
هنيّة!!
افتحي الباب! الشمس توسطت كبد السماء،
وأنتِ ما زلتِ نائمة
رنّ صوتها، ممزقًا سكون الصباح الباكر.
شاخ كل شيء فيها إلا صوتها ، رغم انها في الثمانين ،لا عجب فقد تمتعت بحنجرة رنانة قوية،و كانت تردد الأهازيج الشعبية في كل الأعراس
والمناسبات. لذلك، تسابقت نسوة الحيّ للتودد إليها ونيل رضاها.
طال عليها الوقوف، فأمسكت بمقبض الباب الحديدي بيد، وبالأخرى عصاها الغليظة، وقرعت الباب ثانية، قائلة بصوت أقل حدة:
ـ هنيّة يا ابنتي، انقضى النهار ولم نبدأ أشغالنا بعد... سيسخر منك الجيران!
أصاخت السمع، لكن لا مجيب.
هنيّة، ابنتها الحبيبة، روحها وقلبها.
أنجبت سواها كثيرًا من الأبناء والبنات،لكن الموت اختطفهم صغارًا، رُضّعًا، لميعش أحدهم أكثر من عامين.
صبت حبها وعاطفتها على هنيّة، زهرة حياتها،
سقتها بالحنان والاهتمام.
عندما تقدم كمال لخطبتها، اشترطت عليه أن يبني لها بيتًا بجانب بيتها، فهي لاتحتمل فراقها.
ـ ما كل هذا النوم يا ابنتي؟ ضاع العمرفي النوم ولم نربح منه شيئًا!
تذمّرت العجوز بعد أن شعرت بالتعب،وقررت أن تمنح نفسها محاولة أخيرة.
كانت تضع حول عنقها المترهل خيطًاغليظًا تتدلى منه مفاتيح كثيرة،بأحجام وأشكال مختلفة.
جرّبت بعضها في القفل، لكنها لم تُفلح.
جلست القرفصاء على الدكة الإسمنتيةأمام الباب، وأسندت عصاها برفق إلى جانبها.
تلك العصا أنيسة وحدتها، ترافقها في مشاويرها، تهشّ بها الكلاب، وأحيانًا تؤدب بها الصبية المشاكسين.
لم تكن تتوانى عن معاقبة من يستحق، فالجميع أبناؤها، والجميع مسؤولون منها، تعرفهم كما تعرف الخطوط في كف يدها.
لطالما قصدتها نسوة الحيّ لطلب النصيحة والمشورة في أمور الحياة، وكانت دائمًا وسيطة خير بين المتخاصمين والمتنازعين.
تمتعت بذكاء نافذ ونظرة حادة رغم تهدل جفنيها.
مدّت يدها لتعدّل غطاء رأسها المنزلق، فكشف عن بداية شعرها المغطى بالشيب.
انسدلت ضفيرتها الطويلة وراء ظهرها المحني، وانسابت قطرات العرق على جبينها المجعّد ووجنتيها الذابلتين، المزيّنتين بوشوم صغيرة.
أخذت طرف شالها الأخضر ومسحت به وجهها، ثم راحت تُروّح به على نفسها.
كانت أخراصها الذهبية الكبيرة تتدلى من أذنيها، تحدث رنينًا محببًا.
ترتدي ثلاثة في كل أذن، لم تتخلَّ عنهم يومًا. كانوا هدية من أمها الراحلة، ورمزًا للوجاهة والأناقة في أيامها، كما ورثت عنها الفصاحة والشجاعة.
الطقس الحار لا يناسبها ويعكر مزاجها.
هبّت نسمة صباح عليلة فأنعشتها.
رمت شالها فوق رأسها، وراحت تغني بصوت دافئ:"للاّ للاّ للاّ للاّ، ولدي خير مالباي بكله..."وانسابت نغمتها سابحة في الجو، كأنها تهدهد غائبًا لن يعود.
أمسكت بذيل شالها المعقود، فتحته وأخرجت منه قطعة حلوى، نزعت غلافها بعناية، وضعتها في فمها الشبه الخالي من الأسنان، وأخذت تمتصها بفرح.
سنتها الفضية ما زالت صامدة في وجه التصحر.
أطلت رشيدة برأسها من شباك مطبخها بعد أن سمعت الصوت الحنون.
رأت العجوز في جلستها تلك، وهزّت رأسها بأسى.
إنها هناك كعادتها كل يوم، لم تنقطع عن المجيء أبدًا منذ أن قضت هنيّة، ابنتها الوحيدة، وزوجها، في حادث سير مفجع، زلزل أركان الحيّ الصغير، وحطم قلب العجوز، وترك أثرًا في عقلها لا يُمحى.
كان يومًا قائظًا، لا تزال رشيدة تذكره وكأنه البارحة، فقد خسرت فيه صديقة طفولتها العزيزة.
تنهدت بحرقة، وحوقلت، ثم فرشت حصيرًا مهترئًا تحت ظل دالية العنب، وأعدّت فطورًا بسيطًا، وجهزت عدة الشاي.
توجهت نحو العجوز قائلة بلطف، على أمل إقناعها:ـ صباح الخير يا خالة... لماذا تفترشين الأرض هكذا؟ الشمس حارة عليكِ..
خرجت هنيّة باكرًا اليوم، عندها موعد مع الطبيب في المدينة. تعالي نشرب الشاي سويًا... أعددته كما علمتني هزّت العجوز رأسها بتفهم، وشردت بنظراتها في وجه رشيدة لحظات، ثم قالت بريبة:ـ لابد أنها أخبرتني ونسيت... أصبحت كثيرة النسيان هذه الأيام.التقطت عصاها، وحاولت الوقوف:ـ
هاتِ يدكِ يا ابنتي، وساعديني. أريدأن أجهّز لها شيئًا تأكله عند عودتها.ابنتي المسكينة، أتعبتها مواعيد الأطباء...
مدّت رشيدة يدها تساعدها، ولاحظت حرقًا في إصبعها السبابة، لا بد أنها آذت نفسها وهي تجهز الطعام لابنتها الغائبة.
سالت دمعة صامتة من عينها، وضغطت كف العجوز النحيلة بلطف، وبابتسامة عطوفة، أخرجت قطعة حلوى من جيبها، وعقدتها برفق في طرف شال العجوز دون أن تنتبه.
مضت تسندها وهي تخطو ببطء، دون أن تنبس بكلمة. عقلها يرفض تصديق ما آل إليه حالُ سيدة الحيّ وذاكرته الحية.
اختلست رشيدة نظرة إلى الباب المغلق، بنفس تملؤها الحسرة
بقلمي
أسلوب مميز
وسرد ممتع ..
وقلم متمكن
تمتعت بكل تفاصيل الحكاية
وتابعتها للنهاية ..
أجدت 🌹🌹