دمعة الطيف @dmaa_altyf
محررة فضية
خذ قلبي واعطني ابتسامتك
مهمة الزجاج الأمامي في كل سيارة أن يحمي السائق من عواصف الهواء.
ويحرص كل سائق على أن يكون زجاج السيارة نظيفاً لامعاً.
وتختزل شركات صناعة السيارات كل خبرات العلم لتجعل الجالس خلف المقود يستمتع برؤية واضحة إلى الدرجة التي وضع فيها صانعو السيارات شاشة كمبيوتر يمكن أن يرى الإنسان من خلالها ما أمامه وما خلفه.
والأب والأم هما قائدا سيارة العمر. وليسترجع كل منا خبرة تعلمه لقيادة السيارة للمرة الأولى. إن الواحد منا يمسك بعجلة القيادة وكأنها لص يكاد يفر ولابد من تسليمه إلى الشرطة. ومن بعد أن يتدرب الواحد منا على إتزان حركة أقدامه على مكبح السيارة ودافع البنزين في الموتور وعلى فاصل الحركة وعلى تحريك عصا غيار السرعة، عندها تصبح قيادة السيارة عملية آلية.
لكن ماذا تفعل عندما ترى ابنك وهو في الخامسة من عمره يمسك مسماراً في يده ويحاول تجريح زجاج العربة؟
وماذا تفعل عندما ترى ابنك الذي هو في سن السابعة تمتد يده إلى حافظة نقودك ليأخذ منها قدراً كبيراً من النقود ويدعو أصدقاءه في المدرسة إلى أكبر وليمة حلوى؟
وماذا تفعل عندما يخفي ابنك تقريره الدراسي ويعلن لك أن المدرسة لم تعطه أي تقرير شهري وأنه ناجح في كل المواد ثم تفاجأ بالهاتف يدق في منزلك ليخبرك المسؤول في المدرسة أن ابنك ((يزوغ)) من المدرسة وأنه راسب في كل المواد الدراسية المقررة له؟
أنت هنا في حالة غيظ وتردد وإحباط، وتتمنى تلقائياً أن تعاقب هذا الابن.
أنت تريد أن تعاقب هذا الابن الذي حاول إفساد زجاج السيارة بالمسمار.
أنت تريد أن تعاقب هذا الابن الذي ((أخذ)) أو ((سرق)) من حافظة نقودك بعضاً من المال.
أنت تريد أن تعاقب الابن الذي أخفى عنك تقريره المدرسي وهرب من المدرسة.
وإذا سألت العلماء الأكثر تخصصاً في مجال تربية الأطفال فإنهم يسألونك ببساطة ماذا كان رد فعلك في اللحظة المباشرة لرؤيتك ابنك وهو يخدش زجاج السيارة بمسماره؟
فإن كانت إجابتك هي مجرد الانزعاج من دون أن تعاقبه على فعلة بالتوبيخ واللوم وشرح فائدة زجاج السيارة ومحاولتك سؤاله عن دافعه إلى القيام بمثل هذا العمل ... إذا كنت مجرد منزعج وحائر ومتردد وتتساءل عن أية نظرية في التربية يجب أن تعتمدها في مثل هذا الموقف فأنت مخطئ جداً، لأنك دون أن تدري تقوم بأعظم إفساد لابنك. إنك من حيث لا تدري تجعله في موقف لا يميز فيه بين الصواب والخطأ. لذا عليك أن تعاقبه على الفور ليعرف أن هناك حدوداً للسلوك في الحياة يجب ألا يتخطاها.
صحيح أن من حقك بعد عقاب الابن أن تعرف أنه يشعر بالغيرة من أخته التي تصغره سناً وأن المقارنات التي تعقدها أنت بينه وبين أخته التي هي أصغر منه سناً تجعله يمقت هذه الأخت ويتذكر دائماً أن هذه الأخت قد سرقت منه الأضواء، لكن عليك بعد ذلك أن تعدل في سلوكك تجاهه بعد حادثة خدشه زجاج السيارة بالمسمار لتعلمه كيف يقوم بتنظيف السيارة لو تعطيه مبلغاً صغيراً من النقود في كل مرة يقوم فيها بتنظيف السيارة من الداخل أو الخارج. لكن من الصحيح كذلك أن عليك ألا تتردد في عقابه على الفور إذا ما أخطأ في حقك بتجريح زجاج السيارة.
وأي عالم في التربية أو علم النفس أو الطب النفسي لن يعترض على عقابك لابنك الذي رأيته يأخذ مبلغاً من المال من حافظة نقودك.
يمكنك أن تضربه عقاباً لا غيظاً. ويمكنك أن تؤنبه بحدة لا بمزيد من تجريحه كإنسان. ولكن ذلك لا يمنعك من أن تسأل نفسك: كم هو عمر ابني الذي أخذ النقود من المحفظة؟ وحتى إذا كان بين الثانية والرابعة من العمر فهو يعيش مرحلة ضبابية بين التمييز وعدم التمييز. وإذا كان قد أخذ شيئاً يخص طفلاً آخر في الحضانة فيجب إقناعه حينها بأن يعيد ما أخذه إلى صاحبه وأن يعتذر له لأنه احتفظ بالشيء الذي يخص زميله لمدة من الوقت.
أما إذا كان الطفل فوق سن السابعة فهو قد أخذ من جيبك النقود ليقول لك: ((أنت لست صديقي وكذلك أمي. وأنا أعيش في عزلة وأعاني من مرارة الإحساس بالوحدة، وإنكما معاً مسؤولان عن ضرورة رعايتي لا عن مجرد تقديم الهدايا واللعب، وعليكما إقامة الحوار بيني وبينكما من دون أن تغرقاني في المقارنات المزعجة عن تفوق الآخرين على في كل شيء، وفي الحديث عن خيبتي التي تفوق كل وصف)).
وبإمكانك أن تحلل الأمور وتفهم مشاعر ابنك، ولكن ما دام الخطأ قد وقع فلابد من العقاب.
وأما إذا كان الابن قد أخفى تقريره الشهري فهو كذلك يستحق العقاب، ويجب أن يتم إيقاع العقاب على الفور وبحزم إنما من دون مبالغة. وبعد ذلك يمكنك أن تعرف أن ابنك قد أخفى تقريره الشهري عنك لأنه لا يحب المدرسة ولأن المدرسين كثيراً ما يوجهون له ألفاظاً جارحة. إنني لا أنسى المرة الأولى التي أخفي فيها ابني التقرير الشهري عني. لقد حرمته من المصروف ومن رؤية التليفزيون ومن زيارة المتاحف. ولكني درست أسباب هذه الظاهرة وعرفت أن من عيوبي إني كنت أخاف من جبروت أبي وأنا طفل، لذلك كنت أتفوق في بعض العلوم التي يكرهها هو وأهمل مواد أخرى يحبها هو. كنت أتفوق في الرسم والشعر واللغة العربية وأهمل العلوم والحساب واللغة الإنجليزية. كنت أقاوم جبروت أبي بخيبتي المقصودة في المجالات التي حاول أن يجبرني على إجادتها. وعندما وعيت الحقيقة البديهية، وهي أنني أتعلم لأن الإنسان يجب أن يتعلم ليعيش في المجتمع، بدأت أسير في دراستي سيراً طبيعياً، وبدأت رحلة بحثي وراء ((خيبة ابني))، فعرفت أن هناك مدرِّسة سمعت من ابني أكثر من مرة أن السبورة تلمع أمام عينيه وأنه لا يرى المكتوب عليها فقالت له: ((أنت أعمى)). وعندما توغلت في حياة هذه المدرِّسة عرفت أنها مطلقة حديثاً وأن زوجها يحرمها من رؤية ابنها الذي هو في عمر ابني. فطلبت من مديرة المدرسة أن تساعد المدرِّسة في مواجهة مشاكلها بدلاً من أن تعاقب أبناء الغير. وصحبت ابني إلى الطبيب ليقيس له قوة إبصاره وعرفت أن قوة إبصاره ضعيفة. فأخذته إلى صانع النظارات ليختار له الإطار الذي يفضله للنظارة. ولقد قاوم ابني هذه النظارة الطبية كثيراً وتحملت رحلة مقاومته لها، ورأيته ذات مرة يلقي بها على الأرض بهدف كسرها فلم تنكسر، وعاقبته على ذلك، ثم عرفت منه أنه يطلب إلينا وضع برنامج غذائي له ليقوي بصره. فأخذته إلى الطبيب الذي دخل معه في مناقشات مستفيضة انتهت بقبوله وضع النظارة على عينيه. وبدأ ابني يتعلم الحقيقة الأساسية عن العلم، وهي أن يتعلم لا من أجلي ولكن من أجل أن يخوض غمار التجربة في المجتمع مسلحاً بما يضمن له الاستقلال عني.
إذن نحن في تربية أبنائنا لا نبحث عن نظريات نستوعبها أولاً ثم نطبقها. فقد قام آدم بتربية قابيل وهابيل ولكن قابيل، بسبب من حسده، قتل هابيل واضطر إلى التعلم من الغراب ليواري سوأة أخيه. وأولاد قابيل لم يرتكبوا حماقة القتل وإن تحول الصراع إلى منافسة. إن قدماء الصينيين تنافسوا على بناء السور وأجهدوا أنفسهم لحماية بلادهم. وقدماء العرب قاموا بتربية الأبناء على الفروسية والرحيل وجميل الاستماع إلى الشعر. والمصريون القدماء قاموا بتربية أبنائهم على التقاط الحدس من حقائق الطبيعة التي عاشوا فيها. ومن المؤكد أن تواجد البشرية حتى الآن كان نتيجة قيام الآباء والأمهات بتربية الأبناء، ونتيجة محاولتهم معرفة المختصر المفيد والموجز الرشيد في التربية. ولكن رد الفعل الفوري النابع من الحب والحزم أمر أكثر أهمية من كل النظريات العلمية التي نشأت في أي زمان وأي مكان.
أقول ذلك وفي ذهني حكمة أساسية قالتها لي أمي العجوز عندما سألتها عن أهم نظرية في نظريات التربية طبقتها في حياتها أثناء تربيتي وتربية إخوتي فقالت: ((خليها على الله، كنت أربيكم على مبدأ بسيط هو: خذ قلبي وأعطني ضحكتك. كنت أحاول أن أجعل كل واحد منكم طفلاً سعيداً)). قالت: لأنك قمت بعمل غير أخلاقي، وهو إهدار لجهد الفلاح الذي زرع الأرز والبطاطس، وإهدارك لمال أبيك الذي اشترى لنا هذا الأرز وتلك البطاطس ومعها اللحم، وإهدار لتعبي أنا طول النهار في المطبخ لأعد لكم الطعام. لقد عاقبتك لا لأني أكرهك ولكن لأعلمك كيف تحترم جهد الآخرين)).
ومبدأ أمي هو المبدأ الصحيح: ((خذ قلبي وأعطني ابتسامتك))، وأي تردد في عقاب الابن على الخطأ والتفرغ للسؤال عن النظريات هو الذي ينشئ أطفالاً مدللين دائمي اللجاجة والإزعاج.
إنني أنظر أحياناً إلى زوجتي وهي تطعم طفلي الصغير، فأجدها تقوم بنفس حركات أمها عندما كانت تطعم ابني الكبير، فهي تمد شفتها السفلى إلى الأمام وترفع شفتها العليا إلى أعلى وكأنها هي التي ستأكل. وفي أغلب الأحيان أجد أن زوجتي تعلمت هذه المسألة من أمها منذ أن كانت في الثالثة من العمر عندما كانت تراها وهي تطعم أخاها الصغير الذي صار طياراً.
إننا نعرف أن ((نبرة الصوت)) التي ينطق بها الأب مع ابنه هي نفس ((النبرة)) التي سمعها من أبيه.
وكبار الأطباء النفسيين والعلماء المتخصصين الذين وضعوا كل نظريات التربية يعرفون أنهم تبرموا من أبنائهم في بعض المواقف وتصرفوا مع أبنائهم كما كان آباؤهم يتصرفون معهم في مثل تلك المواقف.
إننا نعرف أن خيال الابن والبنت منذ العام الثالث يبدأ رحلة تقمص السلوك من الأب ومن الأم. إن الطفل يتخيل كيف سيشعر عندما سيكون له أولاد يتصرفون تصرفاً مزعجاً. وبالتحديد، فإن الابن يحتفظ في خياله بألوان السلوك المختلفة، كما أن البنت تفعل الشيء نفسه تتعلم عن أمها إنكار الذات وكيفية تربية الأطفال.
إننا نفرح ـ على سبيل المثال ـ عندما نسمع كلمة ((ماما)) و ((بابا)) من فم الطفل للمرة الأولى، ونظل نكرر الكلمة أمامه بنفس لهجته حتى يعيد نطق الكلمة، وهو يفعل مثلما نفعل نحن بالضبط: إنه يتلقط منا صورة السلوك ليطبقه بعدما يكبر، وينجب أبناءه.
ونحن عندما نعلم أبناءنا كيفية الفصل بين ما يملكونه وبين ما يملكه الآخرون نقوم بما كانت تقوم به مدرسة الحساب في سنوات الدراسة الأولى عندما كانت تضع أربعة كراسات مع أحمد وتضيف إليها الكراسات الخمسة التي يملكها حسام وتعلمنا أن المجموع هو تسعة كراسات، تم تصر على إعادة كراسة كل تلميذ إليه. ونحن نفعل ذلك عندما نعلم الطفل كيف يحترم حاجات غيره.
وحتى عند بلوغه مرحلة المراهقة قد نسمع طلباً للابن فنرفضه تلقائياً، وقد نقرص أذنه، ونجيب على أسئلته الصعبة بحزم يعرف تماماً أنه حزم نهائي. هذا الحزن التلقائي يقي المراهق نفسه من دوامات تمرد يكرهه هو في قرارة نفسه.
إن ولادة الطفل وإن كانت تصاحبها آلام ومتاعب إلا أننا نفرح بذلك العضو الجديد في الأسرة.
والطفل عندما يتم فطامه من ثدي الأم أو من زجاجة التغذية الصناعية فهناك ـ أيضاً ـ متاعب وآلام ولكنه يستمتع بنفسه كإنسان استقل أخيراً عن لون الطعام الواحد وصار قادراً على أن يأكل مثل الكبار.
والطفل عندما يخرج إلى الحضانة يصادف بعضاً من المتاعب والآلام ولكنه يتعرف على مجتمع أوسع من مجتمع الأسرة ويتفاعل معه.
والطفل عندما يذهب إلى المدرسة الابتدائية يصادف بعضاً من المتاعب والآلام ولكنه يتعرف على العلوم والخبرات الإنسانية التي تتيح له المزيد من التفاعل مع المجتمع.
والطفل عندما يمر من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المراهقة يصادف بعض المتاعب والآلام، أي متاعب وداع الطفولة ومسؤولية استقبال دوره الجديد كشاب أو شابة.
والأب والأم، طوال هذه الرحلات، يعيشون دائماً في حال انتباه وترقب طامحين أن يكون ابنهما له شخصية متميزة مغزولة من سلوك الأب والأم معاً.
والنظريات ـ نظريات التربية ـ لا تؤدي إلى أكثر من تعميق للمعرفة، لكنها ليست كل المعرفة.
ولذلك فأنا دائماً مع قول أمي ونظريتها الفريدة: ((خذ قلبي وأعطني ابتسامتك)).
منقووووووول
0
668
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️