sherin yousef

sherin yousef @sherin_yousef

عضوة فعالة

خرج ولم يعد

الأسرة والمجتمع

--------------------------------------------------------------------------------

خرج ولم يعد!!

هناك بعيدًا ... وسط الركام والأسقام ... والسماء لا تتوقف عن الأمطار .. وصوت الرعد يرعد القلوب والأسماع..

تحت القطار المتلطخ بأدران الزيوت والشحوم .. في الساعة الثانية صباحًا كان أدهم الطفل التعيس يجلس منكمشًا تحت هذا القطار ملتفًا في ملابسه القليلة التي لا تقي من مطر ولا برد ... ضامًا ركبتيه إلى صدره يرتعد ويرتعش من شدة البرد, ولكن قساوة العيش علمته أن يتحمل هذه القسوة.

ورغم هذا الصبر والجلد .. جلس لحظة يتذكر والده 'صالح' الذي كان يضحك معه، ويداعبه وهو صغير، ويمسح بيده الحانية على رأسه ويقبله ويضمه إليه ويقول له: أدهم كم أحبك يا بني.

جلس أدهم في هذا الجو البارد القارص يتذكر الذكريات السعيدة حتى ينسى هموم اليوم وحتى لا يشعر ببرودة الشتاء وغزارة المطر.

ـ تذكر يوم كان والده يأخذ بيده كل صباح ويذهب به إلى المدرسة عندما كان في الصف الأول الابتدائي ثم يعود ليصطحبه معه إلى البيت بعد نهاية اليوم الدراسي.

تذكر يوم كان أبوه يدخل عليه كل يوم قبل أن ينام ويأخذه في أحضانه الدافئة ويقول له: نم يا بني, نم قرير العين يا أدهم, نم يا ولدي العزيز.

ـ تذكر يوم كان يدخل عليه كل يوم ويده لا تخلو من الحلوى ليهديها إليه.

ـ تذكر يوم كان يأخذ بيده إلى المسجد ويصلي معه الصلوات الخمس في المسجد.

ـ تذكر لحظات تعليمه فن الوضوء والصلاة وحب القرآن وحب الله.

ـ تذكر أدهم اللحظات السعيدة, ولكن للأسف صفحات السعادة في سجل تاريخه انتهت.

فقلبت الصفحة, فإذا بأول صفحة تعاسة في حياته التي انفرط بعدها عقد الحزن والألم ومزقت حباته الملتهبة فؤاده الصغير.

كانت البداية يوم السبت في بداية العام الدراسي، وكان أدهم على مشارف الصف الثاني الابتدائي ... وكالعادة يذهب والده معه ليوصله إلى المدرسة وليوصي المدير والمدرسين عليه ويتابعه أولاً بأول.

ـ وفي الطريق وقعت الكارثة التي أنهت صفحة السعادة في حياة أدهم, سيارة سريعة أعماها ضباب الصباح أن ترى والد أدهم وهما يعبران الطريق .. ولكن والد أدهم انتبه في آخر لحظة ودفع بابنه بعيدًا عن السيارة التي مزقت جسده عيانًا بيانًا أمام ناظري أدهم الذي أصابته حالة هستيريا وانتابه صراخ شديد لا يتوقف حتى غشي عليه من هول الصدمة، وسقط أدهم وحمله الناس إلى أمه!!

ـ وهنا لم يتمالك أدهم نفسه وهو ملتف تحت هذا القطار..

وانسابت دموعه كأنها نهر يجري يغسل هذا الجسد التعيس مع مياه الأمطار, وبدأ صوته يرتفع في البكاء وصوت المطر يهدأ ويهدأ ويسكن الجو .. ويرتفع أذان صلاة الفجر.. وكان الشيخ حامد إمام المسجد ملتفًا في ثيابه يمشي مسرعًا ليدخل المسجد للصلاة ولكنه توقف لحظة أمام القطار الذي يجلس تحته أدهم .. وتعجب الشيخ من هذا الصوت المرتفع بالنحيب .. فأخذ ينادي ... من هناك؟

أدهم لا يرد ونبضات قلبه تزداد خوفًا من أن يكون صوت الحرس الذين يطاردونه في كل مكان بتهمة أنه طفل شوارع.

ولكن الشيخ نزل إلى أسفل واقترب من أدهم .. فابتعد أدهم فزعًا .. فقال له الشيخ: لا تخف يا بني .. ما بك؟

أدهم صامت لا يتكلم لا يدري ما يقول .. وما يمكن أن يقال .. وماذا سيفيد المقال؟ ولكن الشيخ ألح عليه ... ما بك يا بني؟ لماذا تجلس هكذا؟

قال أدهم والبكاء يملأ عينيه: أبي صالح .. أبي صالح: مات ... مات يا شيخ ... وانفرط في البكاء.

انسابت دموع الشيخ وأشفق على الصغير وقال له: قم يا بني من هذا المكان, تعال نصلي معًا صلاة الفجر.

ـ وجد أدهم نفسه منساقًا رواء الشيخ الذي أخذ بيده في رفق وكأنه ذكره بوالده صالح الذي كان يوقظه دائمًا لصلاة الفجر.

ـ ودخلا المسجد سويًا ونفض أدهم عن ثيابه غبار الشارع وتوضأ وصلى الشيخ بصوت ندي ارتاح له أدهم وزاده أمانًا وسكينة ... وبعد الصلاة .. وبعد انصراف الناس سأل الشيخ: ما بك يا بني احكِ لي حكايتك!

ـ بدأ أدهم يحكي للشيخ حكايته بداية من وفاة والده العزيز والشيخ منصت لحديثه:
'أمي لم تطق أن تعيش بدون رجل .. من الذي سينفق علينا ويكفينا مؤونة العيش، ولكن أمي أسرعت في اختيار الزوج، لقد تزوجت هذا الرجل لشيء واحد فقط هو ماله الذي أنفق به علينا .. هذا الرجل الذي أكرهه من كل قلبي لا يعرف للرحمة سبيلاً، يعاملني معاملة السيد لعبده لأنه ينفق على يظن أنه بذلك أصبح سيدي، أو أنني أصبحت عبدًا له يأمرني وينهاني ويضربني بأشد أساليب الضرب، أختي التي هي أختي من أمي وليس من أبي تعامل كما تعامل الملكات, توفر لها كل طلباتها, تفضل علي في كل شيء لا يضربها والدها أبدًا ... أما أنا فأعامل معاملة العبيد .. لا يمر علي يوم حتى أذوق من هذا الرجل الويلات تلو الويلات, يضربني كما تضرب البهائم, بل البهائم ربما أحسن حالاً مني.

يربطني بالحبل وينهال علي بالسوط والعصا ولا يلقِ بالاً لصراخي أو بكائي أو حتى جراحي التي تبدو واضحة في جسدي من جراء ضرباته.

أما أمي فلا تملك من الأمر شيئًا, وهي أيضًا تخاف منه وتحرص على رضاه لأنها لا تستطيع أن تعيش بدون مال.

أما أخوالي وأقاربي فكل في فلك يسبحون وكل واحد منهم في دنياه الخاصة لا يسأل عن أحد.

أما أنا فلقد كرهت الحياة, وتأخرت في دراستي فلم أنجح هذا العام, فكان العقاب أشد, والأدهى أن يمتنع زوج أمي عن دفع مصاريف الدراسة لي، فصرتُ بلا مدرسة وبلا أب وبلا أم وبلا أكل وبلا شرب، صرت يا شيخ بلا حياة ... إن حياتي تحت هذا القطار أهون علي بكثير من حياتي تحت سوط هذا الرجل، خرجتُ وتركتُ البيت لهذا السبب يا شيخ.

كان الشيخ يسمع لأدهم في إنصات والدموع تنساب على وجنتيه وهو ينظر إلى جدران الحائط في محطة القطار، ومعلق عليها ورقة فيها صورة أدهم مكتوب عليها:

'خرج ولم يعد', مكتوب عليها .. إلى أنصار الإنسانية .. نظر أدهم إلى الشيخ بعد أن لاحظ هذه اللافتة وقال له في خوف: أرجوك يا شيخ لا تسلمني لهم, إنهم لا يرحمون ... أرجوك يا شيخ لا تتركني وحدي.

ـ وقف الشيخ مكتوف اليدين حيران, وهو يقلب بصره بين أدهم وبين هذه الصورة المكتوب عليها: إلى أنصار الإنسانية .. الأصل الذي لم يعامل معاملة الإنسان، ولم تحفظ له إنسانيته، أو حتى على الأقل طفولته..

'خرج ولم يعد' لأنه أصبح ضحية وفريسة لهذا الرجل المريض نفسيًا الذي لا يعرف للرحمة معنى ولا سبيلاً.

'خرج ولم يعد', لأنه أصبح ضحية التفكك الأسري وقلة الوعي أو عدمه من الآباء.

'خرج ولم يعد' لأن أمه آثرت المال على الصلاح واختارت المال على راحة البال وصلاح العيال.

'خرج ولم يعد', لأنه طفل يحتاج كما يحتاج أي طفل إلى أب يربت على كتفيه, ويمسح على رأسه ويأخذ به إلى السعادة وطيب العيش، طفل برئ مسكين يحتاج إلى من يذهب به إلى الملاهي وإلى شواطئ البحر، يحتاج من أعماق قلبه إلى الحنان والأحضان، يحتاج إلى من يشتري له لعبة وحلوى وملابس جديدة.

'خرج ولم يعد', وخرج النوم من عينيه ولم يعد، وخرجت السعادة من قلبه فلم تعد، وخرج الأب الحنون من حياته فكيف يعود؟

فهو إذن ضحية اختيار غير صحيح من الأم التي لم تحفظ في سمعها وبصرها وقلبها:

'إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير'

وكانت الفتنة في أدهم، ولأدهم ... وكان الفساد الكبير .. رسالة نقولها لأم أدهم.

'لو كان الاختيار على أساس الدين!!'

نقصد بالدين الفهم الحقيقي للإسلام والتطبيق العملي لكل فضائله السامية وآدابه الرفيعة, ونقصد كذلك الالتزام الكامل بمنهاج الشريعة ومبادئها الخالدة على مر الزمان والأيام, فعندما يكون الواحد من الزوجين على غير هذا المستوى من الفهم والتطبيق والالتزام فمن البديهي أن تحكم عليه بانحراف سلوكه وفساد أخلاقه والبعد عن الإسلام مهما أظهر للناس مظهر الصلاح والتقوى وزعم أنه مسلم مستمسك.

ـ وما أدق ما سنه الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وضع الموازين الصحيحة لمعرفة الأشخاص وإظهار حقائق الرجال، وذلك حينما جاءه رجل يشهد لرجل آخر، فقال له عمر: أتعرف هذا الرجل؟

فأجاب: نعم.

قال: هل أنت جاره الذي يعرف مدخله ومخرجه؟

فأجاب الرجل: لا.

قال عمر: هل عاملته بالدينار والدرهم الذي يعرف به ورع الرجل؟

فأجاب الرجل: لا.

فصاح به عمر: لعلك رأيته قائمًا يصلي في المسجد يرفع رأسه تارة ويخفضه أخرى، فرد الرجل: نعم!!

فقال له عمر: اذهب فإنك لا تعرفه، والتفت إلى الرجل وقال له: ائتني بمن يعرفك.

ـ فعمر رضي الله عنه لم ينخدع بشكل الرجل ولا مظهره، ولكن عرف الحقيقة بموازين صحيحة كشفت عن حاله،ودلت على تدينه وأخلاقه.

ـ وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: 'إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم'.

ـ وتلك هي نهاية قصة أدهم وهي اللانهاية, فكيف السبيل وقد وقع الفأس في الرأس كما يقولون، وماذا يفعل هذا الشيخ الحيران ... أيرده إلى أهله أحفظ له من هذا البرد؟ أم يتركه؟ أم يكفله؟

والأمر متروك لرحمة هذا الشيخ به.

ولكننا لا نضمن أن يقع أمثال أدهم تحت رحمة الصالحين, فربما وقعوا تحت يد الظلمة والمقدمين واللصوص، فعندها إذن الله لهم .. فالله الله في أطفالكم.

منقول
:44:
6
690

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

البراقة
البراقة
أحسنت بارك الله فيك:26:
ماوية
ماوية
جزاك الله خير ...

الله يحفظ ذريتنا وذراري المسلمين من كل شر وسوء ...

قصة مؤثرة حقا,,,,, وتحدث وفيه حالات مشابهه كثيره وحالات اشد قسوه ...
متفائلة2
متفائلة2
جزاك الله خير واحسن اليك ....
فـعلا قصة مؤثرة ومعبرة ... وتـطرق ابواب عدة ... فهل من متعظ ؟؟

اللهم أحفظنا وعزنا بطاعتك

ولك اخيتي اجمل تحية:26:
! طـواري !
! طـواري !
بارك الله فيك
حبيبة أبوها
حبيبة أبوها
جزاك الله غاليتي:27:


حمانا الله من كل شر







:26: