - : ]الأنعام : 153] ، وقال -صلى الله عليه وسلم- : إن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وقال -صلى الله عليه وسلم- : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ، وفي رواية لمسلم : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ..
وإن من جملة ما أحدثه الناس من البدع المنكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي في شهر ربيع الأول ؛ وهم في هذا الاحتفال على أنواع : فمنهم من يجعله مجرد اجتماع تقرأ فيه قصة المولد ، أو تقدم فيه خطب وقصائد في هذه المناسبة .
ومنهم من يصنع الطعام والحلوى وغير ذلك ويقدمه لمن حضر . ومنهم من يقيمه في المساجد ، ومنهم من يقيمه في البيوت . ومنهم من لا يقتصر على ما ذكر ، فيجعل هذا الاجتماع مشتملاً على محرمات ومنكرات من اختلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء ، أو أعمال شركية كالاستغاثة بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وندائه والاستنصار به على الأعداء وغير ذلك ، وهو بجميع أنواعه واختلاف أشكاله واختلاف مقاصد فاعليه لا شك ولا ريب أنه بدعة محرمة محدثة بعد القرون المفضلة بأزمان طويلة ؛ فأول من أحدثه الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك إربل في آخر القرن السادس أو أول القرن السابع الهجري ، كما ذكره المؤرخون كابن كثير وابن خلكان وغيرهما .
وقال أبو شامة : وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين ، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره .
قال الحافظ ابن كثير في البداية
وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان : فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة ، وقعد في كل قبة جوق من الأغاني ، وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي ، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات (طبقات القباب) حتى رتبوا فيها جوقاً . وتبطل معايش الناس في تلك المدة ، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم ... إلى أن قال : فإذا كان قبل يوم المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً زائداً عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي ، حتى يأتي بها إلى الميدان ... إلى أن قال : فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة . ا . هـ .
فهذا مبدأ حدوث الاحتفال بمناسبة ذكرى المولد ، حدث متأخراً ومقترناً باللهو والسرف وإضاعة الأموال والأوقات ، وراء بدعة ما أنزل الله بها من سلطان .
والذي يليق بالمسلم إنما هو إحياء السنن وإماتة البدع ، وأن لا يقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه . هذا ؛ وقد يتعلق من يرى إحياء هذه البدعة بشبه أوهى من بيت العنكبوت ،
ويمكن حصر هذه الشبه فيما يلي :
1- دعواهم أن في ذلك تعظيماً للنبي -صلى الله عليه وسلم- . والجواب عن ذ لك أن نقول : إنما تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته -صلى الله عليه وسلم- ، وليس تعظيمه بالبدع والخرافات والمعاصي ، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم ، لأنه معصية . وأشد الناس تعظيماً للنبي -صلى الله عليه وسلم- هم الصحابة - رضي الله عنهم - ، كما قال عروة بن مسعود لقريش : يا قوم ! والله لقد وفدت على كسرى وقيصر والملوك ، فما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً -صلى الله عليه وسلم- ، والله ما يمدون النظر إليه تعظيماً له ، ومع هذا التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً ، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه .
2- الاحتجاج بأن هذا عمل كثير من الناس في كثير من البلدان . والجواب عن ذلك أن نقول : الحجة بما ثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- . والثابت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- النهي عن البدع عموماً ، وهذا منها . وعمل الناس إذا خالف الدليل فليس بحجة ، وإن كثروا : ، مع أنه لا يزال - بحمد الله - في كل عصر من ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها ، فلا حجة بعمل من استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق .
فممن أنكر الاحتفال بهذه المناسبة شيخ الإسلام ابن تيمية في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) ، والإمام الشاطبي في (الاعتصام ) ، وابن الحاج في ( المدخل ) ، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي ألف في إنكاره كتاباً مستقلاً ، والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه (صيانة الإنسان ) ، والسيد محمد رشيد رضا ألف فيه رسالة مستقلة ، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ألف فيه رسالة مستقلة ، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في صفحات الجرائد والمجلات ، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة .
3- يقولون : إن في إقامة المولد إحياء لذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- . والجواب عن ذلك أن نقول : إحياء ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون بما شرعه الله من ذكره في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة عليه وقراءة سنته واتباع ما جاء به ، وهذا شيء مستمر يتكرر في اليوم والليلة دائماً ، لا في السنة مرة .
4- قد يقولون : الاحتفال بذكرى المولد النبوي أحدثه ملك عادل عالم ، قصد به التقرب إلى الله ! والجواب عن ذلك أن نقول : البدعة لا تقبل من أي أحد كان ، وحسن القصد لا يسوغ العمل السيء ، وكونه عالماً وعادلاً لا يقتضي عصمته .
5- قولهم : إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة ؛ لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم ! ويجاب عن ذلك بأن يقال : ليس في البدع شيء حسن ، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ، ويقال أيضاً : لماذا تأخر القيام بهذا الشكر - على زعمكم - إلى آخر القرن السادس ، فلم يقم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ، وهم أشد محبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر ، فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكراً لله - عز وجل- ؟ حاشا وكلا .
6- قد يقولون : إن الاحتفال بذكرى مولده -صلى الله عليه وسلم- ينبئ عن محبته -صلى الله عليه وسلم- فهو مظهر من مظاهرها وإظهار محبته -صلى الله عليه وسلم- مشروع والجواب أن نقول : لا شك أن محبته -صلى الله عليه وسلم- واجبة على كل مسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين - بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه - ، ولكن ليس معنى ذلك أن نبتدع في ذلك شيئاً لم يشرعه لنا ، بل محبته تقتضي طاعته واتباعه ، فإن ذلك من أعظم مظاهر محبته ، كما قيل : لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع فمحبته -صلى الله عليه وسلم- تقتضي إحياء سنته والعض عليها بالنواجذ ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال ، ولا شك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة مذمومة ومعصية ظاهرة ، ومن ذلك الاحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع .
قال - تعالى - : ، فإسلام الوجه هو الإخلاص لله ، والإحسان هو المتابعة للرسول وإصابة السنة . وخلاصة القول : أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي بأنواعه واختلاف أشكاله بدعة منكرة يجب على المسلمين منعها ومنع غيرها من البدع ، والاشتغال بإحياء السنن والتمسك بها ، ولا يغتر بمن يروج هذه البدعة ويدافع عنها ، فإن هذا الصنف يكون اهتمامهم بإحياء البدع أكثر من اهتمامهم بإحياء السنن ، بل ربما لا يهتمون بالسنن أصلاً ، ومن كان هذا شأنه فلا يجوز تقليده والاقتداء به ، وإن كان هذا الصنف هم أكثر الناس ، وإنما يقتدي بمن سار على نهج السنة من السلف الصالح وأتباعهم وإن كانوا قليلاً ، فالحق لا يعرف بالرجال ، وإنما يعرف الرجال بالحق .
قال -صلى الله عليه وسلم- : فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ، فبين لنا -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث الشريف بمن نقتدي عند الاختلاف ، كما بين أن كل ما خالف السنة من الأقوال والأفعال فهو بدعة وكل بدعة ضلالة .
وإذا عرضنا الاحتفال بالمولد النبوي لم نجد له أصلاً في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، ولا في سنة خلفائه الراشدين ، إذاً فهو من محدثات الأمور ومن البدع المضلة ، وهذا الأصل الذي تضمنه هذا الحديث قد دل عليه قوله تعالى : .
والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه الكريم ، والرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الرجوع إلى سنته بعد وفاته ، فالكتاب والسنة هما المرجع عند التنازع ، فأين في الكتاب والسنة ما يدل على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي ؟
فالواجب على من يفعل ذلك أو يستحسنه أن يتوب إلى الله - تعالى - منه ومن غيره من البدع ؛ فهذا هو شأن المؤمن الذي ينشد الحق ، وأما من عاند وكابر بعد قيام الحجة فإنما حسابه عند ربه . هذا ؛ ونسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يرزقنا التمسك بكتابه وسنة رسوله إلى يوم نلقاه ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
________________________
(1) رواه البخاري ، ح/2697 ، ومسلم ، ح /1718 . (2) البداية والنهاية ، (13 /137) . (3) وفيات الأعيان ، (3/ 274) . (4) أحمد ، ح /16692 ، والترمذي ، ح /2676 .

**أمةالله** @amallh_2
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

mfsmfs
•
جزاكي الله كل خير
الصفحة الأخيرة