إذعان القلوب لعلام الغيوب جل جلاله معشر الأحبة:
إن الحديث عن الله تبارك وتعالى حديث عن خالق الكون بما فيه وجامع
الناس ليوم لا ريب فيه حديث عما يعلم السر وأخفى حديث عما يكشف
الضر و البلوى حديث عما رد إلى يعقوب بنيه وأرجع موسى إلى أمه و
جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم حديث عمن بلغ محمدا صلى الله
عليه وسلم دعوته وأكمل له دينه ونشر له ملته وأعلن كلمته في الأرض
فما بقيت دار إلا ودخلها دين سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم الحديث عن
الله أيها المؤمنون له تخفق قلوب الموحدين وله ترتجف قلوب المتقين لأنه
حديث عن خالقها ورازقها وبارئها تبارك وتعالى والحديث عنه جل جلاله
ينبغي أن يكون حديثا محببا إلى النفوس لأنه تبارك وتعالى أحب إلينا من
كل شئ -( ياَأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم) أما إذعان القلوب لعلام
الغيوب تبارك وتعالى فإن من دلائل إذعان القلوب لعلام الغيوب تبارك وتعالى أمورا ثلاثة :
أولاها .. الاستسلام لأمره والانقياد له
وثانيها .. التواضع له تبارك وتعالى
وثالثها .. خشيته جل وعلا في الغيب والشهادة
أما الاستسلام لأمر الله والانقياد له فإن الله تبارك وتعالى ضرب لهذا الأمر
مثلا في القرآن في أبي الأنبياء وسيد الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام
فقال تبارك وتعالى عنه -( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ
وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ* إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ
أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
لم يتردد عليه الصلاة والسلام برهة واحده ولم يسأل ربه كيف أسُلم وإلى
من أتوجه وعند من أدون أسمى وما الجزاء وعلام أذهب وإلى من أغدوا
-( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) وهذا الأثر القرآني الذي
حكاه الله عن انقياد إبراهيم واستسلامه أيدته السنة كما روى البخاري في
حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله جل وعلا
أمر إبراهيم أن يختتن فبادر إبراهيم عندما أمره الله أن يختتن بادر عليه
الصلاة والسلام إلى القدوم ثم اختتن به ) فورد في بعض الآثار كما ذكر
ذلك كثير من شراح هذا الحديث ورد في بعض الآثار أن إبراهيم عليه
الصلاة والسلام لما بادر إلى القدوم واختتن به أوجعه أشد الإيجاع فأوحى
الله تعالى إليه " يا إبراهيم لما عجلت حتى يأتيك وحيي " فقال يا ربي
خشيت أن أؤخر أمرك "
فما أن أمره الله جل وعلا بالأمر إلا وأذعن إليه وأستسلم له وأنقاد إليه
دون أن يتردد عليه الصلاة والسلام برهة واحدة في الإذعان لربه علام
الغيوب جل جلاله وهذا من أعظم الدلائل على ما فطر عليه إبراهيم عليه
الصلاة والسلام من الاستسلام لله بعد هذا لا غروا ولا عجب أن نسمع في
القرآن ثناء الله تبارك وتعالى على إبراهيم ونسمع في القرآن أن الله جل
وعلا أخبر أن إبراهيم كان أمة قانت لله حنيفا ولم يكن من المشركين
ونسمع من رسولنا صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم أول من يكسي من
الخلائق يوم القيامة فهذا الثناء العاطر الذي أبقاه الله لإبراهيم في الآخرين
وماله عند الله جل وعلا يوم القيامة من منزلة عظيمة إنما نالها هذا العبد
الصالح وهذا النبي التقي بإذعانه وانقياده واستسلامه لرب العالمين تبارك
وتعالى ومما يؤيد أن القلوب المؤمنة إنما تمتثل لأمر الله دون تردد أنه
ورد في الآثار كما هو معلوم أن الله جل وعلا خلق آدم من تراب قال الله
تبارك وتعالى -( َمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ)
ورد في الآثار مما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة أن الله جل وعلا لما
أراد أن يخلق آدم من قبضة من الأرض بعث ملك من الملائكة ليقبض له
قبضة من الأرض فلما قدم هذا الملك إلى الأرض قالت له الأرض أعوذ
بالله منك فقال لقد عذتي بعظيم وعاد إلى ربه دون أن يقبض من الأرض
شيئا فلما سأله ربه وهو أعلم بما صنع قال يارب لقد استعاذت بك فأعذتها
فبعث الله ملك آخر فلما وصل إلى الأرض وهم أن يقبض منها قبضة كما
أمره الله قالت له الأرض أعوذ بالله منك فرجع إلى ربه فلما سأله ربه وهو
أعلم قال يا ربي استعاذت بك فأعذتها فبعث الله ملك ثالثاً فلما هم أن يقبض
من الأرض قالت : أعوذ بالله منك فقال وأنا أعوذ بالله أن لا أنفذ أمره فأخذ
قبضة من الأرض وعرج بها إلى السماء والمقصود منه هذا الإذعان لأمر
رب العالمين تبارك وتعالى،والذي ينبغي أن تفطر عليه قلوبنا وأفئدتنا
وجوارحنا أن تستسلم لله وأمره وأن تعظم ربها تبارك وتعالى يحكي الله
جل وعلا في القرآن عن تعظيم ملائكته له فيقول تبارك وتعالى عنهم -
( وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا
قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)
قال بعض الأئمة في تفسيرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "
إن الله إذا أراد أن يتكلم في الوحي أخذت السموات منه رشفت شديدة فإذا
سمع بذلك أهل السماوات صُعِقوا فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل عليه
السلام فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بالأمر بما شاء فيمضى جبرائيل في
الأمر على كل سماء كلما مر على سماء سألهم ملائكتها ماذا قال ربنا يا
جبريل فيقول" قال الحق وهو العلى الكبير " والغاية من هذا كله يا أخي أن
تذعن قلوبنا لعلام الغيوب جل جلاله فنسمع النداء حي على الصلاة حي
على الفلاح فنبادر إلى المسجد كما تقول عائشة لما سئلت عن رسولنا
صلى الله عليه وسلم ما كان يصنع في بيته ؟ قالت : " كان في مهنة أهله
فإذا سمع النداء مر كأن لا يعرفنا "
أي أنه يبادر ويسارع إلى الصلاة
نسمع أمر الله جل وعلا بأن نذكره -( فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ
تَكْفُرُونِ) فلا نعرج على ألسنتنا في القيل والقال ولا بالغيبة بالمسلمين ولا
بالنميمة بينهم ولانردد قول فلان وفلان من أهل الفن أو من غيرهم وإنما
نذكر ربنا جل وعلا مبادرة ومسارعة لأنه بذلك أمرنا تبارك وتعالى
يسمع أهل الثراء منا أمر الله جل وعلا بالإنفاق -( ياَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ
مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ
هُمُ الظَّالِمُونَ) فيبادرون إلى الإنفاق طمعا فيما عند الله وإذعان لأمره
تبارك وتعالى في المقام الأول وعلى هذا قس يا أخي بقيت الطاعات
والمسارعة في الخيرات.."
ألا وإن من دلائل إذعان القلوب لعلام الغيوب جل جلاله التواضع لله تبارك وتعالى وأجمل ما يكون التواضع عند حلول
النعمة و حلول الظفر والنصر وحلول المقصود والمراد هنا يظهر الإذعان لرب العالمين تبارك وتعالى
ولن ينبئ الإنسان عن شكره لله واعترافه بأن ما لديه هو من فضل
الله تبارك وتعالى وأن ما أصابه من نعمة إنما هو من ربه جل وعلا حتى
يظهر لله تبارك وتعالى تواضعه فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم طرده
قومه من مكة فدخلها بعد عشر سنوات من الهجرة وبعد عشرين عاما من
بعثته صلى الله عليه وسلم حصير في هذه العشرين في شعب أبي طالب
وأختفي في الغار ومشي طريداً وحيداً ومعه صاحبه ودليله ومكث في
المدينة وقد داهمته لأحزاب وناله ما ناله صلى الله عليه وسلم من البلاء
فصبر وأحتسب عند الله وجاهد في الله حق جهاده فلما أظفره الله ودخل
مكة صلى الله عليه وسلم عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة صلوات
الله وسلامه عليه دخلها صلى الله عليه وسلم متواضعا لربه مستسلما له
حدث أهل السير عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان مطأطئا رأسه حتى أن
لحيته لتصيب مقدم رحله صلوات الله وسلامه عليه رغم أن أصحابه كان
يحفونه وهم تحيطهم الدروع والحديد وجبرائيل عليه السلام يتردد بينه وبين ربه يؤيده بالنصر والآيات والملائكة ومع ذلك
دخلها صلى الله عليه وسلم على هذه الهيئة تواضعا لرب العالمين جل جلاله وإذعان له وإنقيادا لربه وليعلم الثقلين ممن
يرونه وممن لا يرونه ممن سيصلهم خبره أنه ما من نعمة إلا من الله تبارك وتعالى وكم يخطي
أحدنا إذا ظن أنه إذا حصل على المقصود أنه قد حصل عليه بجهده أو بكفاحه أو بسعيه يقول ربنا تبارك وتعالى -( وَمَا بِكُم
مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ) ( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) ومن قبله صلى الله
عليه وسلم هذا نبي الله سليمان يعلمه الله جل وعلا منطق الطير وتحشر له جنوده من الجن والأنس ويأتيه عرش بلقيس قبل
أن يرتد إليه طرفه -(قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن
فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ]
ثالث ما يدلل على إذعان القلوب لربها جل جلاله خشيته تبارك وتعالى
ياأخي إن خشية الله جل وعلا هى العلم الحق فليس العلم محصورا في
حفظ المتون ولا في شرح الكتب ولا في استظهاري ما تقرأه في البيت
والمدرسة وفي حلقات العلم إنما العلم الحق خشية الإله جل جلاله حاور
رجل الحسن البصري رحمة الله تعالى عليه فكان الرجل يكثر على أبي
سعيد وهو الحسن أن يقول: لقد قال الفقهي كذا يا أبا سعيد لم تسمع قول
العلماء إن قولك هذا يعارض قول الفقيه فلان فغضب الحسن وقال يا أخ
العرب وما رأيت الفقهاء إنما العلم الخشية وصدق من قال
لو كان في العلم غير التقي شرفا *** لكن أشرف خلق الله إبليس
فالعلم الحق يا أخي والدليل بين على إذعانك لربك تبارك وتعالى خشيتك
الله في الغيب والشهادة -( إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ
فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)-
فخشية الرحمن تبارك وتعالى أعظم الدلائل على الإذعان له والاستسلام
له وهذا الأمر أين محكه ؟وأين مكمنه ؟ وأين بلاغه واختباره ؟
مكمنه ومحكه واختباره إذا خلوة بمحارم الله تبارك وتعالى إذا حلة عليك
الظلمات إذا ذهب عنك الرقيب إذا غفل عنك المعلم إذا زاغت عنك أعين
الوالدين إذا بقيت وحيدا في غرفتك إذا أصبحت ساهرا لوحدك في ليلة إذا
قربت منك المعصية ولم يبقي بينك وبينها إلا أن تخاف الله جل وعلا فيها
هنا يظهر بجلا ووضوح خشيتنا لربنا تبارك وتعالى
أسأل الله بأسمائه الحسنى أن يرزقنا وإياكم خشيته في الغيب والشهادة
هنا يا بني يظهر حقيقة الإيمان ويظهر حقيقة الخوف والخشية من ربنا
تبارك وتعالى ولذلك كان الشافعي رحمة الله عليه أعز الأشياء ثلاثة وذكر
منها خشية الله تبارك وتعالى في الغيب والإنصاف من قلة وكلمة الحق
عندما يرجى أو يخاف والمقصود من ذلك كله أن خشية الله تبارك وتعالى
هى لب الدين وهى الدلالة البينة الجلية الرابحة على مدى علما بالله تبارك
وتعالى وعلى مدى إعظامنا وإجلالنا لله جل وعلا ولذلك كان صلى الله
عليه وسلم يقرن دائما مابين العلم والخشية فيقول صلى الله عليه وسلم :
( أما وإني أعلمكم بالله وأشدكم لله خشية )...."
***
من محاضرة " خواطر إيمانية " للشيخ صالح بن عواد المغامسي حفظه الله
نصر @nsr_1
محرر في عالم حواء
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️