في ظلال القرآن الكريم ، وفي رحاب النبوّة،
وفي أفياء المدينة المنورة وقربها ،
تحققت الأخوة الإسلامية في أبهى صورها
وبزغ فجر الإسلام ، وقوي عوده ، حتى ساد العالم
وفتح البلاد شرقاً وغرباً ،
ولم يكن ذلك ليكون لولا التفاف المسلمين حول بعضهم ووحدتهم ،
وإلا بالإيثار والسخاء الذي برز في مواقف الأنصار
فعلت كلمة الحق ، وتحقق وعد الله للمسلمين بالنصر ..
وكانت كلمة الباطل هي السفلى .
حين تم للنبي صلى الله عليه وسلم ضمان نشر الدعوة خارج مكة
في بيعتي العقبة : الأولى والثانية .. ...
وذلك بعد أخذ العهد من الأوس والخزرج على التأييد والنصرة ...
فعاهدوا وأعلنوا أنهم يفتحون بلادهم وقلوبهم
مرحبين بالمسلمين المهاجرين اليهم
استبشر النبي صلى الله عليه وسلم خيراً بقرب الإنفراج ..
ولقد كان النبي الكريم يطلب النصرة لأمرين في غاية الأهمية :
الأول : حماية الدعوة والنهوض بها بعيداً عن الاضطهاد والإساءة .
والثاني : إيجاد مكان آمن لإقامة نواة دولة الإسلام.....
التي يتسلم فيها مقاليد الحكم وفق مقتضيات النبوة ، وأصول الدعوة ..
ولما تحقق للنبي الكريم وعد البيعتين مع الأنصار ،
وتسللت الدعوة الإسلامية في صفوف المدينة لتستقر في النفوس
بدأ في وقتها يخطط ويعد بدقة وحرص وبسرية تامة
خطوات الهجرة بكل كبيرها وصغيرها .
إذن لم تكن الهجرة إلى المدينة حادثة عرضية
ولم تكن الهجرة رحلة ترفيه وتغيير ...
ولكنها رحلة شاقة تستدعي ترك الأهل، والمال والوطن ، والرزق ،
والتخلي عن كل شيء من أجل قضية الإسلام ،
وزاد الضغط على المسلمين في مكة ،
ووصل إلى أقصى حد من الإساءات النفسية والجسدية
التي كانت قريش تمارسها للقضاء على الدعوة في مهدها
وإبادة المسلمين ....
إذن ما عاد يؤتمن على الدعوة وسط هذا الركام
من الكفر والضلال والضغط والتعذيب فلا مفر من الهجرة .
ولقد كانت قريش قد تفننت في استخدام شتى
أساليب الترهيب ضد المسلمين ومنها :
تجريد المسلم من ماله وتخييره بين المال اوالهجرة
كما حدث مع ( صهيب الرومي )
وفرض الحبس على بعض المسلمين حتى لايهاجروا مثل
( هشام بن العاص ) وغيره
واللجوء إلى أسلوب التفريق بين أفراد الأسرة الواحدة
كما حدث مع أبو سلمة وأم سلمة وولدهما ..
:
ولذلك حين تهيأت جميع أسباب الهجرة
وأعد النبي لها العدة ،
بقي ينتظر أمر الله تعالى .....
وحين أذن الله تعالى له بذلك
تحمس المسلمون القابعون بين فكي الظلم
رغم حسرتهم على ترك الوطن وكل مايملكون
ولكن صوت الحق أقوى ، ونداء الإسلام أعلى واجدر
فاستقبلوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة
بالترحيب والطاعة
وتنادوا بينهم : هلمّ بنا إلى يثرب !
يثرب التي استنارت بالرسول الكريم وبنور الإسلام فأصبحت :
( المدينة المنورة )..
كانت أعظم مكسب للإسلام في فجره منذ بدء الدعوة
هناك بين أحضانها ترعرع الإسلام ونما ،
هناك تأسس وطن المسلمين ، واشتد ساعدهم
ونما صامداً وسط صحراءالجزيرة التي كانت تموج بالكفر من حولها .
ولم يكن اختيار مدينة يثرب عفوياً بل أمر مقدر من عند الله
و إرادة ربانية بعد أن أخذ النبي عليه الصلاة والسلام
بالأسباب واستطاع أن يدعوَ من أهلها من دعا،
واستجاب من أهلها من استجاب
والخطاب القرآني أشار ومهد للهجرة وحبب فيها ..
قال تعالى :
( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ '
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )29. النحل
بدايات الهجرة :
حين أذن الله تعالى بهجرة المسلمين
كان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أبو سلمة بن عبد الأسد
ثم قدم بعده عامر بن ربيعة ومعه امرأته
ثم تتابع خروج المسلمين جميعا إلى المدينة
فلم يبق بمكة منهم إلا الرسول الكريم ، وأبو بكر ، وعلي ،
وإلا المحبوس أو المريض أو الضعيف عن الخروج.
هكذا كانت بدايات هجرة المسلمين ، واستمرت
النصرة من أعظم دروس الهجرة :
قال الله سبحانه وتعالى في الأنصار :
( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ
وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا
وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
ۚوَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (9) الحشر
عاهد الأنصار الرسول الكريم في البيعتين على التأييد والنصرة
وأوفوا بعهدهم ،
وضربوا أروع الأمثلة في التكافل الاجتماعي
وذلك حين هاجر المسلمون فاحتضنوهم وفتحوا لهم
بيوتهم وقلوبهم في ظاهرة يندر مثلها من العطاء الذي لايعرف الحدود
وتقاسموا معهم المسكن والمال والطعام .....
وإليكن أمثلة للنصرة في هؤلاء الرجال من الأنصار ...
مع العلم أن النصرة لم تكن محصورة بفرد أو اثنان ولكن هب واستعد لها
كل أنصاري حريص على الدعوة :
مبشر بن عبد المنذر
في ( قباء )
نزل بدوره مجموعة من المهاجرين نساءً ورجالاً،
وقد ضمت هذه الدور عمر بن الخطاب،
ومن لحق به من أهله، وقومه وابنته حفصة وزوجها وعياش بن ربيعة.
:
خبيب بن إساف أخي بني الحارث بن الخزرج
في ( السنح ) نزل عنده طلحة بن عبيد الله بن عثمان وأمه وصهيب بن سنان.
:
أسعد بن زرارة من بني النجار،
وقيل نزل عنده حمزة بن عبد المطلب.
:
سعد بن خيثمة أخي بني النجار،
وضم ببيته الأعزاب من المهاجرين ولذا سميت داره ( بيت العزاب )
:
عبد الله بن سلمة
وكان في قباء وفتح داره إلى :
عبيدة بن الحارث وأمه سخيلة،
ومِسْطَح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب،
والطفيل بن الحارث،
وطُليب بن عُمير،
والحصين بن الحارث نزلوا جميعاً على عبد الله بن سلمة بقباء.
:
منذر بن محمد بن عقبة،
نزل عنده الزبير ابن العوام،
وزوجه أسماء بنت أبي بكر،
وأبو سبرة بن أبي وهب وزوجته أم كلثوم بنت سهيل.
:
سعد بن معاذ بن النعمان من بني عبد الأشهل،
وقد احتضن بداره : مصعب بن عمير، وزوجته حَمنة بنت جحش.
وفي دار بني النجار، استقبل أوس بن ثابت بن المنذر،
عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
:
وهكذا فقد كان لتلك الوقفات
التي أظهرت الروح الإيمانية العالية من الأنصار
و التي اتسمت بالإيثار والود والمؤاخاة ،
و نبعت من صدق العقيدة والإيمان العميق ،
أعظم الأثر في تمهيد الطريق لتأسيس مجتمعاً إسلاميا متكافلاً
قأئما على الوفاق بين المهاجرين والأنصار
مجتمعاً لم يتكرر مثله في التاريخ ..
وعسى أن تعود للإمة الإسلامية قوتها ،
حين تدرك موضع ضعفها وتجتمع كلمتها على الحق .
