بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(( دعاء المسلمين.. هدايةٌ أم هلاك؟ ))
"اللهم أهلك اليهود والنصارى، اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا أبدًا، اللهم عليك باليهود والنصارى ومن والاهم، اللهم... اللهم...".
بمثل هذه الأدعية وغيرها يستقبل أئمة ورواد المساجد شهر رمضان في صلواتهم، وتزداد هذه الدعوات سخونةً مع تصاعد الأحداث، وكثرة المصائب التي تحطُّ بالمسلمين، وازدياد الصلف الأمريكي والإسرائيلي هنا وهناك في العالم الإسلامي.
وقد تعوَّدنا -نحن المأمومين- أن نؤمِّن على هذه الأدعية دون أن نمنح أنفسنا فرصة التفكُّر في صدق هذه الدعاوى أم خطئها، في جواز تعميمها أم عدم جوازه.
لقد نظرت في منطق العدل فوجدت أن هذا التعميم خاطئ، فما كان الله تعالى يوماً بظالم، حاشاه جلَّ شأنه، ولم يكن يومًا ليقبل بالظلم، قال الله تعالى في الحديث القدسيّ: "يا عبادي، إنِّي حرَّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّما، فلا تظالموا…" رواه مسلم.
إنَّ ما علَّمنا إيَّاه ديننا، وأمرنا به ربُّنا هو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، وحتى مَنْ آذونا فقد نهانا الله عن التعدِّي عليهم: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ}، وفي القصاص والعقاب أمرنا ربُّنا سبحانه بالعدل: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ}.
يقول الإمام القرطبيُّ في {ولا يجرمنَّكم شنآن قوم..} الآية: "ودلَّت الآية أيضاً على أنَّ كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يقتصر بهم على المستحقِّ من القتال والاسترقاق، وأنَّ المثلة بهم غير جائزةٍ وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمُّونا بذلك؛ فليس لنا أن نقتلهم بمثله قصداً لإيصال الغمِّ والحزن إليهم".
العدل هو منطق ديننا وأساسه، ولا يقوم ديننا بغيره، ولا نكون مسلمين إن لم نعدل. ونظرت في هدي ديننا في الدعاء، فوجدت فيه الهداية قبل الهلاك، وأوَّل ما يطالعنا في شروط الدعاء حديث: "ما من مسلمٍ يدعو الله عزَّ وجلَّ بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إمَّا أن يعجِّل له دعوته، وإمَّا أن يدَّخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرف عنه من السوء مثلها"، قالوا: إذن نكثر؟ قال: "الله أكثر" رواه الإمام أحمد بسندٍ صحيح.
فلا يجوز الدعاء بإثم. ثم كان هدي دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم الهداية: "اللهمَّ اهدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون" فدعا لهم بالهداية ولم يدع عليهم. وروى البخاريُّ ومسلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رفض أن يدعو على المشركين يوم العقبة، بل رفض ما عرضه عليه ملَك الجبال: ذلك فيما شئت، إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين (جبلين)؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا".
وروى البخاريُّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم الطفيل وأصحابه فقالوا: يا رسول الله، إنَّ "دوسا" قد كفرت وأبت، فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس، فقال: "اللهمَّ اهدِ دوساً وائت بهم" فدعا لهم بالهداية ولم يدع عليهم.
وروي عن جابر رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، أحرقَتْنا نبال ثقيفٍ فادع الله عليهم، فقال: "اللهمَّ اهد ثقيفًا" رواه أحمد والترمذيُّ بسندٍ صحيح.
لذلك قال العلماء: لا يجوز الدعاء على شخصٍ بعينه أو لعنه إلا إذا بدر منه الإيذاء الخاصُّ بالمسلمين، والأولى أن يدعو له بالهداية. وقال شيخ الأزهر الأسبق الدكتور عبد الحليم محمود: والدعاء على "الغير" لا يُقبَل إلا إذا كان صادراً عن إحساسٍ بظلمٍ صادرٍ منه، لأنَّ الله تعالى عَدْلٌ لا يَقبل الظلم.
وإذا كان قد ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قد دعا على المشركين كما دعا لهم، كما روى عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال: لمَّا كان يوم الأحزاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس" رواه البخاريُّ ومسلم.
وكما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول: "اللهمَّ أنجِ عيَّاش بن أبي ربيعة، اللهمَّ أنجِ سلمة بن هشام، اللهمَّ أنجِ الوليد بن الوليد، اللهمَّ أنجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهمَّ اشدد وطأتك على مضر (أي قريش)، اللهمَّ اجعلها سنين كسني يوسف" رواه البخاريُّ ومسلم.
فهل في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم وعليهم تعارض؟
قال العلماء: إنَّ الدعاء للمشركين بالهداية هو الأساس، أمَّا الدعاء عليهم فلا يكون دعاءً عامًّا، وإنَّما على من أضرَّ بالمسلمين وحاربهم.
ويتَّضح هذا من خلال دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الأحزاب، فهم قومٌ محارِبون محاصِرون للمسلمين يريدون القضاء عليهم، فغدا الدعاء على المحاربين نوعاً من الحفاظ على المسلمين.
ويؤكد هذا ما رواه البخاريُّ ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: "دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الذين قَتلوا (يعني أصحابه) ببئر معونة ثلاثين صباحًا، حين يدعو على رعل ولحيان، وعصية عصت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم".
فالنصُّ إذن ظاهر وخاصٌّ: "دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا -يعني أصحابه- ببئر معونة"، فهم معتدون. ويؤكِّد ذلك قول الإمام البخاري: "(القنوت في المغرب والفجر) وذلك في أول الأمر، فعله الرسول صلى الله عليه وسلم شهرا، يدعو فيه على رعل وذكوان وعصية الذين قتلوا القرَّاء".
لقد رأيت أنَّ الدعاء العامَّ المجمل على غير المسلمين دون تحديدٍ أو تخصيص، ليس من الإسلام في شيء، بل هو يخالف كلَّ أصول الإسلام وقواعده.
وأتساءل:
كيف يأمن غير مسلمٍ في بلاد المسلمين على نفسه وأولاده وهو يسمع كلَّ جمعةٍ الدعاء عليه وعلى أهله بالهلاك والويل والعذاب؟
بل لماذا نضع لغير المسلمين مبرِّراتٍ لتدميرنا؟ إنَّنا نطلب منهم ألا يظلمونا، فكيف ندعو على عمومهم ثمَّ نطلب منهم العدل؟!! أليس في هذا مبرِّرٌ لهم كي يزيدوا تأييدهم لظلم حكوماتهم لنا خوفاً من ألا نبقي نحن منهم ولا نذر؟؟!!
صحيحٌ أنَّ حكوماتهم قد لا تنتظر إذناً من أحد، لكن لماذا نستعدي الأفراد العاديِّين بدلاً من أن نحاول كسبهم في صفِّنا؟؟!!
وأؤكد:
لست ضدَّ الدعاء على الظلمة والمعتدين، بل ديننا يأمرنا أن نستخدم كلَّ الوسائل ضدَّهم، ولكن ليس كلُّ غير المسلمين قد تعدّوا علينا، وليس معنى تعدِّي حكوماتهم علينا أنَّهم مشاركون في العدوان، لا يجوز لنا بحالٍ أن نأخذهم بجريرة حكوماتهم. فإذا قال قائل: إنَّنا لا نقصد التعميم في دعائنا وإن بدا أنَّه عامّ.
والإجابة على ذلك أنَّ هذا ما في قلوبكم فمن يوصله لغير المسلمين؟ كيف سيفهمه غير المسلمين وهو يسمعون الدعاء عليهم وعلى أهلهم ليل نهار؟ وكيف سيفتح نور الإسلام قلوبهم وهم يرونه ديناً عنيفاً لا يبقي منهم ولا يذر، لا أنفسا ولا أولادا ولا أموالا ولا شيئا؟!!!
ما كان ديننا ليظلم، وما كان المسلمون بظلمة، وأبداً لا تجتمع رسالة الهداية مع منطق العدوان العامِّ الشامل. قواعد ديننا تأمرنا ألا نظلم، والدعاء على غير الظالمين لنا من الظلم.
وهدي دعائنا ألا ندعو بإثم، والدعاء على غير الظالمين لنا من الإثم. وهدي دعائنا كذلك ألا ندعو إلا على من ظلمنا، وهؤلاء ما هم بظالمين.
وأساس ديننا الرحمة وهداية العالَمين، ولن نكون هداةً حين نحمل في قلوبنا غلاًّ وحقداً لقومٍ لم يؤذونا في شيء، وإنَّما لمجرَّد كونهم غير مسلمين.
ويؤيِّد هذا الفهم أنَّ الإسلام هو دينٌ للعالم كلِّه، والرسول صلى الله عليه وسلم أُرسِل للناس كافَّةً رحمةً وبشرا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}، كما أنَّه دين حياة، عبادةٍ ومعاملة، وليس من المعقول أو المقبول أن يكون دين العالم ودين الحياة هذا، لا يقبل غير المسلمين فيه، ولا يحفظ لغير المسلمين حقوقهم وأعراضهم وأموالهم، ويعطيهم الأمان والطمأنينة طالما لم يقوموا هم بأنفسهم بأعمالٍ تستوجب عقابهم، ولم يكن ديننا يوماً سوداويًّا ظالماً مهلِكا، إنَّه دين العدل والرحمة والهداية والنور.
إخواني الدعاة وأئمة المساجد:
قد علَّمنا ديننا، وأمرنا ربُّنا سبحانه ألا نأخذ الأمور على عواهنها، بل علينا أن نعرض كلَّ شيءٍ على قواعد الإسلام وأسسه، وأن نقيِّم كلَّ أمرٍ بناء على هذه الأصول. لذلك كان علينا أن نضع هذا التعميم، وذلك الجمع، تحت المنظور الشرعيِّ لنرى ما فيه.
إنَّ تعميم الدعاء وإطلاقه هو باب خسارةٍ واسعٌ يفتحه الدعاة بأيديهم، بل هو من الصدِّ عن سبيل الله تعالى الذي قد يُحاسَب عليه هؤلاء، إذ يُفسِدون وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعا، ولنتذكَّر إخواننا الذين في الغرب، ولنتساءل: لو كان أحدنا مكان أخينا إمام المسجد في إحدى نواحي نيويورك أو لوس أنجلوس، أو في هايد بارك في بريطانيا، ترى بماذا كان سيدعو، وكيف سيقدر على تعميم وإطلاق الدعاء، ومَن مِن المصلِّين سيؤمِّن على مثل هذا الدعاء، وهم يعيشون وسط من يدعون بهلاكهم؟؟!!.
كثيرًا من الحيطة والحذر أيُّها الدعاة والأئمة، فخسائر التعميم أكبر كثيرًا ممَّا تتخيَّلون.
قليلاً من التفكير والهدوء أيُّها الدعاة، وليكن دعاؤنا على من ظلمنا فقط، مقتدين في ذلك بنبيِّنا صلى الله عليه وسلم.
أمَّا غير الظالمين.. فليكن طريقنا إليهم عبر الدعوة بالتي هي أحسن، وعبر القلوب التي لا تعرف ظلمًا ولا حقدًا ولا سوادًا.
هكذا ديننا لمن أراد أن يقتدي به.. وهكذا هو دعاؤنا؛ دعاء بناءٍ لا دعاء هدم؛ دعاء عدلٍ لا دعاء ظلم؛ دعاء هدايةٍ لا دعاء هلاك.
المصدر : أسلام أون لاين
الكاتب : كمال المصري- 10/11/2002م

الموزون @almozon
عضو
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

شبيه الريح2006
•
سلمت الأيادي اخي الموزون ...جزاك الله الف خير على موضووعك ..:)


الصفحة الأخيرة