حكم الشطرنج والنرد ..لابن تيمية
وَسُئِلَ رحمه الله تعالى عَنْ اللَّعِب بِالشِّطْرَنْجِ : أَحَرَامٌ هُوَ ؟ أَمْ مَكْرُوهٌ ؟ أَمْ مُبَاحٌ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ : حَرَامٌ ; فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ ؟ وَإِنْ قُلْتُمْ : مَكْرُوهٌ ; فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَتِهِ ؟ أَوْ مُبَاحٌ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَتِهِ ؟
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . اللَّعِبُ بِهَا : مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ : وَمِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ ; وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ ; وَلَيْسَ مِنْ اللَّعِبِ بِهَا مَا هُوَ مُبَاحٌ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ ; ;فَإِنْ اشْتَمَلَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى الْعِوَضِ كَانَ حَرَامًا بِالِاتِّفَاقِ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إمَامُ الْمَغْرِبِ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّعِبَ بِهَا عَلَى الْعِوَضِ قِمَارٌ لَا يَجُوزُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَمَلَ اللَّعِبُ بِهَا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ : مِثْلَ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا ; أَوْ تَرْكَ مَا يَجِبُ فِيهَا مِنْ أَعْمَالِهَا الْوَاجِبَةِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا ; فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ حَرَامًا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ : يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا صَارَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الصَّلَاةَ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ صَلَاتَهُمْ بِقَوْلِهِ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ }
وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ " السَّهْوَ عَنْهَا " بِتَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِهَا وَبِتَرْكِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ فِيهَا ا كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ صَلَاةَ الْمُنَافِقِ تَشْتَمِلُ عَلَى التَّأْخِيرِ وَالتَّطْفِيفِ : قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ : إنَّ الصَّلَاةَ مِكْيَالٌ ; فَمَنْ وَفَّى وُفِّيَ لَهُ وَمَنْ طَفَّفَ فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا قَالَ اللَّهُ فِي " الْمُطَفِّفِينَ " .
وَكَذَلِكَ فَسَّرُوا قَوْلَهُ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } قَالَ : إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَإِضَاعَتُهَا حُقُوقَهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَكْمَلَ الصَّلَاةَ بِطَهُورِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَخُشُوعِهَا صَعِدَتْ وَلَهَا بُرْهَانٌ كَبُرْهَانِ الشَّمْسِ وَتَقُولُ حَفِظَك اللَّهُ كَمَا حَفِظْتنِي وَإِذَا لَمْ يُكْمِلْ طَهُورَهَا وَقِرَاءَتَهَا وَخُشُوعَهَا فَإِنَّهَا تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ ; وَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا وَتَقُولُ ضَيَّعَك اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتنِي } .
وَالْعَبْدُ وَإِنْ أَقَامَ صُورَةَ الصَّلَاةِ الظَّاهِرَةَ فَلَا ثَوَابَ إلَّا عَلَى قَدْرِ مَا حَضَرَ قَلْبُهُ فِيهِ مِنْهَا كَمَا جَاءَ فِي السُّنَنِ لِأَبِي داود وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْعَبْدَ لَيَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ يُكْتَبْ لَهُ مِنْهَا إلَّا نِصْفُهَا إلَّا ثُلُثُهَا إلَّا رُبُعُهَا ; إلَّا خُمُسُهَا ; إلَّا سُدُسُهَا ; إلَّا سُبُعُهَا ; إلَّا ثُمُنُهَا ; إلَّا تسعها إلَّا عُشُرُهَا } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : لَيْسَ لَك مِنْ صَلَاتِك إلَّا مَا عَقَلْت مِنْهَا .
وَإِذَا غَلَبَ عَلَيْهَا الْوَسْوَاسُ فَفِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْهَا وَوُجُوبِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِلْعُلَمَاءِ : " أَحَدُهُمَا " لَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ " الشِّطْرَنْجَ " مَتَى شَغَلَ عَمَّا يَجِبُ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَشَغْلُهُ عَنْ إكْمَالِ الْوَاجِبَاتِ أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى بَسْطٍ . وَكَذَلِكَ لَوْ شَغَلَ عَنْ وَاجِبٍ مِنْ غَيْرِ الصَّلَاةِ : مِنْ مَصْلَحَةِ النَّفْسِ أَوْ الْأَهْلِ أَوْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ صِلَةِ الرَّحِمِ ; أَوْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَوْ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ مِنْ نَظَرٍ فِي وِلَايَةٍ أَوْ إمَامَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ .
وَقَلَّ عَبْدٌ اشْتَغَلَ بِهَا إلَّا شَغَلَتْهُ عَنْ وَاجِبٍ .
فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مُحَرَّمٍ أَوْ اسْتَلْزَمَتْ مُحَرَّمًا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ : مِثْلَ اشْتِمَالِهَا عَلَى الْكَذِبِ ; وَالْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ ; أَوْ الْخِيَانَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا المغاضاة أَوْ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ أَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ فَسَادًا غَيْرَ ذَلِكَ : مِثْلَ اجْتِمَاعٍ عَلَى مُقَدِّمَاتِ الْفَوَاحِشِ ; أَوْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْعُدْوَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ; أَوْ مِثْلَ أَنْ يُفْضِيَ اللَّعِبُ بِهَا إلَى الْكَثْرَةِ وَالظُّهُورِ الَّذِي يَشْتَمِلُ مَعَهُ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ : فَهَذِهِ الصُّورَةُ وَأَمْثَالُهَا مِمَّا يَتَّفِقُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِهَا فِيهَا .
وَإِذَا قُدِّرَ خُلُوُّهَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ : فَالْمَنْقُولُ عَنْ الصَّحَابَةِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ ;
وَصَحَّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمِ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ : مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؟ شَبَّهَهُمْ بِالْعَاكِفِينَ عَلَى الْأَصْنَامِ
كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ } وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ قَرِينَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْهَا مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ .
(الفتاوى 32/216-217)
وَقَدْ أَبَاحَ الشَّارِعُ أَنْوَاعًا مِنْ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ كَمَا أَبَاحَ اشْتِرَاطَ ثَمَرِ النَّخْلِ بَعْدَ التَّأْبِيرِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ وَجَوَّزَ بَيْعَ
الْمُجَازَفَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الرِّبَا فَلَمْ يُبَحْ مِنْهُ ; وَلَكِنْ أَبَاحَ الْعُدُولَ عَنْ التَّقْدِيرِ بِالْكَيْلِ إلَى التَّقْدِيرِ بِالْخَرْصِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا أَبَاحَ
التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ لِلْحَاجَةِ ; إذْ الْخَرْصُ تَقْدِيرٌ بِظَنِّ وَالْكَيْلُ تَقْدِيرٌ بِعِلْمِ . وَالْعُدُولُ عَنْ الْعِلْمِ إلَى الظَّنِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ جَائِزٌ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرِّبَا أَعْظَمُ مِنْ الْقِمَارِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ; لَكِنَّ الْمَيْسِرَ تُطْلَبُ بِهِ الْمُلَاعَبَةُ
وَالْمُغَالَبَةُ نُهِيَ عَنْهُ الْإِنْسَانُ مَعَ فَسَادِ مَالِهِ . مِثْلَ مَا فِيهِ مَنْ الصُّدُودِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ
الصَّلَاةِ . وَكُلٌّ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فِيهِ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَفِيهِ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ : أَعْظَمُ مِنْ الرِّبَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ " الْمَيْسِرَ " اشْتَمَلَ عَلَى " مَفْسَدَتَيْنِ " : مَفْسَدَةٌ فِي الْمَالِ .
وَهِيَ أَكْلُهُ بِالْبَاطِلِ . وَمَفْسَدَةٌ فِي الْعَمَلِ وَهِيَ مَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمَالِ وَفَسَادِ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ .
وَكُلٌّ مِنْ الْمَفْسَدَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ بِالنَّهْيِ فَيَنْهَى عَنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ مَيْسِرٍ كَالرِّبَا وَيَنْهَى عَمَّا
يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَيُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ أَكْلِ مَالٍ . فَإِذَا اجْتَمَعَا عَظُمَ التَّحْرِيمُ :
فَيَكُونُ الْمَيْسِرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا أَعْظَمَ مِنْ الرِّبَا .
وَلِهَذَا حُرِّمَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّبَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ حَرَّمَهَا وَلَوْ كَانَ الشَّارِبُ يَتَدَاوَى بِهَا
كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَحَرَّمَ بَيْعَهَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ أَكْلُ ثَمَنِهَا لَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
وَعَنْ الصَّلَاةِ وَلَا يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ كُلُّ
ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الِاجْتِنَابِ . فَهَكَذَا الْمَيْسِرُ مَنْهِيٌّ عَنْ هَذَا وَعَنْ هَذَا .
وَالْمُعِينُ عَلَى الْمَيْسِرِ كَالْمُعِينِ عَلَى الْخَمْرِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَكَمَا أَنَّ الْخَمْرَ تَحْرُمُ
الْإِعَانَةُ عَلَيْهَا بِبَيْعِ أَوْ عَصْرٍ أَوْ سَقْيٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ : فَكَذَلِكَ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَيْسِرِ : كَبَائِعِ آلَاتِهِ وَالْمُؤَجِّرِ لَهَا
وَالْمُذَبْذَبِ الَّذِي يُعِينُ أَحَدَهُمَا : بَلْ مُجَرَّدُ الْحُضُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيْسِرِ كَالْحُضُورِ عِنْدَ أَهْلِ شُرْبِ الْخَمْرِ . وَقَدْ قَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم . { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ }
وَقَدْ رُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِمْ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ فِيهِمْ
صَائِمًا . فَقَالَ ابْدَءُوا بِهِ ثُمَّ قَالَ : أَمَا سَمِعْت قوله تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ
يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } فَاسْتَدَلَّ عُمَرُ بِالْآيَةِ ;
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ حَاضِرَ الْمُنْكَرِ مِثْلَ فَاعِلِهِ ; بَلْ إذَا كَانَ مَنْ دَعَا إلَى دَعْوَةِ الْعُرْسِ لَا تُجَابُ دَعْوَتُهُ إذَا
اشْتَمَلَتْ عَلَى مُنْكَرٍ حَتَّى يَدَعَهُ مَعَ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ حَقٌّ : فَكَيْفَ بِشُهُودِ الْمُنْكَرِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ يَقْتَضِي ذَلِكَ . فَإِنْ
قِيلَ : إذَا كَانَ هَذَا مِنْ الْمَيْسِرِ فَكَيْفَ اسْتَجَازَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ ؟
قِيلَ لَهُ : الْمُسْتَجِيزُ لِلشِّطْرَنْجِ مِنْ السَّلَفِ بِلَا عِوَضٍ كَالْمُسْتَجِيزِ لِلنَّرْدِ بِلَا عِوَضٍ مِنْ السَّلَفِ وَكِلَاهُمَا مَأْثُورٌ عَنْ
بَعْضِ السَّلَفِ ; بَلْ فِي الشِّطْرَنْجِ قَدْ تَبَيَّنَ عُذْرُ بَعْضِهِمْ كَمَا كَانَ الشَّعْبِيُّ يَلْعَبُ بِهِ لَمَّا طَلَبَهُ الْحَجَّاجُ لِتَوْلِيَةِ
الْقَضَاءِ . رَأَى أَنْ يَلْعَبَ بِهِ لِيُفَسِّقَ نَفْسَهُ وَلَا يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ لِلْحَجَّاجِ وَرَأَى أَنْ يَحْتَمِلَ مِثْلَ هَذَا لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ
إعَانَةَ مِثْلِ الْحَجَّاجِ عَلَى مَظَالِمِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ مَحْذُورًا عِنْدَهُ ; وَلَمْ يُمْكِنْهُ الِاعْتِذَارُ إلَّا بِمَثَلِ ذَلِكَ .
ثُمَّ يُقَالُ : مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مِنْ السَّلَفِ وَاَلَّذِينَ اسْتَحَلُّوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ مِنْ
السَّلَفِ أَكْثَرُ وَأَجَلُّ قَدْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ ; فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرَهُمَا رَخَّصُوا فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَكَانُوا
مُتَأَوِّلِينَ أَنَّ الرِّبَا لَا يَحْرُمُ إلَّا فِي النِّسَاءِ ; لَا فِي الْيَدِ بِالْيَدِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ إلَّا الْمُسْكِرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ : فَهَؤُلَاءِ فَهِمُوا مِنْ الْخَمْرِ نَوْعًا مِنْهُ دُونَ نَوْعٍ
وَظَنُّوا أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِهِ . وَشُمُولُ الْمَيْسِرِ لِأَنْوَاعِهِ كَشُمُولِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا لِأَنْوَاعِهِمَا .
وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ
تَّبِعَ زَلَّاتِ الْعُلَمَاءِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ إلَّا بِمَا هُمْ لَهُ أَهْلٌ ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفَا
لِلْمُؤْمِنِينَ عَمَّا أَخْطَئُوا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ اللَّهُ : قَدْ فَعَلْت . وَأَمَرَنَا أَنْ
نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَلَا نَتَّبِعَ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نُطِيعَ مَخْلُوقًا فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَنَسْتَغْفِرَ
لِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ . فَنَقُولَ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } الْآيَةَ .
وَهَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَا كَانَ يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ . وَنُعَظِّمُ أَمْرَهُ تَعَالَى بِالطَّاعَةِ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ ; وَنَرْعَى حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ ; لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَمَنْ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ
الطَّرِيقِ فَقَدْ عَدَلَ عَنْ اتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي التَّقْلِيدِ وَآذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا :
فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ . وَمَنْ عَظَّمَ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَأَحْسَنَ إلَى عِبَادِ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .

جنة الوادى @gn_aload
عضوة جديدة
هذا الموضوع مغلق.

محبه الاسلام
•
بارك الله فيك واثابك المولى ..
الصفحة الأخيرة