
فيضٌ وعِطرْ
•
شكراً أخت المحبة .. ياغالية وهبك الله أضعاف مادعوت به وجزاك جنات النعيم .اليوم أيضاً راجعت الإسراء وسأستمر حتى تصبح جارية على لساني بأكبر اليسر

اللهم امين حبيبتى فيض وعطر اللهم اغنها بالعلم وزينها بالحلم وأكرمها بالتقوى وجملها بالعافية


الوقفة الحادية عشرة:
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله-: "ثم إن الله -سبحانه وتعالى- خلق القلب للإنسان يعلمُ به الأشياء، كما خلق له العين يرى بها الأشياء، والأذن يسمع بها الأشياء، كما خلق له سبحانه كل عضوٍ من أعضائه لأمر من الأمور، وعمل من الأعمال، فاليد للبطش، والرجل للسعي، واللسان للنطق، والفم للذوق، والأنف للشم، والجِلد للمس، وكذلك سائر الأعضاء الباطنة والظاهرة.
فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خُلق له وأُعد لأجله فذلك هو الحق القائم، والعدل الذي قامت به السماوات والأرض، وكان ذلك خيراً وصلاحاً لذلك العضو ولربه وللشيء الذي استُعمل فيه، وذلك الإنسان الصالح هو الذي استقام حاله، و {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وإذا لم يُستعمل العضو في حقه بل ترك بطالاً فذلك خسران، وصاحبه مغبون، وإن استعمل في خلاف ما خُلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفراً.
ثم إن سيد الأعضاء ورأسها هو القلب: كما سُمي قلباً، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).
وإذ قد خُلق القلب لأن يُعلم به فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفِكر والنظر،
كما أن إقبال الأذن عن الكلام ابتغاء سمعه هو الإصغاء والاستماع، وانصراف الطَّرف إلى الأشياء طلباً لرؤيتها هو النظر.
فالفِكر للقلب كالإصغاء للأذن، ومثله نظر العينين فيما سبق، وإذا عَلم ما نظر فيه فذاك مطلوبه، كما أن الأذن كذلك إذا سمعت ما أصغت إليه، أو العين إذا أبصرت ما نظرت إليه، وكم من ناظر مفكر لم يحصِّل العلم ولم ينله، كما أنه كم من ناظرٍ إلى الهلال لا يبصره، ومستمع إلى صوت لا يسمعه.
وعكسه من يؤتى علماً بشيء لم ينظر فيه ولم تسبق منه إليه سابقةُ تفكير فيه، كمن فاجأته رؤية الهلال من غير قصد إليه أو سمع قولاً من غير أن يُصغي إليه؛ وذلك كله لا لأن القلب بنفسه يقبل العلم، وإنما الأمر موقوف على شرائط واستعداد قد يكون فعلاً من الإنسان فيكون مطلوباً، وقد يأتي فضلاً من الله فيكون موهوباً.
فصلاح القلب وحقه والذي خلق من أجله هو أن يعقل الأشياء، لا أقول أن يعلمها فقط، فقد يعلمُ الشيء من لا يكون عاقلاً له، بل غافلاً عنه ملغياً له، والذي يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه غنياً فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره،
وذلك هو الذي أوتي الحكمة، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} .
وقال أبو الدرداء: "إن من الناس من يؤتى علماً ولا يؤتى حكماً، وإن شداد بن أوس ممن أوتي علماً وحكماً".
وهذا مع أن الناس متباينون في نفس عقلهم الأشياء من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير، وجليل ودقيق، وغير ذلك().
الوقفة الثانية عشرة
في قوله تعالى: {كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}: الإشارة في قوله: {أُولئِكَ} عائدةٌ إلى ما سبق من السع والبصر والفؤاد، ومعلوم أن الإشارة بـ{أُولئِكَ} مما يختص به العقلاء، وقد ورد استعمالها هنا مع هذه الآلات ولا إشكال في هذا؛ لأنه نزلها منزلة من يعقل ذلك أنها تُسأل عما تلقته كما تُسأل عن صاحبها كما سيأتي.
ومعلوم أن غير العقلاء إذا نُزِّلوا منزلة العقلاء فإنهم يُعاملون معاملتهم من حيث الصيغ والعبارات في الضمائر وصيغ الجموع، كما في قوله تعالى عن الشمس والقمر: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ، والأصل "رأيتها لي ساجدةً" لكن لمَّا كان السجود من أفعال العقلاء ووقع من هذه الجمادات نزِّلوا منزلة العقلاء.
الوقفة الثالثة عشرة:
يُلحظ في هذا القدر من الآية ما يلي:
1- أنه قَدَّم "كل" الدالة على الإحاطة، وكان بالإمكان الاستغناء عن هذه اللفظة فيكون الكلام: "إن السمع والبصر والفؤاد سُتسأل عما وقع منها كما ستُسأل عن صاحبها"، إلا أنه جاء بـ "كل" زيادة في التوكيد وتقرير المعنى، والله أعلم.
2- جاء باسم الإشارة "أولئك" دون الضمير، فلم يقل: "كلها كان عنه مسؤولاً" لما في الإشارة من زيادة التوكيد والتمييز.
3- جاء بفعل "كان" لدلالته على رسوخ الخبر؛ إذ إن هذا أمر واقع لا محالة، والله المستعان.
الوقفة الرابعة عشرة:
في قوله: {كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}: قُدِّم المعمول "عنه" على عامله "مسؤولاً"، والقاعدة المعروفة في هذا الباب هي أن تقديم المعمولات على عواملها يفيد الاهتمام، والمعنى: كل السمع والبصر والفؤاد كان مسؤولاً عن نفسه، ومطالباً بأن يبين مستند صاحبه من حسه.
الوقفة الخامسة عشرة:
في قوله: {مَسْؤُولاً} السؤال هنا كناية عن المؤاخذة بالتقصير وتجاوز الحق، كما يقال: "أنت مسؤول عن تصرفاتك"، أو سُتسأل عن فعلك هذا، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
الوقفة السادسة عشرة:
في معنى قوله: {كَانَ عَنْهُ} أي كان -أي كل أولئك- عن الإنسان مسؤولاً، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ..} ، وقوله: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} ، الآية.
ويمكن أن يكون المعنى: أن الإنسان يُسأل عن سمعه وبصره وقلبه، ويدل على هذا قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقوله: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وكلا المعنيين صحيح؛ لأن القاعدة أن الآية إذا احتملت معاني متعددة وأمكن حملها على جميع تلك المعاني من غير فساد للمعنى، فإنها تُحمل عليها جميعاً، لا سيما إذا دلَّ القرآن على هذه المعاني جميعاً في مواضع أخرى كما في هذه الآية، وهذا لا شك فيه إن شاء الله، والله أعلم.
فالمحصِّلة أن السمع والبصر والفؤاد هذه كلها تُسأل عما تلقته، كما تسأل عن صاحبها، وأيضاً فإن صاحبها يحاسب عنها.
الوقفة السابعة عشرة:
في قوله: {كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}: التفات؛ ذلك أن أول الآية ورد بأسلوب الخطاب: {وَلاَ تَقْفُ}، وجاء هذا الموضع بأسلوب الغيبة {كَانَ عَنْهُ}، وفي هذا من التفنن بالخطاب وتنشيط السامع ما فيه، والله أعلم.
الوقفة الثامنة عشرة:
إذا كان السمع والبصر والفؤاد منقسماً إلى ما يؤمر به وينهى عنه، والعبد مسؤول عن ذلك، فإن هذا يدعو إلى المراقبة والمحاسبة، والوقوف مع النفس ومساءلتها، والعبد مسؤول عن حركات هذه الجوارح، وهل هي حركات نافعة، بأن وضعت فيما يقرِّب إلى الله تعالى أم ضارة بأن وجهت لمعصية الله.
فعلى العبد أن يتعاهدها بحفظها عن الأمور الضارة؛ ليعد لهذا السؤال جواباً، فمن استعملها في طاعة الله فقد زكاها ونماها، وأثمرت له النعيم المقيم، ومن استعملها في ضد ذلك فقد دساها، وأسقطها وأوصلته إلى العذاب الأليم، نسأل الله العافية.
الوقفة التاسعة عشرة:
في الآية أدب خُلقي رفيع، يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية بحيث لا يختلط المعلوم والموهوم.
الوقفة العشرون:
في الآية إصلاح اجتماعي جليل يجنب الأمة الوقوع في المهالك؛ ذلك أن إهمال تلك الجوارح الثلاث من المراقبة يجعلها تنطلق بلا زمام فتتلقف ما فيه بوارها، فتدمّر الأمة بفساد عقائدها وأخلاقه، وتتفكك الأواصرُ بسبب فشو قالة السوء بين الناس.. الخ.
قال شيخ الإٍسلام أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله-: "ثم هذه الأعضاء الثلاثة هي أمهات ما ينال به العلم ويُدرك، أعني العلم الذي يمتاز به البشرُ عن سائر الحيوانات دون ما يشاركها فيه من الشم والذوق واللمس، وهنا يدرك به ما يحب ويكره وما يميز به بين من يحسن إليه ومن يسيء إليه إلى غير ذلك، قال الله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
وقال: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} .
وقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
وقال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} .
وقال: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} .
وقال فيما لكل عضو من هذه الأعضاء من العمل والقوة: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} .
ثم إن العين تقصر عن القلب والأذن، وتفارقهما في شيء وهو أنها إنما يرى صاحبها بها الأشياء الحاضرة والأمور الجسمانية مثل الصور والأشخاص، فأما القلب والأذن فيعلم الإنسان بهما ما غاب عنه وما لا مجال للبصر فيه من الأشياء الروحانية، والمعلومات المعنوية، ثم بعد ذلك يفترقان:
فالقلب يعقل الأشياء بنفسه إذا كان العلم هو غذاؤه وخاصيته، أما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب، فهي بنفسها إنما تحمل القول والكلام، فإذا وصل ذلك إلى القلب أخذ منه ما فيه من العلم، فصاحبُ العلم في حقيقة الأمر هو القلب، وإنما سائر الأعضاء حُجَبَةٌ له توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه، حتى إن من فقد شيئاً من هذه الأعضاء فإنه يفقد بفقده من العلم ما كان هو الواسطة فيه.
فالأصم لا يعلمُ ما في الكلام من العلم، والضريرُ لا يدري ما تحتوي عليه الأشخاص من الحكمة البالغة، وكذلك من نظر إلى الأشياء بغير قلب أو استمع إلى كلمات أهل العلم بغير قلب فإنه لا يعقل شيئاً.
فمدار الأمر على القلب، وعند هذا تستبين الحكمة في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} .
حتى لم يذكر هنا العين كما في الآيات السوابق، فإن سياق الكلام هنا في أمور غائبة، وحكمة معقولة من عواقب الأمور لا مجال لنظر العين فيها، ومثله قوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} .
وتتبين حقيقة الأمر في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .
فإن من يؤتى الحكمة وينتفع بالعلم على منزلتين: إما رجل رأى الحق بنفسه فقبله فاتبعه ولم يحتج إلى من يدعوه إليه، فذلك صاحبُ القلب، أو رجلٌ لم يعقله بنفسه، بل هو محتاج إلى من يعلمه ويبينه له ويعظه ويؤدبه، فهذا أصغى فـ{أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ، أي حاضر القلب ليس بغائبه، كما قال مجاهد: "أوتي العلم وكان له ذكرى".
ويتبين قوله: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ* وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} .
وقوله: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} .
ثم إذا كان حق القلب أن يعلم الحق فإن الله هو الحق المبين، {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} ، إذا كان كل ما يقع عليه لمحة ناظر أو يجول في لفتة خاطر، فالله ربه ومنشئه وفاطره ومبدئه، لا يحيط علماً إلا بما هو من آياته البينة في أرضه وسمائه، وأصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
أي: ما من شيء من الأشياء إذا نظرت إليه من جهة نفسه إلا وجدته إلى العدم، وما هو فقير إلى الحي القيوم، فإذا نظرت إليه وقد تولته يد العناية بتقدير من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، رأيته حينئذٍ موجوداً مكسواً حلل الفضل والإحسان، فقد استبان أن القلب إنما خُلق لذكر الله سبحانه، ولذلك قال بعض الحكماء المتقدمين من أهل الشام -أظنه سليمان الخواص -رحمه الله- قال: "الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا"، أو كما قال.
فإذا كان القلب مشغولاً بالله، عاقلاً للحق، متفكراً في العلم، فقد وضع في موضعه، كما أن العين إذا صُرفت إلى النظر في الأشياء فقد وضعت في موضعها، أما إذا لم يُصرف إلى العلم ولم يوع فيه الحق فقد نسي ربه، فلم يوضع في موضع بل هو ضائع، ولا يحتاج أن نقول: قد وضع في موضع غير موضعه، بل لم يوضع أصلاً، فإن موضعه هو الحق، وما سوى الحق باطل، فإذا لم يوضع في الحق لم يبق إلا الباطل، والباطل ليس بشيء أصلاً، وما ليس بشيء أحرى أن لا يكون موضعاً.
والقلبُ هو نفسه لا يقبل إلا الحق، فإذا لم يوضع فيه فإنه لا يقبل غير ما خُلق له، سنة الله، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، وهو مع ذلك ليس بمتروك مخلَّى فإنه لا يزال في أودية الأفكار وأقطار الأماني لا يكون على الحال التي تكون عليها العين والأذن من الفراغ والتخلي، فقد وضع في غير موضع لا مطلق ولا معلق، موضوع لا موضوع له، وهذا من العجب، فسبحان ربنا العزيز الحكيم، وإنما تنكشف للإنسان هذه الحال عند رجوعه إلى الحق، إما في الدنيا عند الإنابة، أو عند المنقلب إلى الآخرة، فيرى سوء الحال التي كان عليها، وكيف كان قلبه ضالاً عن الحق، هذا إذا صرف في الباطل.
فأما لو تُرك وحالُه التي فُطر عليها فارغاً عن كل ذكر خالياً عن كل فكر فقد كان يقبل العلم الذي لا جهل فيه، ويرى الحق الذي لا ريب فيه، فيؤمن بربه وينيب إليه، فإن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء لا يحس فيها من جدع، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} ، وإنما يحول بينه وبين الحق في غالب الحال شغله بغيره من فتن الدنيا، ومطالب الجسد، وشهوات النفس، فهو في هذه الحال كالعين الناظرة إلى وجه الأرض لا يمكنها أن ترى مع ذلك الهلال، أو هو يميل إليه فيصده عن اتباع الحق، فيكون كالعين التي فيها قذى لا يمكنها رؤية الأشياء.
ثم الهوى قد يعترض له قبل معرفة الحق فيصده عن النظر فيه، فلا يتبين له الحق كما قيل: حبك الشيء يعمي ويصم، فيبقى في ظلمة الأفكار، وكثيراً ما يكون ذلك عن كبر يمنعه عن أن يطلب الحق، {فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} .
وقد يعرض له الهوى بعد أن عرف الحق فيجحده ويعرض عنه، كما قال ربنا سبحانه فيهم: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} .
ثم القلب للعلم كالإناء للماء، والوعاء للعسل، والوادي للسيل، كما قال تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} ، الآية.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فسقى الناس وزرعوا، وأصاب منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما أرسلت به، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)).
وفي حديث كميل بن زياد بن علي -رضي الله عنه- قال: ((القلوب أوعية، فخيرها أوعاها)).
وبلغنا عن بعض السلف قال: "القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إلى الله تعالى أرقها وأصفاها"، وهذا مثل حسن؛ فإن القلب إذا كان رقيقاً ليناً كان قبوله للعلم سهلاً يسيراً، ورسخ العلم فيه وثبت وأثر، وإن كان قاسياً غليظاً كان قبوله للعلم صعباً عسيراً.
ولا بد مع ذلك أن يكون زكياً صافياً سليماً، حتى يزكو فيه العلم ويثمر ثمراً طيباً، وإلا فلو قبل العلم، وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم، وكان كالدغل في الزرع إن لم يمنع الحب من أن ينبت منعه من أن يزكو ويطيب، وهذا بين لأولي الأبصار"()
الوقفة الحادية والعشرون:
تخصيص الأمور الثلاثة بالذكر لا يدل على حصر المؤاخذة فيها؛ لأن الإنسان مؤاخذ على جميع تصرفاته، وإنما خصصها بالذكر لما سيأتي في:
الوقفة الثانية والعشرون:
تخصيص هذه الثلاث بالذكر؛ نظراً لعظم خطرها، ولأنها الآلات التي بها يحصل العلم النافع للعبد، وهو ما يميز الإنسان عن غيره من الحيوان؛ إذ إن العلم تدور رحاه على هذه الأقطاب الثلاثة: {السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ}()، والله تعالى أعلم.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله-: "ثم إن الله -سبحانه وتعالى- خلق القلب للإنسان يعلمُ به الأشياء، كما خلق له العين يرى بها الأشياء، والأذن يسمع بها الأشياء، كما خلق له سبحانه كل عضوٍ من أعضائه لأمر من الأمور، وعمل من الأعمال، فاليد للبطش، والرجل للسعي، واللسان للنطق، والفم للذوق، والأنف للشم، والجِلد للمس، وكذلك سائر الأعضاء الباطنة والظاهرة.
فإذا استعمل الإنسان العضو فيما خُلق له وأُعد لأجله فذلك هو الحق القائم، والعدل الذي قامت به السماوات والأرض، وكان ذلك خيراً وصلاحاً لذلك العضو ولربه وللشيء الذي استُعمل فيه، وذلك الإنسان الصالح هو الذي استقام حاله، و {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وإذا لم يُستعمل العضو في حقه بل ترك بطالاً فذلك خسران، وصاحبه مغبون، وإن استعمل في خلاف ما خُلق له فهو الضلال والهلاك، وصاحبه من الذين بدلوا نعمة الله كفراً.
ثم إن سيد الأعضاء ورأسها هو القلب: كما سُمي قلباً، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)).
وإذ قد خُلق القلب لأن يُعلم به فتوجهه نحو الأشياء ابتغاء العلم بها هو الفِكر والنظر،
كما أن إقبال الأذن عن الكلام ابتغاء سمعه هو الإصغاء والاستماع، وانصراف الطَّرف إلى الأشياء طلباً لرؤيتها هو النظر.
فالفِكر للقلب كالإصغاء للأذن، ومثله نظر العينين فيما سبق، وإذا عَلم ما نظر فيه فذاك مطلوبه، كما أن الأذن كذلك إذا سمعت ما أصغت إليه، أو العين إذا أبصرت ما نظرت إليه، وكم من ناظر مفكر لم يحصِّل العلم ولم ينله، كما أنه كم من ناظرٍ إلى الهلال لا يبصره، ومستمع إلى صوت لا يسمعه.
وعكسه من يؤتى علماً بشيء لم ينظر فيه ولم تسبق منه إليه سابقةُ تفكير فيه، كمن فاجأته رؤية الهلال من غير قصد إليه أو سمع قولاً من غير أن يُصغي إليه؛ وذلك كله لا لأن القلب بنفسه يقبل العلم، وإنما الأمر موقوف على شرائط واستعداد قد يكون فعلاً من الإنسان فيكون مطلوباً، وقد يأتي فضلاً من الله فيكون موهوباً.
فصلاح القلب وحقه والذي خلق من أجله هو أن يعقل الأشياء، لا أقول أن يعلمها فقط، فقد يعلمُ الشيء من لا يكون عاقلاً له، بل غافلاً عنه ملغياً له، والذي يعقل الشيء هو الذي يقيده ويضبطه ويعيه ويثبته في قلبه، فيكون وقت الحاجة إليه غنياً فيطابق عمله قوله، وباطنه ظاهره،
وذلك هو الذي أوتي الحكمة، {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} .
وقال أبو الدرداء: "إن من الناس من يؤتى علماً ولا يؤتى حكماً، وإن شداد بن أوس ممن أوتي علماً وحكماً".
وهذا مع أن الناس متباينون في نفس عقلهم الأشياء من بين كامل وناقص، وفيما يعقلونه من بين قليل وكثير، وجليل ودقيق، وغير ذلك().
الوقفة الثانية عشرة
في قوله تعالى: {كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}: الإشارة في قوله: {أُولئِكَ} عائدةٌ إلى ما سبق من السع والبصر والفؤاد، ومعلوم أن الإشارة بـ{أُولئِكَ} مما يختص به العقلاء، وقد ورد استعمالها هنا مع هذه الآلات ولا إشكال في هذا؛ لأنه نزلها منزلة من يعقل ذلك أنها تُسأل عما تلقته كما تُسأل عن صاحبها كما سيأتي.
ومعلوم أن غير العقلاء إذا نُزِّلوا منزلة العقلاء فإنهم يُعاملون معاملتهم من حيث الصيغ والعبارات في الضمائر وصيغ الجموع، كما في قوله تعالى عن الشمس والقمر: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ، والأصل "رأيتها لي ساجدةً" لكن لمَّا كان السجود من أفعال العقلاء ووقع من هذه الجمادات نزِّلوا منزلة العقلاء.
الوقفة الثالثة عشرة:
يُلحظ في هذا القدر من الآية ما يلي:
1- أنه قَدَّم "كل" الدالة على الإحاطة، وكان بالإمكان الاستغناء عن هذه اللفظة فيكون الكلام: "إن السمع والبصر والفؤاد سُتسأل عما وقع منها كما ستُسأل عن صاحبها"، إلا أنه جاء بـ "كل" زيادة في التوكيد وتقرير المعنى، والله أعلم.
2- جاء باسم الإشارة "أولئك" دون الضمير، فلم يقل: "كلها كان عنه مسؤولاً" لما في الإشارة من زيادة التوكيد والتمييز.
3- جاء بفعل "كان" لدلالته على رسوخ الخبر؛ إذ إن هذا أمر واقع لا محالة، والله المستعان.
الوقفة الرابعة عشرة:
في قوله: {كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}: قُدِّم المعمول "عنه" على عامله "مسؤولاً"، والقاعدة المعروفة في هذا الباب هي أن تقديم المعمولات على عواملها يفيد الاهتمام، والمعنى: كل السمع والبصر والفؤاد كان مسؤولاً عن نفسه، ومطالباً بأن يبين مستند صاحبه من حسه.
الوقفة الخامسة عشرة:
في قوله: {مَسْؤُولاً} السؤال هنا كناية عن المؤاخذة بالتقصير وتجاوز الحق، كما يقال: "أنت مسؤول عن تصرفاتك"، أو سُتسأل عن فعلك هذا، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
الوقفة السادسة عشرة:
في معنى قوله: {كَانَ عَنْهُ} أي كان -أي كل أولئك- عن الإنسان مسؤولاً، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ..} ، وقوله: {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} ، الآية.
ويمكن أن يكون المعنى: أن الإنسان يُسأل عن سمعه وبصره وقلبه، ويدل على هذا قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقوله: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وكلا المعنيين صحيح؛ لأن القاعدة أن الآية إذا احتملت معاني متعددة وأمكن حملها على جميع تلك المعاني من غير فساد للمعنى، فإنها تُحمل عليها جميعاً، لا سيما إذا دلَّ القرآن على هذه المعاني جميعاً في مواضع أخرى كما في هذه الآية، وهذا لا شك فيه إن شاء الله، والله أعلم.
فالمحصِّلة أن السمع والبصر والفؤاد هذه كلها تُسأل عما تلقته، كما تسأل عن صاحبها، وأيضاً فإن صاحبها يحاسب عنها.
الوقفة السابعة عشرة:
في قوله: {كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}: التفات؛ ذلك أن أول الآية ورد بأسلوب الخطاب: {وَلاَ تَقْفُ}، وجاء هذا الموضع بأسلوب الغيبة {كَانَ عَنْهُ}، وفي هذا من التفنن بالخطاب وتنشيط السامع ما فيه، والله أعلم.
الوقفة الثامنة عشرة:
إذا كان السمع والبصر والفؤاد منقسماً إلى ما يؤمر به وينهى عنه، والعبد مسؤول عن ذلك، فإن هذا يدعو إلى المراقبة والمحاسبة، والوقوف مع النفس ومساءلتها، والعبد مسؤول عن حركات هذه الجوارح، وهل هي حركات نافعة، بأن وضعت فيما يقرِّب إلى الله تعالى أم ضارة بأن وجهت لمعصية الله.
فعلى العبد أن يتعاهدها بحفظها عن الأمور الضارة؛ ليعد لهذا السؤال جواباً، فمن استعملها في طاعة الله فقد زكاها ونماها، وأثمرت له النعيم المقيم، ومن استعملها في ضد ذلك فقد دساها، وأسقطها وأوصلته إلى العذاب الأليم، نسأل الله العافية.
الوقفة التاسعة عشرة:
في الآية أدب خُلقي رفيع، يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية بحيث لا يختلط المعلوم والموهوم.
الوقفة العشرون:
في الآية إصلاح اجتماعي جليل يجنب الأمة الوقوع في المهالك؛ ذلك أن إهمال تلك الجوارح الثلاث من المراقبة يجعلها تنطلق بلا زمام فتتلقف ما فيه بوارها، فتدمّر الأمة بفساد عقائدها وأخلاقه، وتتفكك الأواصرُ بسبب فشو قالة السوء بين الناس.. الخ.
قال شيخ الإٍسلام أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله-: "ثم هذه الأعضاء الثلاثة هي أمهات ما ينال به العلم ويُدرك، أعني العلم الذي يمتاز به البشرُ عن سائر الحيوانات دون ما يشاركها فيه من الشم والذوق واللمس، وهنا يدرك به ما يحب ويكره وما يميز به بين من يحسن إليه ومن يسيء إليه إلى غير ذلك، قال الله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
وقال: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} .
وقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
وقال: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} .
وقال: {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} .
وقال فيما لكل عضو من هذه الأعضاء من العمل والقوة: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} .
ثم إن العين تقصر عن القلب والأذن، وتفارقهما في شيء وهو أنها إنما يرى صاحبها بها الأشياء الحاضرة والأمور الجسمانية مثل الصور والأشخاص، فأما القلب والأذن فيعلم الإنسان بهما ما غاب عنه وما لا مجال للبصر فيه من الأشياء الروحانية، والمعلومات المعنوية، ثم بعد ذلك يفترقان:
فالقلب يعقل الأشياء بنفسه إذا كان العلم هو غذاؤه وخاصيته، أما الأذن فإنها تحمل الكلام المشتمل على العلم إلى القلب، فهي بنفسها إنما تحمل القول والكلام، فإذا وصل ذلك إلى القلب أخذ منه ما فيه من العلم، فصاحبُ العلم في حقيقة الأمر هو القلب، وإنما سائر الأعضاء حُجَبَةٌ له توصل إليه من الأخبار ما لم يكن ليأخذه بنفسه، حتى إن من فقد شيئاً من هذه الأعضاء فإنه يفقد بفقده من العلم ما كان هو الواسطة فيه.
فالأصم لا يعلمُ ما في الكلام من العلم، والضريرُ لا يدري ما تحتوي عليه الأشخاص من الحكمة البالغة، وكذلك من نظر إلى الأشياء بغير قلب أو استمع إلى كلمات أهل العلم بغير قلب فإنه لا يعقل شيئاً.
فمدار الأمر على القلب، وعند هذا تستبين الحكمة في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} .
حتى لم يذكر هنا العين كما في الآيات السوابق، فإن سياق الكلام هنا في أمور غائبة، وحكمة معقولة من عواقب الأمور لا مجال لنظر العين فيها، ومثله قوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} .
وتتبين حقيقة الأمر في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .
فإن من يؤتى الحكمة وينتفع بالعلم على منزلتين: إما رجل رأى الحق بنفسه فقبله فاتبعه ولم يحتج إلى من يدعوه إليه، فذلك صاحبُ القلب، أو رجلٌ لم يعقله بنفسه، بل هو محتاج إلى من يعلمه ويبينه له ويعظه ويؤدبه، فهذا أصغى فـ{أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ، أي حاضر القلب ليس بغائبه، كما قال مجاهد: "أوتي العلم وكان له ذكرى".
ويتبين قوله: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ* وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} .
وقوله: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} .
ثم إذا كان حق القلب أن يعلم الحق فإن الله هو الحق المبين، {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} ، إذا كان كل ما يقع عليه لمحة ناظر أو يجول في لفتة خاطر، فالله ربه ومنشئه وفاطره ومبدئه، لا يحيط علماً إلا بما هو من آياته البينة في أرضه وسمائه، وأصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
أي: ما من شيء من الأشياء إذا نظرت إليه من جهة نفسه إلا وجدته إلى العدم، وما هو فقير إلى الحي القيوم، فإذا نظرت إليه وقد تولته يد العناية بتقدير من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، رأيته حينئذٍ موجوداً مكسواً حلل الفضل والإحسان، فقد استبان أن القلب إنما خُلق لذكر الله سبحانه، ولذلك قال بعض الحكماء المتقدمين من أهل الشام -أظنه سليمان الخواص -رحمه الله- قال: "الذكر للقلب بمنزلة الغذاء للجسد، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام مع السقم، فكذلك القلب لا يجد حلاوة الذكر مع حب الدنيا"، أو كما قال.
فإذا كان القلب مشغولاً بالله، عاقلاً للحق، متفكراً في العلم، فقد وضع في موضعه، كما أن العين إذا صُرفت إلى النظر في الأشياء فقد وضعت في موضعها، أما إذا لم يُصرف إلى العلم ولم يوع فيه الحق فقد نسي ربه، فلم يوضع في موضع بل هو ضائع، ولا يحتاج أن نقول: قد وضع في موضع غير موضعه، بل لم يوضع أصلاً، فإن موضعه هو الحق، وما سوى الحق باطل، فإذا لم يوضع في الحق لم يبق إلا الباطل، والباطل ليس بشيء أصلاً، وما ليس بشيء أحرى أن لا يكون موضعاً.
والقلبُ هو نفسه لا يقبل إلا الحق، فإذا لم يوضع فيه فإنه لا يقبل غير ما خُلق له، سنة الله، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، وهو مع ذلك ليس بمتروك مخلَّى فإنه لا يزال في أودية الأفكار وأقطار الأماني لا يكون على الحال التي تكون عليها العين والأذن من الفراغ والتخلي، فقد وضع في غير موضع لا مطلق ولا معلق، موضوع لا موضوع له، وهذا من العجب، فسبحان ربنا العزيز الحكيم، وإنما تنكشف للإنسان هذه الحال عند رجوعه إلى الحق، إما في الدنيا عند الإنابة، أو عند المنقلب إلى الآخرة، فيرى سوء الحال التي كان عليها، وكيف كان قلبه ضالاً عن الحق، هذا إذا صرف في الباطل.
فأما لو تُرك وحالُه التي فُطر عليها فارغاً عن كل ذكر خالياً عن كل فكر فقد كان يقبل العلم الذي لا جهل فيه، ويرى الحق الذي لا ريب فيه، فيؤمن بربه وينيب إليه، فإن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء لا يحس فيها من جدع، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} ، وإنما يحول بينه وبين الحق في غالب الحال شغله بغيره من فتن الدنيا، ومطالب الجسد، وشهوات النفس، فهو في هذه الحال كالعين الناظرة إلى وجه الأرض لا يمكنها أن ترى مع ذلك الهلال، أو هو يميل إليه فيصده عن اتباع الحق، فيكون كالعين التي فيها قذى لا يمكنها رؤية الأشياء.
ثم الهوى قد يعترض له قبل معرفة الحق فيصده عن النظر فيه، فلا يتبين له الحق كما قيل: حبك الشيء يعمي ويصم، فيبقى في ظلمة الأفكار، وكثيراً ما يكون ذلك عن كبر يمنعه عن أن يطلب الحق، {فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} .
وقد يعرض له الهوى بعد أن عرف الحق فيجحده ويعرض عنه، كما قال ربنا سبحانه فيهم: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} .
ثم القلب للعلم كالإناء للماء، والوعاء للعسل، والوادي للسيل، كما قال تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} ، الآية.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فسقى الناس وزرعوا، وأصاب منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما أرسلت به، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)).
وفي حديث كميل بن زياد بن علي -رضي الله عنه- قال: ((القلوب أوعية، فخيرها أوعاها)).
وبلغنا عن بعض السلف قال: "القلوب آنية الله في أرضه، فأحبها إلى الله تعالى أرقها وأصفاها"، وهذا مثل حسن؛ فإن القلب إذا كان رقيقاً ليناً كان قبوله للعلم سهلاً يسيراً، ورسخ العلم فيه وثبت وأثر، وإن كان قاسياً غليظاً كان قبوله للعلم صعباً عسيراً.
ولا بد مع ذلك أن يكون زكياً صافياً سليماً، حتى يزكو فيه العلم ويثمر ثمراً طيباً، وإلا فلو قبل العلم، وكان فيه كدر وخبث أفسد ذلك العلم، وكان كالدغل في الزرع إن لم يمنع الحب من أن ينبت منعه من أن يزكو ويطيب، وهذا بين لأولي الأبصار"()
الوقفة الحادية والعشرون:
تخصيص الأمور الثلاثة بالذكر لا يدل على حصر المؤاخذة فيها؛ لأن الإنسان مؤاخذ على جميع تصرفاته، وإنما خصصها بالذكر لما سيأتي في:
الوقفة الثانية والعشرون:
تخصيص هذه الثلاث بالذكر؛ نظراً لعظم خطرها، ولأنها الآلات التي بها يحصل العلم النافع للعبد، وهو ما يميز الإنسان عن غيره من الحيوان؛ إذ إن العلم تدور رحاه على هذه الأقطاب الثلاثة: {السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ}()، والله تعالى أعلم.
الصفحة الأخيرة