خصال البر والتقوى
المقدمة:
الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات، والصلاة والسلام على الشفيع في العرصات، محمد بن عبد الله المؤيد بالمعجزات، وعلى آله وصحبه خير البريات، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم العرض على رب الأرض والسموات.
أما بعد:
فإن الله -سبحانه- قد بين للناس طرق الخير وحثهم عليها، وبين لهم سبل الشر، وحذر من سلوكها، وذلك في كثير من آياته. فمن الآيات التي بين الله فيها طرق الخير قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..} الآية.. فقد تضمنت هذه الآية ذكر جل قواعد وأصول الدين العامة؛ فتضمنت ذكر جُل أركان الإيمان من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ويدخل فيه ما يكون بعد الموت؛ كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، وأخذ الكتاب باليمين، أو الشمال، والجنة، وما ذُكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب، والسنة عن هذه الأمور مفصلاً أحياناً، ومجملاً أحياناً. وتضمنت ذكر بعض أركان الإسلام، من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة للمستحقين لها، وتضمنت الإشارة أعمال الجوارح؛ كالوفاء بالعهود، وتضمنت الإشارة إلى أعمال الجوارح كالصَّبرِ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. فإلى شرح وجيز لهذه الآية، ثم استخراج بعض الفوائد المستنبطة منها.
الآيـة:
قال الله -تعالى-: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} سورة البقرة: 177.
شرح الآية:
هذه آية كريمة اشتملت على جمل عظيمة، وقواعد مستقيمة، يقول الله- تعالى-: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} "البر" في الأصل الخير الكثير؛ ومنه سمي "البَرّ" لسعته، واتساعه؛ ومنه "البَرّ" اسم من أسماء الله؛ كما قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} سورة الطور 28؛ ومعنى الآية: ليس الخير، أو كثرة الخير، والبركة أن يولي الإنسان وجهه قبل المشرق- أي جهة المشرق؛ أي جهة المغرب. وهذه الآية نزلت توطئة لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؛ بين الله -عز وجل- فيها أنه ليس البر أن يتوجه الإنسان إلى هذا، أو هذا؛ ليس هذا هو الشأن؛ الشأن إنما هو في الإيمان بالله... إلخ. أما الاتجاه فإنه لا يكون خيراً إلا إذا كان بأمر الله؛ ولا يكون شراً إلا إذا كان مخالفاً لأمر الله؛ فأيّ جهة توجهتم إليها بأمر الله فهو البر. وجاءت الآية بذكر المشرق، والمغرب؛ لأن أظهر، وأبين الجهات هي جهة المشرق، والمغرب. فليس من البر تولية الإنسان وجهه قبل المشرق أو المغرب، ولكن البر يكون بالخصال التالية:
أولاً: الإيمان بالله:
قوله: {ولكن البر من آمن بالله} "الإيمان" في اللغة بمعنى التصديق؛ لكنه إذا قرن بالباء صار تصديقاً متضمناً للطمأنية، والثبات، والقرار؛ فليس مجرد تصديق؛ ولو كان تصديقاً مطلقاً لكان يقال: آمنه- أي صدقه؛ لكن:" آمن به" مضمنة معنى الطمأنينة، والاستقرار لهذا الشيء؛ وإذا عديت باللام- مثل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} سورة العنكبوت26- فمعناه أنها تضمنت معنى الاستسلام والانقياد. والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده، وربوبيته، ، وأولهيته، وأسمائه وصفاته.
ثانياً: الإيمان باليوم الآخر:
قوله: {واليوم الآخر} هو يوم القيامة؛ وسمي آخراً؛ لأنه ليس بعده يوم. ويشمل الإيمان باليوم الآخر؛ الإيمان بكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله-صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت؛ كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، وأخذ الكتاب باليمين، أو الشمال، والجنة، وما ذُكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب، والسنة عن هذه الأمور مفصلاً أحياناً، ومجملاً أحياناً.
ثالثاً: الإيمان بالملائكة:
قوله: {والملائكة} جمع ملَك؛ وهم عالَم غيبي خلقهم الله -سبحانه وتعالى- من نور، وذللهم لعبادته، وهم لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم أجسام ذوو عقول؛ لقوله: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} سورة فاطر1؛ ولقوله تعالى في وصف جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} سورة التكوير19-21.
رابعاً: الإيمان بالكتب:
قوله: {والكتاب}؛ المراد به الجنس؛ فيشمل كل كتاب أنزله الله -عز وجل- على كل رسول، ومن ذلك الإنجيل الذي على موسى، والتوراة على عيسى، والزبور على داود، وصحف إبراهيم وموسى، والفرقان الذي أنزل على محمد- صلى الله عليه وسلم-.
خامساً: الإيمان بالأنبياء:
قوله: {والنبيين} يدخل فيهم الرسل؛ لأن كل رسول فهو نبي، ولا عكس؛ قال الله –تعالى-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} سورة النساء163. وقد ذكر في القرآن أربعة وعشرون رسولاً؛ كما قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ} أي إبراهيم: {إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} سورة الأنعام84-86؛ فهؤلاء ثمانية عشر؛ ويبقى شعيب، وصالح، وهود، وإدريس، وذو الكفل، ومحمد -صلى الله عليه وسلم-.
سادساً: بذل الصدقة للمستحقين:
قوله: {وآتى} أي أعطى؛ {المال} كل عين مباحة النفع سواء كان هذا المال نقداً، أو ثياباً، و طعاماً، أو عقاراً، أو أي شيء. قوله: {على حبه} حال من فاعل {آتى}، يعني حال كونه محباً له لحاجته إليه؛ كالجائع، أو لتعلق نفسه به، مثل أن يعجبه جماله، أو قوته، أو ما أشبه ذلك. والمستحقين للصدقة الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله في قوله –تعالى-: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} سورة التوبة 60. وقد ذكر الله منهم في هذه الآية ما يلي:
1. قوله: {ذوي القربى} أي أصحاب القرابة؛ والمراد قرابة المعطي؛ وبدأ بهم قبل كل الأصناف؛ لأن حقهم آكد؛ وقد ذكروا أن القرابة ما جمع بينك وبينهم الجد الرابع. وتصرف الزكاة لهم بشرط أن يكونوا فقراء، ولا تجب على المزكي أن ينفق عليه.
2. قوله: {واليتامى} جمع يتيم؛ وهو من مات أبوه قبل بلوغه من ذكر، أو أنثى؛ فأما من ماتت أمه فليس بيتيم؛ ومن بلغ فليس بيتيم؛ وسمي يتيماً من اليتم؛ وهو الانفراد؛ ولهذا إذا صارت القصيدة جميلة، أو قوية يقولون: هذه الدرة اليتيمة- يعني أنها منفردة ليس لها نظير.
3. قوله: {والمساكين} جمع مسكين؛ وهو الفقير؛ سمي بذلك لأن الفقر أسكنه، وأذله؛ والفقر- أعاذنا الله منه- لا يجعل الإنسان يتكلم بطلاقة؛ هذا في الغالب؛ لأنه يرى نفسه أنه ليس على المستوى الذي يمكنه من التكلم؛ ويرى نفسه أنه لا كلمة له، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"1. واعلم أن الفقير بمعنى المسكين؛ والمسكين بمعنى الفقير؛ إلا إذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى غير الآخر؛ فالفقير أشد حاجة، كما في آية الصدقة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} سورة التوبة60؛ لأن الله بدأ به؛ ويُبدأ بالأحق فالأحق، والأحوج فالأحوج في مقام الإعطاء؛ ويجمعهما - أعني الفقير، والمسكين - أن كلاً منهما ليس عنده ما يكفيه وعائلته من مطعم، ومشرب، وملبس، ومسكن، ومنكح، ومركوب.
4. قوله: {وابن السبيل}؛ "السبيل" بمعنى الطريق؛ والمراد بـ {ابن السبيل} الملازم للطريق؛ وهو المسافر؛ والمسافر يكون في حاجة غالباً، فيحتاج إلى من يعطيه المال؛ ولهذا جعل الله له حظاً من الزكاة؛ فابن السبيل هو المسافر؛ وزاد العلماء قيداً؛ قالوا: المسافر المنقطع به السفر -أي انقطع به السفر؛ فليس معه ما يوصله إلى بلده؛ لأنه إذا كان معه ما يوصله إلى بلده فليس بحاجة؛ فهو والمقيم على حدٍّ سواء؛ فلا تتحقق حاجته إلا إذا انقطع به السفر.
5. قوله: {والسائلين} جمع سائل؛ وهو المستجدي الذي يطلب أن تعطيه مالاً؛ وإنما كان إعطاؤه من البر؛ لأن معطيه يتصف بصفة الكرماء؛ ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُسأل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه؛ والسائل نوعان؛ سائل بلسان المقال: وهو الذي يقول للمسؤول: أعطني كذا؛ وسائل بلسان الحال: وهو الذي يُعَرِّض بالسؤال، ولا يصرح به، مثل أن يأتي على حال تستدعي إعطاءه.
6. قوله: {وفي الرقاب} أي في إعتاق الرقاب، أو فكاكها من الأسر.
سابعاً: إقامة الصلاة:
قوله: {وأقام الصلاة} هذه معطوفة على {آمن} التي هي صلة الموصول؛ فيكون التقدير: ومن أقام الصلاة؛ و{الصلاة} المراد بها الفرض، والنفل؛ وإقامتها الإتيان بها مستقيمة؛ لأن أقام الشيء يعني جعله قائماً مستقيماً؛ وليس المراد بإقامة الصلاة الإعلام بالقيام إليها.
ثامناً: إيتاء الزكاة:
قوله: {وآتى الزكاة} أي أعطى الزكاة مستحقها؛ و"الزكاة" أيضاً من الكلمات التي نقلها الشرع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي؛ فالزكاة في اللغة من زكا يزكو -أي نما، وزاد؛ وبمعنى الصلاح؛ ومنه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} سورة الشمس 9. أي أصلحها، وقومها؛ لكن في الشرع "الزكاة" هي التعبد ببذل مال واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة؛ وسميت زكاة؛ لأنها تنمي الخُلق وتنمي المال، وتنمي الثواب؛ تنمي الخُلُق بأن يكون الإنسان بها كريماً من أهل البذل، والجود، والإحسان؛ وهذا لا شك من أفضل الأخلاق شرعاً، وعادة؛ وتنمي المال بالبركة، والحماية، والحفظ؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما نقصت صدقة من مال"2؛ وتزكي الثواب؛ كما قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} سورة البقرة261؛ وصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب؛ فإن الله تعالى يأخذها بيمنيه، فيربيها، كما يربي الإنسان فلوه حتى تكون مثل الجبل"3.
تاسعاً: الوفاء بالعهد:
قوله: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا}؛ {إذا} هنا مجردة من الشرطية؛ فهي ظرفية محضة- يعني: الموفون بعهدهم وقت العهد؛ أي في الحال التي يعاهدون فيها؛ فإذا عاهدوا وفوا. والعهد عهدان عهد مع الله، وعهد مع الخلق، فهم يوفون بالعهدين.
عاشراً: الصبر في السراء والضراء:
قوله: {والصابرين} الصبر حبس النفس على طاعة الله، أو عن معصيته، أو على أقداره المؤلمة. قوله: {في البأساء والضراء وحين البأس}: {البأساء} شدة الفقر؛ ومنه "البؤس" يعني الفقر؛ و{الضراء} المرض؛ و{حين البأس} شدة القتل؛ فهم صابرون في أمور لهم فيها طاقة، وأمور لا طاقة لهم بها؛ {في البأساء} يعني: في حال الفقر؛ لا يحملهم فقرهم على الطمع في أموال الناس، ولا يشكون أمرهم لغير الله؛ بل يصبرون عن المعصية: لا يسرقون، ولا يخونون، ولا يكذبون، ولا يغشون؛ ولا تحملهم الضراء- المرض، وما يضر أبدانهم - على أن يتسخطوا من قضاء الله وقدره؛ بل هم دائماً يقولون بألسنتهم وقلوبهم: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً؛ كذلك حين البأس يصبرون، ولا يولون الأدبار- وهذا صبر على الطاعة؛ فتضمنت هذه الآية: {الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس} الصبر بأنواعه الثلاثة: الصبر عن المعصية؛ وعلى الأقدار المؤلمة؛ وعلى الطاعة؛ والترتيب فيها للانتقال من الأسهل إلى الأشد.
ثواب المتحلي بالصفات السابقة:
قال الله- تعالى-: {أولئك الذين صدقوا} هذه شهادة من الله -عز وجل-؛ وهي أعلى شهادة؛ لأنها شهادة من أعظم شاهد -سبحانه وتعالى-؛ والمشار إليهم كل من اتصف بهذه الصفات؛ والإشارة بالبعيد لما هو قريب لأجل علو مرتبتهم. وقوله: {الذين صدقوا} أي صدقوا الله، وصدقوا عباده بوفائهم بالعهد، وإيتاء الزكاة، وغير ذلك.
قوله: {وأولئك هم المتقون} أي القائمون بالتقوى؛ و "التقوى" هي اتخاذ الوقاية من عذاب الله -عز وجل- بفعل أوامره، واجتناب نواهيه؛ وهذا أجمع ما قيل في تعريف التقوى؛ وتأمل كيف جاءت هذه الجملة بالجملة الاسمية المؤكدة؛ الجملة اسمية لدلالتها على الثبوت، والاستمرار؛ لأن الجملة الاسمية تدل على أنها صفة ملازمة للمتصف بها. وقوله: {وأولئك هم المتقون} هؤلاء جمعوا بين البر والتقوى؛ البر: بالصدق؛ والتقوى: بهذا الوصف: {أولئك هم المتقون}؛ وإنما قلنا: إن الصدق بر؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر؛ وإن البر يهدي إلى الجنة"4؛ فجمعوا بين البر والتقوى؛ فهذا ما أمر الله به في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} سورة المائدة2.
فائـدة:
العهود عهدان:
1. عهد مع الله-عز وجل-؛ وعهد مع الخلق. فالعهد الذي مع الله بيّنه في آيات كثيرة، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} سورة الأعراف172، وقوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} سورة المائدة12، وقوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} سورة البقرة40؛ فالعهد الذي عهد الله به إلينا أن نؤمن به رباً، فنرضى بشريعته؛ بل بأحكامه الكونية، والشرعية؛ هذا العهد الذي بيننا، وبين ربنا.
2. العهد الذي بيننا، وبين الناس فأنواعه كثيرة جداً غير محصورة؛ منها العقود، مثل عقد البيع، وعقد الإجارة، وعقد الرهن، وعقد النكاح، وغير ذلك؛ لأنك إذا عقدت مع إنسان التزمت بما يقتضيه ذلك العقد؛ إذاً فكل عقد فهو عهد؛ ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} سورة المائدة 1، وقال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} سورة الإسراء34؛ ومن العهود بين الخلق؛ ما يجري بين المسلمين وبين الكفار؛ وهو ثلاثة أنواع: مؤبد؛ ومقيد؛ ومطلق؛ فأما المؤبد فلا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى إبطال الجهاد؛ وأما المقيد فبحسب الحاجة- وإن طالت المدة على القول الراجح-؛ لأنه عهد دعت إليه الحاجة؛ فيتقيد بقدرها؛ وقيل: لا تجوز الزيادة فيه على عشرة سنوات؛ لأن الأصل وجوب قتال الكفار، وأبيح العهد في عشر سنوات تأسياً برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية؛ والصحيح الأول؛ ويجاب عن عهد الحديبية بأن الحادثة لا تقتضي الزيادة؛ وأما المطلق فهو الذي لم يؤبد، ولم يحدد؛ وهو جائز على القول الراجح عند الحاجة إليه؛ فمتى وجد المسلمون الحاجة إليه عقدوه؛ وإذا زالت الحاجة عاملوا الكفار بما تقتضيه الحال؛ ولا حجة للكفار فيه؛ لأنه مطلق. والمعاهدون من الكفار لهم ثلاث حالات؛ الحال الأولى: أن يستقيموا لنا؛ الحالة الثانية: أن يخونوا؛ الحال الثالثة: أن نخاف منهم الخيانة؛ فإن استقاموا لنا وجب علينا أن نستقيم لهم؛ ولا يمكن أن نخون أبداً؛ لقوله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} سورة التوبة7؛ وإن خانوا انقض عهدهم، ووجب قتالهم؛ لقوله تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} سورة التوبة12؛ وإن خفنا منهم الخيانة وجب أن ننبذ إليهم عهدهم على سواء؛ لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء} سورة الأنفال58، نخبرهم أن لا عهد بيننا ليكونوا على بصيرة.
بعض فوائد الآيات:
1. أن البر حقيقة هو ما أجمل في هذه الآية من الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله،... إلخ.
2. أن هذه الآية قد تضمنت جل قواعد وأصول الدين العامة؛ فتضمنت ذكر جُل أركان الإيمان من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، ويدخل فيه ما يكون بعد الموت؛ كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، وأخذ الكتاب باليمين، أو الشمال، والجنة، وما ذُكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب، والسنة عن هذه الأمور مفصلاً أحياناً، ومجملاً أحياناً.، وتضمنت ذكر بعض أركان الإسلام، من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة للمستحقين لها، وتضمنت الإشارة أعمال الجوارح؛ كالوفاء بالعهود، وتضمنت الإشارة إلى أعمال الجوارح كالصَّبرِ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ.
3. أن الله -سبحانه- دائماً ما يقرن ذكر الإيمان به مع الإيمان باليوم الآخر، وذلك في كثير من الآيات والأحاديث، ففي هذه الآية قدم الإيمان باليوم الآخر على الإيمان الملائكة والكتب والرسل..، وفي الأحاديث مثلاً عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"5. ومثل هذا كثير في السنة.
4. أن إعطاء المال على حبه من البر؛ وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به، وقال: إن الله يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} سورة آل عمران92.
5. أن إعطاء ذوي القربى أولى من إعطاء اليتامى، والمساكين؛ لأن الله بدأ بهم، فقال تعالى: {وآتى المال على حبه ذوي القربى}.
6. أن لليتامى حقاً؛ لأن الله امتدح من آتاهم المال؛ فقال تعالى: {واليتامى} سواء كانوا فقراء، أم أغنياء.
7. أن إعتاق الرقاب من البر؛ لقوله: {وفي الرقاب}؛ والمال المبذول في الرقاب لا يعطى الرقبة؛ وإنما يعطى مالك الرقبة؛ فلهذا أتى بـ {في} الدالة على الظرفية.
8. أن إقامة الصلاة على وجهها المطلوب شرعاً، وإيتاء الزكاة إلى مستحقيها من البر.
9. الثناء على الموفين بالعهد، وأن الوفاء به من أعمال البر؛ والعهد عهدان: عهد مع الله- عز وجل-؛ وعهد مع الخلق، وقد سبق بيان ذلك.
10. أن ما ذُكر هو حقيقة الصدق مع الله، ومع الخلق؛ لقوله: {أولئك الذين صدقوا}؛ فصدقهم مع الله، حيث قاموا بهذه الاعتقادات النافعة: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين؛ وأنهم أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وبذلوا المحبوب في هذه الجهات؛ وأما صدقهم مع الخلق يدخل في قوله تعالى: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا}؛ وهذا من علامات الصدق؛ ولهذا قال تعالى: {أولئك الذين صدقوا}؛ فصدقوا في اعتقاداتهم، وفي معاملاتهم مع الله، ومع الخلق6. والله أعلم.
--------------------------------------------------------------------------------
1- أخرجه مسلم.
2 - أخرجه مسلم.
3 - أخرجه البخاري ومسلم.
4 - أخرجه البخاري ومسلم، واللفظ له.
5 - رواه البخاري ومسلم.
6- انظر : " جامع البيان في تأويل القرآن" لمحمد بن جرير الطبري(2/124- 134). ط: درا الإعلام + دار ابن حزم. الطبعة الأولى(1423هـ - 2002م). و" الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي(2/237- 244). الطبعة الثانية. "تفسير القرآن العظيم " للحافظ ابن كثير(1/193- 195). ط: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1424هـ- 2004م). و" فتح القدير" للشوكاني(1/266- 269). المكتبة التجارية. مصطفى أحمد الباز. مكة المكرمة. الطبعة الثانية. و" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" لابن سعدي(1/136- 139). طبع ونشر وتوزيع دار المدني بجدة. (148هـ). و" أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير" لأبي بكر الجزائري(1/152- 154). الطبعة الأولى الخاصة بالمؤلف(1414هـ). و" تفسير ابن عثيمين" المجلد الثاني.
منقول من موقع امام المسجد
Muslima @muslima
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
جزاك الله خير وبارك الله فيك على هذا الموضوع القيم فعلا وجعله الله في ميزان حسناتك