دعني أرثيك أيها الشيخ !
لا أدري لمَ تذكرت مرثية - الشاعر - لبيد في - أخيه - أربد , والتي قال في مطلعها : " وما المرء إلا كالشهاب وضوئه .. يحور رمادا بعد إذ هو ساطع " , حين سمعت بخبر وفاة - الشيخ الوقور - غرم بن علي المقر الكلثمي , بعد أن طواه الدهر بذراعيه , وضمه الموت بين جنبيه , وتركه جسدا بلا روح ! . أهو لشيوع مشهد الموت , وعظمة أمانيه ؟ , أم لرهبة الموت الذي لفّ من سبقنا , بعد أن غيبهم ساحبا معهم إنسانيتهم المفرطة , وتواضعهم الجم ؟ .
كان الشيخ الذي بلغ من السن الثمانين عاما بيننا , ملء السمع , والبصر , بل ملء القلب , والمهج , إن في عمق تجربته , أو في أسلوب تربية , أو في ثراء فكره , أو في نمط حياته . فمن كان يعرفه معرفة جيدة , لا يفاجأ بعذب أسلوبه , وحلو بيانه , ونقاء لونه , وتكامل صفاته . فهو إن حدثك لا تمل حديثه , وإن حاورك لا يستأثر بقوله ؛ مما يجعلك تشرب من آرائه , وتجاربه دون أن ترتوي .
ستبقى ذكراك - أيها الشيخ الوقور - عابقة في الأذهان ؛ لأننا سنفقد من كانت إطلالته , كالبلسم الذي يضمد جراح الهموم , حين حملت في وجدانك إحساسا , وفي عقلك فكرا , وفي عطائك جهدا . وستوقد في نفوس محبيك شموع الحسرة , والأسى حزنا عليك , وفقدا لك . ولا أعتقد أننا سننساك , فلك علينا حق التذكر عند سكون الليل , وضوضاء النهار , وكلما التهبت جمرات الأشواق , وتباريح الحنين .
إن أبسط ما تفرضه علينا عرى الأخوة الصادقة , وأنت الذي كنت تخفي إحسانك على الناس , إلا أن نتذكر فيك كريم الخصال , وحسن الخلق , وأعمالك الصالحة , وأخلاقك الدمثة . ويشهد الله , أنني لم أسمعك - يوما - تتحامل على أحد , أو تقع في عرض أحد , بل كثيرا ما كنت تلتمس الأعذار للآخرين . فلرونقك لون نادر من الطيبة , وألفة تحسد عليها , وفم تعجز عن تقويمه الألسن .
منحت أبناءك , وأحفادك , نظارة عمرك , وذوب عطائك , بقدر ما نهش الوعر في جلدك , وتضاريس الزمان على محياك ؛ لتسكر الأرواح هياما في لطفك , وكسب ما ينبض به قلبك , فذاك يا أبا محمد هو العطاء الصادق , الذي لا يمكننا إدراكه .
ولأننا لن نستطيع تحرير مراسيم الموت بلا حدود , فلا نملك إلا أن نتوقف عند حدود الكلمات ؛ لأن أصدق عباراتنا , تلك التي تتحدث عن الألم , والحزن , عندها - فقط - سنشيعك بالدعوات الصالحات , التي تشق أبواب السماء , ضارعين إلى الله - سبحانه وتعالى - , الذي خلق الموت , والحياة ؛ ليبلوا عباده المكلفين أيهم أحسن عملا , أن يرحمك , وأن يسكنك فسيح جناته , وأن يلهم أهلك , وأبناءك , وأحفادك , ومحبيك الصبر , والسلوان , وأن يجزيك خير الجزاء على ما عانيت - خلال فترة مرضك الأخير - , وأن يجعل قبرك عليك روضة من رياض الجنة .
د . سعد بن عبد القادر القويعي

أم رسولي... @am_rsoly
عضوة مميزة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️