الجزء الأول 1-3
"الأنصارية" أم نضال.. تروي لأول مرة قصة إيواء الشهيد عماد عقل
خنساء فلسطين
تزخر ساحات الجهاد في فلسطين المباركة في كل لحظة بقصص مؤثرة لعشرات من الأمهات اللاتي ربين أولادهن على التضحية بأرواحهم في سبيل نصرة أمتهم، ودفاعاً عن عقيدتهم، في مواجهة اليهود الغزاة المحتلين، وحسب أحدث تقارير المخابرات الصهيونية، فإن أكثر ما يقض مضجع اليهود.. الشعور النفسي العارم لأولئك الأمهات اللائي يدفعن أبناءهن لنيل الشهادة، وهو ما يؤذن بتغيير المعادلة في المواجهة.
وقصة استشهاد البطل عماد عقل أحد قادة كتائب الشهيد عز الدين القسام التي مرت عليها أكثر من ثماني سنوات لن تجد من يرويها أفضل من السيدة: أم نضال فرحات، التي آوته في بيتها ورعته كأعز أولادها.
لقد آثرت ألا تتحدث عن ابنها السجين أو فلذة كبدها المطارد ولكن أخذت تتحدث عن تلك الأيام التي أمضاها الشهيد البطل عماد عقل في بيتها وعن اللحظات الأخيرة من حياته وبداية التفكير بتوفير مكان له بعد أن أقفلت الأبواب في وجهه في الانتفاضة الأولى، وهي المرة الأولى التي تتحدث فيها خنساء فلسطين "أم نضال فرحات".
تقول: "اجتمعت أنا وأولادي ذات مساء نتحدث عن المطاردين ومعاناتهم وكيف ذهب فلان إلى عمته ولم تؤوه وآخر إلى أقارب له لم يحتملوه، الأمر الذي أثار مشاعرنا، خاصة أن هؤلاء المطاردين معدودون على أصابع اليد وتساءلنا: كيف يضحي هؤلاء الناس بأرواحهم ويحملونها على أكتافهم ثم لا يقوم الناس بإيوائهم وحمايتهم"؟
ليلة بعد ليلة أخذنا نتعمق في الحديث أكثر حتى تبلورت فكرة في أذهاننا وقررنا أن نحمي هؤلاء المطاردين ونؤويهم في بيتنا.
تضيف: بعد أن اختمرت الفكرة قررنا أنا والأولاد ووالدهم عمل مأوى لهؤلاء، وكان ذلك في عام 1993م وفي هذه الفترة كان عماد عقل مطارداً قادماً من الخليل بعد أن مكث فيها عاماً وعندما عاد إلى غزة لم يجد مأوى، فذهب هنا وهناك ومن يؤويه يوماً لا يؤويه اليوم الثاني.
حدثني ولدي وسام عن ذلك وطلبت منه إحضار عماد إلى المنزل، وكانت هذه أول مرة أتعرف فيها إلى عماد وعرضنا عليه الفكرة وقلت له: نريد أن نعمل ملجأً وتعيش عندنا، عندها انفرجت سريرته، ورحب بالفكرة، وبالفعل قمنا بحفر الأرض وبناء غرفة تحت الأرض كملجأ، ونصبنا خيمة فوق الحفرة.
بعد أن تم البناء جاء عماد عندنا وبدأ بالاستقرار، وعندها أصبحت الغرفة منطلقاً لعمليات عماد، إذ كان يخرج منها وينفذ عملياته ثم يعود بعد ذلك إليها، وكنا من أجل التمويه قد وضعنا فوقها مزرعة حمام.
لم يكن عماد عقل دائم المكوث في الملجأ ولكن عندما تكون لليهود حركة مكثفة في القطاع كان يلجأ إليه حتى تهدأ الأمور ويعود للانطلاق، كما كان يلجأ إلى المخبأ هو ومجموعة من المطاردين، إذ لم يكن في هذا الوقت إلا عماد ومجموعته التي تعمل معه في القطاع وهي مجموعة لا تتعدى أصابع اليد.. إلى جانب وجود بعض الأفراد ممن كانوا يعملون بشكل فردي.
ألا نضحي بشيء؟!
<= لكن أنت صاحبة أسرة كبيرة.. ألم تكوني تخشين على أولادك من بطش يهود وأنت تؤوين المطلوب رقم واحد لقوات الاحتلال التي أعلنت عن مكافأة مالية كبيرة لمن يدل عليه؟
<< تبتسم أم نضال وتقول: من يريد التضحية يضحي ولا ينتظر ثمناً لها وهؤلاء ناس حملوا أرواحهم على أكفهم من أجل دينهم ووطنهم وشعبهم، ألا نضحي نحن بشيء من أجل ذلك؟
وتضيف: عندما جاء عماد أول مرة كان معه محمد دخان، طلبت من ابني حسام أن أجلس معهم وأتعرف إليهم حتى يشعروا بالأمان والراحة، وعندما شاهدت عماد قلت له: اعتبر هذا البيت بيتك وأنا أمك وأبو نضال والدك وهؤلاء إخوة لك، واستحلفته بالله إذا احتاج شيئاً ألا يتردد. أليس مطلوباً منا نحن الجهاد؟! وهؤلاء المطاردون.. من أجل من يجاهدون؟ فهؤلاء هم خيرة الناس ويجب أن نضحي من أجلهم بكل شيء وبأغلى ما نملك، والتضحية من أجلهم هي تضحية في سبيل الله، ومن يريد التضحية لا يسأل عن حاجة من متاع الدنيا مهما كانت، صحيح أن أولادي أغلى من نفسي ولكن يمكن التضحية بهم. لقد كانوا كلهم فداءً لعماد عقل.
لم يُعطَ حقه
<= ولكن هل لك أن تحدثينا عن عماد كما عرفتيه؟
<< هو أكبر مما سمعتم عنه وكتبت الجرائد عنه، وحتى الآن لم يُعطَ عماد حقه، عماد أول ما جلست معه شعرت أنه قائد وأنه واحد من عصر الصحابة، مؤمن ملتزم يتسم بالرجولة بأسمى معانيها، وحتى الآن وبرغم أنني شاهدت كثيراً من المطاردين في الانتفاضة وأشاهدهم اليوم، لم أر مثل عماد، فهو رجل بمعنى الكلمة.. شجاع مخلص.. ولقد كان عطوفاً لدرجة كبيرة، وكان يقول: "أعدى أعدائي الرياء، وهو عدوي أكثر من اليهود".
وتضيف أم نضال: عندما كان يجلس هو ومن معه من المطاردين بعد أي عملية ويتحدثون عنها كان يقول لهم: "لا داعي للحديث، ربما هذا الحديث يضيع الأجر، ليكن عملنا خالصاً لله سبحانه وتعالى".
وتتابع: مكث عماد عندنا نحو أحد عشر شهراً في هذه الغرفة التي أعتز بها كثيراً.. ووالله لو قالوا لي نملأ لك الغرفة بالأموال ثمناً لها فلن أقبل.. ولا بكل مال الدنيا لأنها عزيزة عندي كثيراً.
عملية المسجد
تتحدث أم نضال عن عماد وعملية مسجد مصعب بن عمير في حي الزيتون التي قتل فيها ثلاثة من الجنود الصهاينة فتقول: خرج عماد من منزلنا لتنفيذ العملية ولم يعد إلى المنزل إلا بعد ثلاثة أيام خشية أن تكون المنطقة لا تزال مراقبة، إذ لا يبعد منزلنا عن مكان العملية إلا بضع عشرات من الأمتار.
وتضيف: عندما عاد كنا فرحين وقلت له: تقبل الله منك هذا العمل وبرغم أنني أعلم أنه هو الذي نفذ العملية إلا أنه كان ينكر ذلك ولا يحب أن ينسب لنفسه العمل وعندما جاء زوجي أبو نضال بادره قائلاً: "أريد أن أسمع منك عن العملية"، فكان يرحمه الله يتهرب من الإجابة ويرجو أبا نضال ألا يلح عليه ولكن أمام إصراره أخذ يتحدث فقال: "الشباب عملوا.. والشباب ذهبوا والشباب أطلقوا النار" يقول ذلك برغم أننا نعلم أنه هو من قام بالعملية بالكامل.
وتسترسل: "كان بعد كل عملية ينفذها ويعود سالماً إلى البيت وأشاهده ترتفع معنوياتي حتى أشعر بأنني فوق السحاب".
يوم الاستشهاد
تقول أم نضال وقد اغرورقت عيناها بالدموع: كان يوم الأربعاء 24-11-1993 والوقت قبل المغرب بساعة. جاء عماد وأدخله ابني نضال من المدخل الثاني. نظرت إليه أنا وزوجة ابني وكان في غاية السعادة وعندها قالت زوجة ابني، ولا أدري كيف قالتها: "عماد مثل العريس".
كان صائماً منذ 14 يوماً وكنت أعتقد أنني سأجده وقد أصفر وجهه ولكني شاهدت في وجهه نوراً لم أشاهده من قبل، وسألته: يا عماد صائم أم مفطر؟!، قال والله صائم خرجت وأخذت أجهز الإفطار قبل أن يدركنا الوقت، وقلت لزوجة ابني والله صحيح لم أر عماد أجمل مما هو عليه اليوم.
وجهزنا الطعام واكتفيت بما هو موجود في البيت وأخذ وسام الطعام ودخل به إلى عماد ومع أذان المغرب أفطر.
تتنهد أم نضال، وتقول: "حسبي الله ونعم الوكيل"، في هذا الوقت كان العميل وليد حمدية ينتظر عماد فوق سطح المنزل.. يومها لم نكن نعرف أنه عميل مع الأسف وكان يبدي إخلاصاً كبيراً لحماس. وكان يريد عماد وقال: "أريده بكلمة سريعة".
بعد أن تناول عماد الطعام أنزلنا العميل في مكان عماد السري وما إن نظرت إلى الشارع وحول المنزل حتى انقلبت الدنيا ولم تقعد وسمعنا صوت حركة كبيرة جداً. عندها خرج ولدي حسام لينظر في الأمر، كانت سيارة فولكس واجن على الباب بها قوات صهيونية خاصة قاموا بتكبيل حسام ووضعه بالسيارة، وما هي إلا لحظات حتى حوصرت المنطقة بأكملها بمئات من الجنود الصهاينة.
لم يكن عماد يحمل معه سوى مسدسه الشخصي، عندما احتضنه ابني نضال قال له عماد: "وصيتي لك أن تدعو الشباب لتكملة المشوار.. أنا ذاهب للشهادة" صلى عماد ركعتين في صالة المنزل وصعد إلى سطحه.. صعدنا جميعاً.. كان سطح المنزل مضاءً كالنهار من كثرة الأضواء الكاشفة التي سلطت عليه وعندما تقدمت نحو السور شاهدت عدداً من العملاء والتفت نحو عماد وإذ به يودع أبنائي ثم تقدم خطوات وأطلق النار على العملاء وقال: "الله أكبر"، ودعا وأفرغ سلاحه باتجاه الجنود وألقى بنفسه عن السور. فتحوا نيران أسلحتهم عليه بكثافة.. كنا نظن أنه استشهد لكن كان لا يزال حياً.. لف حول البيت وتحت الزيتونة سقط بعد أن أطلق الجنود من الجهة المقابلة النار عليه حتى مزقوا جسده، حتى إن رأسه تهشم من كثرة الطلقات ووجدنا مخه قد تساقط من الرأس.
حدث هذا المشهد والعميل بيننا ومع أولادي، كنت عندها أوصي أولادي بأن يكونوا رجالاً وأن يصمدوا في التحقيق.
خرجت من باب المنزل فشاهدني الجنود وصرخوا: "ارجعي" وعندها نزل خلفي نضال وسألهم: ماذا تريدون؟ طالبوه بخلع ملابسه كلها حتى أبقوه بالبنطال وقالوا له: تعال وفعلوا ذلك مع كل الأولاد، أما النساء والأطفال فقد أخذونا إلى منزل الجيران.
..وتحقق حلم نضال
وتكمل أم نضال: طلبوا من نضال أن يحمل جثة عماد ويخرجها من مكانها.. لقد كانوا يخافون من عماد حتى وهو ميت.. قالوا لنضال: أحضر الجثة، وأي حركة تصدر منك لن ترى أنت وأهلك الخير.
لقد كان نضال يقول دائماً لعماد: "متى أحملك وأنت ممزق بالرصاص"، وبالفعل حمله، وهو ممزق بمئات من الطلقات ويقول نضال: "كانت تلك اللحظة أسعد لحظات حياتي وأنا أحمل عماداً وهو شهيد".
وما زال دم عماد على بنطال نضال حتى يومنا هذا.
وتُسأل أم نضال فتقول: والله لو خيروني بين عماد وكل أولادي لاخترت أن أفديه بكل أولادي، من يوم ما جاء ونحن نعد أنفسنا لمثل هذا اليوم، فالتضحية لابد أن تكون غالية في سبيل الله.=>
منقول من مجلة المجتمع العدد 1515
الجزء الأول

لحظةشروق @lhthshrok
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
وكل يوم عن يوم نتعلم من خنساء فلسطين المناضلة والصابرة الأولى ، لله درهن نساء فلسطين