
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأولين والآخرين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد؛
فالمسلم في هذه الحياة الدنيا عُرضة لكثير من الابتلاءات، وإن مما يورثه الصبر أن يعلم أن خيرة الله له خير من خيرة نفسه لنفسه.. وبيان ذلك فيما يلي:
أن من أسماء الله الحكيم
قال تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}
وقال: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
والحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها، ويعلم خواصها ومنافعها، ويرتب أسبابها ونتائجها.
وفي تسعة وعشرين موضعا يقرن الله بين هذين الاسمين في القرآن (العزيز، الحكيم)، فما الحكمة من ذلك؟
العزيز الذي يقهر كل شيء ولا يمتنع على قوته شيء، ولما كانت القوة في المخلوق تدعو إلى الطيش والبطش والتعالي والظلم ناسب أن ينزه الله نفسه عن ذلك بذكر اسمه (الحكيم) بعد (العزيز).
والإيمان بهذا الاسم وبما يقتضيه يحملك على الإيمان بأن خيرة الله لك خير، وهذا مما حمل يعقوب عليه السلام على الصبر؛ فلقد ذكَّر نفسه بأن لله في كل شيء حكمة بالغة بعدما مسه الضر وأصابه البلاء العظيم،{قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
ومن معاني الحكيم: الحاكم الذي يحكم بما يريد.
أنَّ الله لا يخلق شرا محضا
كان من دعاء سيدنا رسول الله:" «والخير كله بيديك، والشر ليس إليك» رواه مسلم، والمعنى: أنك يا رب لا تخلق شراً محضاً، بل كل ما تخلقه فيه حكمة، هو باعتبارها خير ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فهذا الشر جزئي إضافي، فأما شر كلي أو شر مطلق، فالرب سبحانه وتعالى منزه عنه.
علمنا بذلك يجعلنا نوقن أن اختيار الله لنا خير.
{والله يعلم وأنتم لا تعلمون}
تكررت هذه الآية أربع مرات في القرآن الكريم، في البقرة (216)، و(232)، وفي آل عمران (66)، وفي النور (24). ومن علم ذلك أيقن أن خيرة الله له خير، وإن لم يعلم، فإن الله يعلم.
بعض الأشياء نكرهها وهي خير
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
وقال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} .
هذا حال المجاهد قبل أن يخوض غمار الحرب..
فما حاله بعد أن يخوضها ويفوز بالشهادة في سبيل الله؟
يحدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى» متفق عليه.
عجيب! يكره القتال، فلما نظر إلى كرامة الله للشهداء تمنى أن يعود إلى الدنيا ليقتل مرة أخرى!!
{والله يعلم وأنتم لا تعلمون}
في سنن الترمذي قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: «يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا»؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا. قَالَ: «أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ»؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ، فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً. قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي: أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ». قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} .
مما قد نكرهه ويكون خيرا ما ذكره الله تعالى بقوله:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
والمعنى: واذا طلَّقتم نساءكم دون الثلاث وانتهت عدتهن من غير مراجعة لهن، فلا تضيقوا -أيها الأولياء- على المطلقات بمنعهن من العودة إلى أزواجهن بعقد جديد إذا أردن ذلك، وحدث التراضي شرعًا وعرفًا. ذلك يوعظ به من كان منكم صادق الإيمان بالله واليوم الآخر. إن تَرْكَ العضل وتمكين الأزواج من نكاح زوجاتهم أكثر نماء وطهارة لأعراضكم، وأعظم منفعة وثوابًا لكم. والله يعلم ما فيه صلاحكم وأنتم لا تعلمون ذلك.
ومن ذلك ما قال الله فيه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}
أي: ولتكن مصاحبتكم لنسائكم مبنية على التكريم والمحبة، وأداء ما لهن من حقوق. فإن كرهتموهن لسبب من الأسباب الدنيوية فاصبروا؛ فعسى أن تكرهوا أمرًا من الأمور ويكون فيه خير كثير.
وفي الموت قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ». قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ. قَالَ: «لَيْسَ ذَاكِ! وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ،كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ».
ربوبية الله ربوبية رحمة
فإذا استقر هذا المعنى في أنفسنا علمنا أن خيرة الله خير لنا.
في فاتحة الكتاب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
إخبار عن الرحمة، ثم ذكر للربوبية، ثم إخبار عن الرحمة..
ليعلم الناس أن ربوبيته سبحانه ليست ربوبية بطش وانتقام، وإنما ربوبية رحمة وإحسان.
ومن الآيات الدالة على أن ربوبية الله تعالى ربوبية رحمة: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} .
قال السعدي رحمه الله: "{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} أي عبادتهم فيها لله، أولها تسبيح لله وتنزيه له عن النقائض، وآخرها تحميد لله، فالتكاليف سقطت عنهم في دار الجزاء، وإنما بقي لهم أكمل اللذات، الذي هو ألذ عليهم من المآكل اللذيذة، ألا وهو ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، وتفرح به الأرواح، وهو لهم بمنزلة النَّفَس، من دون كلفة ومشقة.
{و} أما {تَحِيَّتُهُمْ} فيما بينهم عند التلاقي والتزاور، فهو السلام، أي: كلام سالم من اللغو والإثم، موصوف بأنه {سَلامٌ} وقد قيل في تفسير قوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ} إلى آخر الآية، أن أهل الجنة -إذا احتاجوا إلى الطعام والشراب ونحوهما- قالوا سبحانك اللهم، فأحضر لهم في الحال. فإذا فرغوا قالوا: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }" .
ومنها قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، وهذه تكررت في الشعراء كثيراً.
صلاة الاستخارة
وهل شرعت هذه الصلاة إلا ليرشدنا الله إلى رشدنا ويدلنا على ما فيه الخير لنا؟
قصة الخضر مع موسى عليه السلام
دليل على أن خيرة الله خير..
ففيها خرق للسفينة، وهو أمر أنكره الكليم عليه السلام، فبان أن خرقها خير، وخيرة الله لنا لا تكون إلا خيرا؛ فأن تبقى معطوبة خير من ألا تبقى.
ولما قتل الخضر عليه السلام الغلام بين أن قتله كان خيرا.
ما حصل لمن تمنى أن يكون حاله كحال قارون
قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . فلما حلَّ به العذاب قالوا: { لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} فكان حرمانهم مما أوتي قارون خيرا لهم؛ لأن الله لا يختار لنا إلا ما يصلحنا.
وحادثة الإفك دليل على ذلك
فلقد كان أمرها مكروهاً إلى الصديقة رضي الله عنها، فلما نزلت آيات براءتها في كتاب ربها كان هذا المكروه إليها خيرا من الدنيا وما فيها.
ويقال مثله في شأن الثلاثة الذين خُلِّفوا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم
فلما كانت توبتهم قرآنا كان البلاء أغلى عندهم من كل شيء، وقد كان مكروها أول مرة.
وتأمل في هذا الحديث لتعلم أن خيرة الله لنا خير من خيرة أنفسنا..
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ» رواه الترمذي.
فإذا آمنا بذلك
هانت المصائب علينا، وصبرنا على مر القضاء، وسعدنا بما اختاره الله لنا، وكانت القناعة شعارنا.
إذا علمنا ذلك ودعونا فلم نر أثرا لدعائنا علمنا أن الخير في خيرة الله لنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدُعَاءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ: فَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا دعا» رواه الترمذي.
فيا أحبابنا
إن خيرة الله لنا خير من خيرة أنفسنا لأنفسنا، فأحسنوا الظن بربكم.
ربِّ صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.
- دكتور مهران ماهر عثمان
- داعية إسلامي وباحث ومحاضر بجامعة الخرطوم
وتسلمين على مرورك الطيب