

الوساوس من المشكلات العصيبة التي يتعرض لها عدد كبير من الناس، وهي متفاوتة في خطورتها، فقد تبدأ بأمور بسيطة عارضة حتى تصل بصاحبها إلى قضايا خطيرة، كالوساوس القهرية وما تسببه من شكوك قد تتصل بمسلمات دينية وثوابت عقدية، مثل الشك في وجود الله تعالى، وفي عقيدة القضاء والقدر، وفي أداء العبادات كالطهارة والصلاة وغيرها من العبادات.
الشيطان له مداخل عدة، وطرق شتى على بني آدم، تختلف باختلافهم، ومن أخطر هذه المداخل وأعظمها ضررًا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا، هي «الوسوسة»، التي هي طريقه لفريق من المسلمين الذين عجز عن إغوائهم بالطرق الأخرى، ولم تصدهم حبائله المختلفة، فعمد إليهم بهذه الوسيلة، وخدعهم بخدعة ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب.
لهذا أمر الله تعالى أن نستعيذ منه ومن وسوسته على وجه الخصوص، وأنزل سورة خاصة بذلك وهي «سورة الناس».
إلقاء الشبهات على القلب
على الرغم من أن العباد نهوا عن أن يتفكروا في ذات الله، وفي حقيقة صفاته وكيفيتها، وأمروا أن يتفكروا في مخلوقات الله الدالة على قدرته، فإننا نجد الشيطان يوسوس لبعضهم ويورد عليهم أسئلة تضيق منها صدورهم ويتحرجون منها، مصداقًا لما أخبر به رسول الله "صلى الله عليه وسلم" عندما حدث ذلك لبعض أصحابه.
فعن أبي هريرة "رضي الله عنه" قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» (البخاري: 2560).
وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : «إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله، فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسوله، فإن ذلك يذهب عنه» (صحيح الجامع: 1542).
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي "صلى الله عليه وسلم" فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه يُعَرض بالشيء لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال "صلى الله عليه وسلم" : «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» (صحيح أبي داود: 5112).
وعن أبي زُميل قال: سألت ابن عباس، فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به؛ قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله عز وجل: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ} (يونس: 94)، قال لي: إذا وجدتَ في نفسك شيئًا فقل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: 3).
وسوسة الشيطان في العبادات.. كالطهارة والصلاة وغيرهما قال ابن الجوزي: اعلم أن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مسارقة، وقد لبَّس إبليس على كثير من المتعبدين بقلة علمهم، لأن جمهورهم يشتغل بالتعبد ولم يحكم العلم، وقد قال الربيع بن خثيم: تفقه ثم اعتزل.
ثم أخذ- رحمه الله تعالى- يمثل لذلك بقوله: ومن ذلك أنه يأمرهم بطول المكث في الخلاء، ومنهم من يقوم فيمشي ويتنحنح ويرفع قدمًا ويحط أخرى، وعنده أنه يستنقي بهذا من البول، وكلما زاد في هذا نزل البول. ومنهم من يلبس عليه في النية، فتراه يقول: أرفع الحدث؛ ثم يقول: أستبيح الصلاة، ثم يعيد فيقول: أرفع الحدث، وسبب هذا التلبيس الجهل بالشرع؛ لأن النية بالقلب لا باللفظ.
ومنهم من يلبس عليه بالنظر في الماء المتوضأ به، فيقول: من أين لك أنه طاهر؟ ويقدر له فيه كل احتمال بعيد، وفتوى الشرع: يكفيه بأن أصل الماء الطهارة، فلا يترك الأصل بالاحتمال. ومنهم من يلبس عليه بكثرة استعمال الماء.. وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة، أو فات أوله وهو فضيلة، أو فاتته الجماعة (تلبيس إبليس ص: 131-132).
من أسباب العلاج لوساوس الشيطان المتعلقة بالطهارة والصلاة والتشاغل عنها بجانب ما سبق ما يأتي:
● التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف: 200): أي اطلب النجاة من ذلك بالله، فأمر تعالى أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه، والاستعاذة به، ولله المثل الأعلى، فقد حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سوَّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: هذا يطول، أرأيتَ لو مررتَ بغنم فنبحك كلبها ومنع من العبور، ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي، قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك. (تفسير القرطبي ج 3 ص 2863).
ولما أتى عثمان بن أبي العاص النبي "صلى الله عليه وسلم" فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليّ. فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : «ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا». قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني (مسلم 4083).
● استصحاب القاعدة الفقهية العظيمة: «اليقين لا يزال بالشك»، فما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين. ودليل ذلك ما صحَّ عن أبي هريرة "رضي الله عنه" قال: رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : «إذا وجد أحدُكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا.. فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا» (مسلم 362).
وعن النبي "صلى الله عليه وسلم" أنه قال: «إذا شك أحدكم في الصلاة فلم يدر كم صلى ثلاثا أم أربعا، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان» (مسلم: 888).
● عدم البول في المستحم، والمراد به الماء الراكض، فقد حذر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" من ذلك فقال: «لا يبولن أحدُكم في مستحمه ثم يغتسل فيه (قال أحمد: ثم يتوضأ فيه) فإن عامة الوسواس منه» (أبو داود: 25)
● الاقتداء والتأسي بمسلك السلف الصالح في هذا الجانب، حيث كانوا يتشددون ويحذرون مما يدخل في بطونهم، وما كانوا يغالون في مسائل الطهارة، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا:
فروى أبو داود في سننه عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: قلت يا رسول الله، إن لنا طريقًا إلى المسجد منتنة، فكيف نفعل إذا تطهرنا؟ قال: «أوليس بعدها طريق أطيب منها؟ قالت: قلت: بلى؛ قال: فهذه بهذه».
وقال عبد الله بن مسعود "رضي الله عنه" : كنا لا نتوضأ من موطِئ.. أي موطوء، يعني إذا وطئ على المكان القذر الجاف لا يجب عليه غسل القدم.
وسئل ابن عباس- رضي الله عنهما- عن الرجل يطأ العذرة؟ قال: إن كانت يابسة فليس بشيء، وإن كانت رطبة غسل ما أصابه.
وقال حفص: أقبلتُ مع عبدالله بن عمر عامدين إلى المسجد، فلما انتهيتُ عدلتُ إلى المطهرة لأغسل قدمي من شيء أصابهما، فقال عبدالله: لا تفعل، فإنك تطأ الموطئ الرديء، ثم تطأ بعده الموطئ الطيب- أو قال: النظيف- فيكون ذلك طهورًا، فدخلنا المسجد فصلينا جميعًا.
وقال عاصم الأحول: أتينا أبا العالية فدعونا بوضوء، فقال: مالكم، ألستم متوضئين؟ قلنا: بلى، ولكن هذه الأقذار التي مررنا بها، قال: وهل وطئتم على شيء رطب تعلق بأرجلكم؟ قلنا: لا، فقال: فكيف بأشد من هذه الأقذار يجف، فينسفها الريح في رؤوسكم ولحاكم؟ (إغاثة اللهفان لابن القيم: ج1 ص: 152).
اليقين لا يزال بالشك والجهل آمن طريق لإبليس
..
منى السعيد الشريف
خبيرة تربوية