
تأملات في آيات من القرآن الكريم
"سورة الإسراء"
1 - ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ .
سرَى بمعنى سار وانتقل، وليست همزة أسرى للتعدية، في مثل قولنا: أشرب وأسقط وأعلم؛ أي: جعله يشرب ويسقط ويعلم، فليس المقصود جعله يسري، بل الكلمة مرادفة لسرى، وتدل في أصل وضعها على الحركة ليلًا، ومع أنها لا تستعمل إلا للدلالة على الحركة في هذا الوقت، فقد نص القرآن الكريم على الزمن بـ: ﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ ،
وذِكر الليل في الآية الكريمة توكيدٌ لمعنى الزمن الذي تحتويه كلمة أسرى، أو إنه وقد جاء نكرة أفاد معنى التبعيض؛ أي: أسرى بعبده في جزء من الليل، وأن الإسراء لم يستغرق الليلَ كله.
والليل بظلمته وانعدام أو ضعف الرؤية فيه يجعل تجلي الأشياء وتبيُّنها بوضوح أمرًا غير يسير في أقل الأحوال، وكان من الممكن لو أن الرحلة تمت نهارًا أن يعزوَ السامعُ رؤيةَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمشاهد الأرضية إلى الضياء الذي يتيحه النهار،
ولكن الرحلة جرت في الليل وفي الظلام الذي يتضاءل التبيُّن فيه إلى درجة كبيرة، فلم يكن خرقُ المكان بطيِّ مسيرة شهر أو أكثر بين مكة المكرمة وبيت المقدس في لحظة هو الخرقَ الإعجازي الوحيد الذي ذكرته الآية، بل أضيف إليه خرق آخر، هو الرؤية الجلية في الظلام الدامس، وسر هذا الخرق المزدوج كامن في قوله تعالى: ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ﴾ ، فلا بد من نور لكي تكون الرؤية حاصلة، والنور الذي رأى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن نور الشمس الذي يعتمد عليه الناس في إدراكهم البصري، بل نورٌ خاص لا يتقيد بليل أو نهار.
واختتام الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ له علاقة بهذه المسألة؛ فإن ما أُسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجله كان آياتٍ اجتمع في استجلائها السمع والبصر، وانطوت الرحلة في مراحلها المختلفة على الكلام والحوار، ثم المعاينة، وقد روت كتب الحديث الشريف التفصيلات الدالة على هذا النسق، كما أن تقديم السمع لم يكن لأهميته وأولويته من بين الحواس، كما قال الكثيرون، بل لأن عملية الإدراك في الليل - وخاصة يومئذ - كانت عن طريق السمع؛ فكان تقديم ﴿ السَّمِيعُ ﴾ هو الأنسبَ.
وذكر علماء التفسير أن الله تعالى قال: ﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ ، ولم يقل: أسرى بنبيِّه أو برسوله؛ لأن العبودية أسمى مقامٍ، ولا شك في صحة ما ذهبوا إليه، وفي أن العبودية لله تعالى مقام لا يدانى، ولكن ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ هنا - فيما يظهر - كان للإشعار بمعنى إضافي، وهو أن إكرام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإسراء كان لاستكماله معنى العبودية في ذاته الشريفة، وهو لا يخرجه عن إطار العبودية، فلا يُغلَى فيه كما غلا النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام.
﴿ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ ، وكون البركة حول المسجد الأقصى يعني أن المسجد نفسَه هو مركز هذه البركة، ولو كان النص على سبيل الافتراض: باركنا فيه، لكانت البركة في المسجد وحده، ولَمَا تمدد إلى أطرافه، وأما ﴿ حَوْلَهُ ﴾ فأشمل لرقعة البركة التي أودعها الله تعالى في هذا الموضع.
وليست البركة ثمارًا وفواكه في تلك المنطقة، كما ذهب إلى ذلك عددٌ من المفسرين؛ لأن بركات الأرض موجودة في كل مكان، ولكنها بركة الإيمان والنور، ولهذه الخَصيصة كان المسجدُ الأقصى أحدَ المواضع التي تُشدُّ إليها الرحال للتعبُّد.


دونا
•
اخت المحبه :
تأملات في آيات من القرآن الكريم "سورة الإسراء" 1 - ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]. سرَى بمعنى سار وانتقل، وليست همزة أسرى للتعدية، في مثل قولنا: أشرب وأسقط وأعلم؛ أي: جعله يشرب ويسقط ويعلم، فليس المقصود جعله يسري، بل الكلمة مرادفة لسرى، وتدل في أصل وضعها على الحركة ليلًا، ومع أنها لا تستعمل إلا للدلالة على الحركة في هذا الوقت، فقد نص القرآن الكريم على الزمن بـ: ﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾ [الإسراء: 1]، وذِكر الليل في الآية الكريمة توكيدٌ لمعنى الزمن الذي تحتويه كلمة أسرى، أو إنه وقد جاء نكرة أفاد معنى التبعيض؛ أي: أسرى بعبده في جزء من الليل، وأن الإسراء لم يستغرق الليلَ كله. والليل بظلمته وانعدام أو ضعف الرؤية فيه يجعل تجلي الأشياء وتبيُّنها بوضوح أمرًا غير يسير في أقل الأحوال، وكان من الممكن لو أن الرحلة تمت نهارًا أن يعزوَ السامعُ رؤيةَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمشاهد الأرضية إلى الضياء الذي يتيحه النهار، ولكن الرحلة جرت في الليل وفي الظلام الذي يتضاءل التبيُّن فيه إلى درجة كبيرة، فلم يكن خرقُ المكان بطيِّ مسيرة شهر أو أكثر بين مكة المكرمة وبيت المقدس في لحظة هو الخرقَ الإعجازي الوحيد الذي ذكرته الآية، بل أضيف إليه خرق آخر، هو الرؤية الجلية في الظلام الدامس، وسر هذا الخرق المزدوج كامن في قوله تعالى: ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ﴾ [الإسراء: 1]، فلا بد من نور لكي تكون الرؤية حاصلة، والنور الذي رأى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن نور الشمس الذي يعتمد عليه الناس في إدراكهم البصري، بل نورٌ خاص لا يتقيد بليل أو نهار. واختتام الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1] له علاقة بهذه المسألة؛ فإن ما أُسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من أجله كان آياتٍ اجتمع في استجلائها السمع والبصر، وانطوت الرحلة في مراحلها المختلفة على الكلام والحوار، ثم المعاينة، وقد روت كتب الحديث الشريف التفصيلات الدالة على هذا النسق، كما أن تقديم السمع لم يكن لأهميته وأولويته من بين الحواس، كما قال الكثيرون، بل لأن عملية الإدراك في الليل - وخاصة يومئذ - كانت عن طريق السمع؛ فكان تقديم ﴿ السَّمِيعُ ﴾ [الإسراء: 1] هو الأنسبَ. وذكر علماء التفسير أن الله تعالى قال: ﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ [الإسراء: 1]، ولم يقل: أسرى بنبيِّه أو برسوله؛ لأن العبودية أسمى مقامٍ، ولا شك في صحة ما ذهبوا إليه، وفي أن العبودية لله تعالى مقام لا يدانى، ولكن ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ [الإسراء: 1] هنا - فيما يظهر - كان للإشعار بمعنى إضافي، وهو أن إكرام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإسراء كان لاستكماله معنى العبودية في ذاته الشريفة، وهو لا يخرجه عن إطار العبودية، فلا يُغلَى فيه كما غلا النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام. ﴿ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1]، وكون البركة حول المسجد الأقصى يعني أن المسجد نفسَه هو مركز هذه البركة، ولو كان النص على سبيل الافتراض: باركنا فيه، لكانت البركة في المسجد وحده، ولَمَا تمدد إلى أطرافه، وأما ﴿ حَوْلَهُ ﴾ [الإسراء: 1] فأشمل لرقعة البركة التي أودعها الله تعالى في هذا الموضع. وليست البركة ثمارًا وفواكه في تلك المنطقة، كما ذهب إلى ذلك عددٌ من المفسرين؛ لأن بركات الأرض موجودة في كل مكان، ولكنها بركة الإيمان والنور، ولهذه الخَصيصة كان المسجدُ الأقصى أحدَ المواضع التي تُشدُّ إليها الرحال للتعبُّد.تأملات في آيات من القرآن الكريم "سورة الإسراء" 1 - ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ...
الله يجزاك الجنة ويزيدك لكتابه تدبرا وعلما وعملا...
الصفحة الأخيرة
ملأ الله قلبك حمدا
وكتب لك في العباد ودا
وأمدك من فضله في الرزق مدا
ولا يسلط عليك من اهل السوء أحدا