بواعث ودوافع الغيبة
على الإنسان منَّا أن يبحث عن بواعث ودوافع الغِيبة، ويعمل على قطع أسبابها.
وبواعث ودوافع الغِيبة كثيرة، منها:
1- الحقد وإشفاء الغيظ، وإنفاذ الغضب:
فإذا غضب الإنسان فإنه يتشفَّى بذكر مساوئ الغير إن لم يكن ثَمَّ دين يردعه، وربما لم يقدر على إنفاذ غضبه، فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقدًا، فتقع بسببه الغِيبة، وعلاج ذلك: هو كظم الغيظ عند الغضب، وعليه أن يعفو ويصفح؛ رجاء أن يدخل تحت قوله تعالى: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ ، ويتذكر قوله تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ .
• وليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن كتم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يُخيِّره من الحور العين، يُزوجه منها ما يشاء))؛ (رواه الترمذي وأبو داود عن معاذ بن أنس رضي الله عنهما، وهو في صحيح الجامع: 6518).
2- عدم مجاملة الجلساء فيما يُغضب الرحمن:
فترى البعض ربما يوافق أقرانه، ويجامل رفقاءه، ويشارك جلساءه الغِيبة، ويرى أنه لو أنكر عليهم، أو قطع المجلس، استثقلوه ونفروا عنه، ويحسب أن ذلك من حسن المعاشرة، وهذا خطأ كبير، وذنب عظيم، وعلاج ذلك: أن يسعى دائمًا لرضا الله حتى لو كان بسخط الناس.
فقد أخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومَن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)).
• وفي رواية: ((مَن أرضى الله بسخط الناس، كفاه الله الناس، ومَن أسخط الله برضا الناس، وكَلَه الله إلى الناس))؛ (السلسلة الصحيحة: 2311).
فعلى الإنسان أن يردَّ غيبة أخيه المسلم، فإن لم يستطع فعليه القيام من هذا المجلس؛ امتثالاً لقوله تعالى: ﴿ فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ﴾ .
• ولا أجد مثالاً لمَن يخوض في عِرض إنسان مجاملة لجلسائه إلا ما روي عن عيسى عليه السلام؛ حيث قال لجلسائه: "أرأيتم لو أتيتم على رجل نائم، قد كشفت الريح عن بعض عورته، أكنتم تسترون عليه؟ قالوا: نعم، قال: بل كنتم تكشفون البقية، قالوا: سبحان الله! كيف نكشف البقية؟ قال: أليس يذكر عندكم الرجل بالسوء، فتذكرونه بأسوأِ ما فيه؟ فأنتم تكشفون بقية الثوب عن عورته".
3- الحسد:
فتجده يحسد مَن يُثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلاً لذلك إلا بالقدح فيه، وهذا هو الحسد، وهو بخلاف الغضب؛ لأن الغضب يكون على مَن وقعت منه جناية، لكن الحسد قد تكون مع الصديق والحبيب والرفيق.
وعلاجه: أن يتذَكَّر أن الحسد من أخلاق اللئام، يتنزه عنه الكرام، وقد جاء في "سنن النسائي" بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد))؛ (حسنه الألباني في صحيح النسائي: 2912).
وعليه أن يعلم أن الحسد يجعل صاحبه دائمًا في همٍّ وغمٍّ؛ حيث إنه لا يرضى بما قسمه الله له، ويرى من هو أفضل منه في المال أو الصورة أو الأخلاق، فيركبه الهمُّ والغمُّ، وعليه أن يعلم - أيضًا - أن الحسد سوء أدب مع الله، واعتراض على قضائه، وعلاج هذا: أن يسلِّم ويرضى ويمسك عن الحسد والغِيبة، وليعلم أنه إذا تخلَّص من الحسد، والبغي، والغل، فهو من أفضل الناس.
• فقد أخرج ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أفضل؟ قال: ((كل مَخْموم القلب، صدوق اللسان))، قالوا: (صدوق اللسان) نعرفه، فما (مخموم القلب)؟ قال: ((هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غل، ولا حسد))؛ (الصحيحة: 948).
4- تزكية النفس:
فتراه يمدح نفسه ويزكيها عند الناس، وذلك عن طريق تنقيص غيره، وهذا النوع من أقبح أنواع الغِيبة، كأن يُذْكَر إنسانٌ عنده، فيقول: "نعوذ بالله من قلة الحياء، أو نسأل الله العافية، أو يقول: ساءني ما وقع لصديقنا من كذا وكذا، أو يقول: كان مجتهدًا في العبادة، والعلم، والنزاهة، والأمانة، لكنه فتر وابتُلي، أو فهمه ركيك، أو جاهل، أو يعمل للدنيا..."، فهو بذلك يجمع بين ذم المذكور، ومدح نفسه.
وربما قال بعضهم عند ذكر إنسان: "ذلك المسكين قد بُلِيَ بآفة عظيمة تاب الله علينا وعليه"، فهو يظهر الدعاء ويخفي قصده، وكم ترى من رجل مُتورِّع عن الفواحش والظلم، ولكن لسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي بما يقول، وعلاج ذلك: أن يتذكر قول رب العالمين، حيث قال في كتابه الكريم: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ .
وقوله تعالى: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ .
ويتذكر الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بحسْب امرِئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)).
• ويعلم أن ما دفعه إلى ذلك العُجبُ والغرور، وهما من المهلكات؛ فقد أخرج البزار من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((لو لم تكونوا تذنبون، لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك: العُجْب العُجْب)).
• وعند ابن خزيمة بلفظ: ((لو لم تكونوا تذنبون، خشيت عليكم أكثر من ذلك: العُجْب))؛ (الصحيحة: 658).
5- المزاح:
فيذكر عيوب الناس، أو يحاكي أفعالهم؛ ليُضْحِك جلساءه عليهم، قـال الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله: "وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح؛ لما فيه من ذميم العاقبة، ومن التوصل إلى الأعراض، واستجلاب الضغائن، وإفساد الإخاء"؛ اهـ (بهجة المجالس: 2/ 569).
• وقال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله:
لي صاحبٌ ليس يخلو لسانُه عن جراحِ
يجيد تمزيق عِرضي
على سبيل المزاحِ
وعلاجه: أن يتذكَّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا هل عسى رجل منكم أن يتكلَّم بالكلمة يُضْحِك بها القوم، فيسقط بها أبعد من السماء، ألا عسى رجل يتكلَّم بالكلمة يُضْحِك بها أصحابه، فيسخط الله بها عليه لا يرضى عنه حتى يدخله النار))؛ (رواه أبو الشيخ من حديث أنس رضي الله عنه).
• وفي رواية: ((إن الرجلَ ليتحدث بالحديث ما يريد به سوءًا إلا ليُضحِك به القوم، يهوي به أبعد من السماء)).
6- الفراغ:
وما ينشأ عنه من وحشة وسآمة وملل، فيستهلك وقته بالغِيبة وتتبع عورات الناس، وعلاجه: كما قال الحسن البصري رحمه الله: "نفسك إن لم تشغلها بالحق، شغلتك بالباطل".
7- التنافس على الدنيا:
فيذم زملاءه لدى المسؤولين؛ ليرتفع في نظرهم، أو يترقَّى إلى منصب أعلى، وهذا الرجل متسلِّقٍ يركب على أكتاف الآخرين؛ ليصل إلى مرتبة أعلى، أو زيادة في الدخل، وعلاج هذا: أنه لا بد أن يتعلَّم أن رزقه مقسوم مكتوب في اللوح المحفوظ، لا يزيد فيه ولا ينقص منه.
• وقد أخرج أبو نعيم في "الحلية" من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وإن روح القدس نفث في رُوعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجَلَها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأَجْمِلوا في الطلب، ولا يحملنَّ أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته))؛ (صحيح الجامع: 2085).
وهناك جملة من أسباب وبواعث الغِيبة، ومنها:
أ) أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده ويطول لسانه عليه، أو يقبح حاله عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة، فيبادر هو بالقدح في هذا الإنسان ويطعن فيه؛ ليسقط أثر شهادته.
ب) ومن دواعي وبواعث الغِيبة أن ينسب إليه شيء، فيريد أن يبرِّئ نفسه منه، فيذكر الذي فعله، وكان عليه أن يبرئ نفسه دون أن يذكر الذي فعل هذا الشيء، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركًا له في الفعل؛ ليمهد بذلك عُذر نفسه في فعله.
9- وهناك نوع من أنواع الغِيبة دقيق وغامض، حيث يخوض في إنسان ويظن أنه يُحسن صنعًا، وأن ما يقوله هو من جملة ما يُتقرَّب به إلى الله، ويُزين له الشيطان ذلك، ومثاله:
أ) أنه يقول مُتعجِّبًا من فعل شخص قد أخطأ: ما أعجب ما رأيت من فلان (يذكره باسمه)، وهذا خطأ، فإنه قد يكون صادقًا فيما أنكر به عليه، لكن كان عليه أن يتعجَّب من الفعل ولا يذكر اسمًا؛ لأنه بذكر اسمه صار مغتابًا، وأَثِمَ من حيث لا يدري.
ومن ذلك قول الرجل: تعجَّبت من فلان، كيف يحب فلانة وهي قبيحة؟! وكيف يجلس بين يدي فلان وهو جاهل؟... وهكذا.
ب) وكذلك تراه يغتمُّ بسبب ما يبتلى به إنسان، فيقول: "مسكين فلان، قد غمَّني أمره وما ابتُلي به"، فيكون صادقًا في دعوى الاغتمام، ويلهيه الفهم عن الحذر من ذكر اسمه، فيذكره فيصير به مغتابًا، فالتَّرحُّم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه، لكن استثاره الشيطان على ذكر اسمه؛ ليبطل به ثواب اغتمامه وترحمه.
جـ) أو أنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه، فيظهر غضبه ويذكر اسمه، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستر اسمه فلا يذكره بالسوء.
فليس التعجُّب والرحمة والغضب عذرًا في ذكر الاسم؛ لأن المقصود يتم دون ذكر الاسم.
د) أو تدفعه الحزبية والعصبية الجاهلية إلى أن يقع في بعض الجماعات العاملة في ساحة الدعوة، فتقع منه الغِيبة أو النميمة بقصد مصلحة الدعوة، وتصوير الخوض في أعراض المخالفين على أنه عبادة يتقرَّب بها إلى الله عز وجل.
فهذه الأسباب الباعثة على الغِيبة والداعية إليه لا بد للإنسان أن يقطع دوافعها، ويجتهد في طلب العلم، وفعل الخيرات؛ فهذا سبيل لزيادة الإيمان، وهذا بدوره يؤدِّي إلى فطم اللسان عن الغِيبة وغيرها من آفات اللسان.
شيخهههه @shykhhhhh
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
LLL_GGG
•
الله يحفظ ألسنتنا ويبعد الغيبه عنن
الصفحة الأخيرة