دموع التائبات ... (1)

ملتقى الإيمان

دموع التائبات

عبدالحميد بن عبدالرحمن السحيباني

المقدمة

الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، والحمد لله الذي جعل للمذنبين والمذنبات في الإيمان والتوبة مخرجاً من هموم المعاصي، وغمومها، وباباً يدخلون منه إلى رحمه الله، ومغفرة الله، وجنة الله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فسلام الله عليكن أيتها المؤمنات ورحمة الله وبركاته وحياكن الرحمن إلى هذا اللقاء الذي نستمتع فيه جميعاَ بعرض أخبار التائبات المنيبات، والمؤمنات الصادقات.

نعم، في هذا الكتاب نبين لأخواتنا المؤمنات آلام أخوات لهن في الإسلام، تبن إلى الله- عز وجل- ورجعن إلى إسلامهن، إلى إيمانهن، وذلك لتأخذ كل واحدة منكن كأساً ممتلئة من دموع هؤلاء التائبات، فتروي بتلك الدموع المجتمعة شجرة الإيمان والإسلام في قلبها، فتزداد المطيعة إيماناً ونوراً، وتحاسب المقصرة المذنبة نفسها، فتتوب إلى الله تعالى وتنيب.

احذري من يتربص بك

أيتها الأخوات المؤمنات: بادئ ذي بدء نقرر ونقول إن أعجب العجب أن نرى في أمة المسلمين في هذا العصر أناساً محسوبين على المسلمين قد اتخذوا المرأة المسلمة غرضاً وهدفاً، يصوبون إليها سهامهم المسمومة، وأفكارهم الموبوءة، تدثروا من اللباس بالمكر والخداع، والنفاق والبهتان، جاؤوا من بلاد الكفر حيث التفسخ والانحلال إلى بلاد الإسلام حيث الطهارة والصفاء، فنفثو ضد المرأة المسلمة كل ما رضعوه هناك من أفكار العهر والرذيلة. نعم يؤلمنا- يا أخوات- أن نرى أناساً من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، ويلبسون لباسنا قد غرتهم الأماني، وأسرهم حب البلاد الكافرة، حيث التفسخ والانحلال، والعري والتهتك والمجون، فدعوا إلى هذه الأمور السافلة الساقطة، وإلى تلك الحماقات المنتنة، فظلموا بنات المسلمين اللاتي خدعن بهم، فوقعن في البلاء العظيم: التهتك والمجون والعربدة- وحسبنا الله ونعم الوكيل-.

يا الله العجب ذهب الواحد منهم بوجه كوجه العذراء ليلة عرسها،، وعاد بوجه كوجه الصخرة الملساء تحت الليلة الماطرة، وذهب بقلب نقي طاهر، يأنس بالعفو ويستريح إلى العذر، وعاد بقلب مظلم مدخول، لا يفارقه السخط على الأرض وساكنها، والنقمة على السماء وخالقها. وذهب بنفس غضة خاشعة، ترى كل نفس مسلمة فوقها، وعاد بنفس ذهابة نزاعة، لا ترى شيئاً فوقها، ولا تلقي نظرة واحدة على من تحتها.

ذهب وما على وجهه الأرض أحب إليه من دينه وأهله، وعاد وما على وجهها أصغر في عينيه منهما .

لقد جاء هؤلاء المستغربون- حسيبهم الله تعالى- بل لقد هرولوا بمقالاتهم القائمة على المطالبة بما يسند السفور أو الفساد، ويهجم على الفضائل والأخلاق فقاموا بنشر صور النساء الفاضحة، والدمج بين المرأة والرجل في الحوار والمناقشة والتركيز على المقولة المحدثة الوافدة: المرأة شريكة الرجل، وتسفيه قيام الرجل على المرأة، وإغراء المرأة بنشر الجديد في الأزياء الخليعة، ومحلات الكوافير، وبرك السباحة النسائية والمختلطة، والأندية الترفيهية، والمقاهي ، ونشر الحوادث المخلة بالعرض، وتمجيد الممثلات والمغنيات، ورائدات الفن والفنون الجميلة.

نعم لقد دعوا إلى إخراج المرأة من البيت لتزاحم الرجل في مجالات حياته.

وحاولوا خلع الحجاب منها وما يتبعه من فضائل العفة والحياء والطهر والنقاء. وحاولوا غمسها بأسفل دركات الخلاعة والمجون لإشباع رغباتهم الجنسية البهيمية.

دعوا إلى رفع يد قيام الرجال عليها لتسويغ التجارة بعرضها دون رقيب عليها.

رفعوا حواجز منع الاختلاط والخلوة لتحطيم فضائلها على صخرة التحرر والحرية والمساواة.

تعمدوا القضاء على رسالتها الحياتية... أما وزوجة ومربية أجيال وسكناً لراحة الأزواج، إلى سلعة رخيصة مهينة مبتذلة في كف كل ساقط من خائن وفاجر.



تأثير هؤلاء على نساء المسلمين

وهكذا بهذا التخطيط الشيطاني من هؤلاء الماجنين سقطت كثيرات من نساء المسلمين في حبائلهم، أصبحن وبالاً على الشرف والمروءة، وعلى الأسرة والمجتمع، وعلى كل شيء لما خرجن من بيوتهن سافرات حاسرات، عاريات من لباس الحشمة، وعاريات من فضائل الأخلاق.

ولكن حياتهن بؤس وشقاء، وقلق وضياع، وكأن قسمات وجه الواحدة منهن تقول للعالم كله: إن الألم رفيقها، والألم سميرها، والهم والغم أنيسها، تتجاذبها الأهواء، شاردة ساهية، تعيش في صراع مع الهوى والشيطان ورفيقات السوء. إنها صديقة الأمواج، حياتها حياة لا طعم فيها، وسعادتها سعادة لا مذاق لها.

لقد ولجت من المعاصي كل باب، وهتكت منها كل حجاب، وحسبت الأمر دون حساب، تظهر السرور والسعادة ولكن في القلب هم وغم، والنفس تحلق بها حسرات،. ويحيطها نكد.

رغم كثرة أسفارها إلا أنه ترى فيها الأثقال والأوزار. إن أكبر همها أن تأكل وتشرب وتنام، لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً. في أموالها يتساوى الحلال والحرام. لا تهمها الوسيلة.. المهم عندها هو النتيجة ولو كان في الفسق والرذيلة

تعيش في سبات عميق، ونوم متصل، ليل لا فجر له،وظلام لا إشراق فيه، الواجبات لا تعني شيئاً، والأوامر والنواهي ليست في حياتها.

الضحكة تسبقها، والأغنية على لسانها.. انطلاق بلا حدود، وحياة بلا قيود. تتوسد الذنب، وتلتحف المعصية. أيام تمضي، وسنوات تنقضي، وهي لا تزال تسير في نفق مظلم. فلا دين ولا أخلاق، ولا التزام بمبادئ أو قيم، تصبح على معصية، وتمسي على أخرى.

أليست هذه حال من نفخ فيها أولئك الماجنون الشيطانيون، فأفسدوها وكان من جراء ذلك المتبرجات السافرات، والراقصات والممثلات، والمطربات.. لا ينفصل في ذلك العهد القديم عن الحديث، ولا ينفك فيه الماضي البعيد عن المعاصر القريب..

ولكن هل يستمر الليل دون أن يأتي بعده نهار مضيء، أو غروب لا يأتي بعده إشراق؟

لا، فلابد بعد النوم الطويل من إفاقة، لابد أن يكون بعد النسيان تذكر، وبعد الغفلة في لجة الباطل من رجوع إلى الحق.

الواقع المشرق

وتلك هي- يا أخوات- قصة هذا الكتاب.

إنه الواقع المشرق، واقع المتحدث عنهن هنا من توبات غافلات عن الله تعالى في القديم وفي الحديث، رأين الباطل بعين المتبصر فتركنه، وأحطن أنفسهن بسياج من الفساد والدمار وإتباع الهوى، فما شفى لهن عليلاً، ولا أروى غليلاً، فهجرنه إلى تلك المساحة الواسعة والظلال الوارفة، حيث تتنزل الرحمات من رب الأرض والسماوات، إلى التوبة والإنابة، تقدمها وقفة تأمل، ويتبعها ندم.

إنها وجوه مدفونة بين أكف مليئة بالدموع..

قلوب ترتجف كأوراق خريفية مآلها السقوط.

دموع تنهمر بغزارة في صمت رهيب تنهار من مآقي أعينهن كالسيول الجارفة مشبعة بمرارة مضنية..

آلام غائرة مستكنة في قرارة أنفسهن. هموم وغموم رابضة على قلوبهن.

الليل يتأوه لحزنهن.. لكربهن

موجات من الندم والحسرة تهدد أعماقهن، بل تمتد، فتقبض أنفاسهن!

كم عصفت بهن أعاصير الهوى فحركت مراكبهن حيث شاءت.. حيث العوج الخلقي.. حيث السطو على العواطف.. حيث تلون القلب بالأقذار.

كم انتابهن ذلك السعار الملهوف، وتلك الشهوات المحرمة، فبصمت على قلوبهن آثارها المدمرة.

كم مرة خلعن فيها خير لباس.. لباس التقوى، وتدثرن بثوب المعصية والجريمة.

كم خطفتهن تلك النشوة المؤقتة إلى منزلق خطير، بل إلى منحدر سحيق حيث التمرغ بأوحال الخطايا والآثام..

هاهي مقابر الأحزان تلتف حول أعناقهن.. هاهن بين الحين والحين يحملن الأكفان المثقلة بأجساد الذكريات المقلقة، والأفكار المحزنة تحت وطأة الفساد والرذيلة.

ثمة أسئلة سورت قلوب تلك النساء، فتحت بوابة إلى مدخل في ذاكرتهن. مدخل موحش تعلقت على جدرانه آثام:

قلن: هل يغفر الله لنا؟!

فإذا الجواب: { إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } .

قلن: لكن ذنوبنا عظيمة، وجرائمنا كثيرة.

فإذا الجواب: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} . قلن سائلات مستفسرات متعجبات: الذكريات رابطة، جاثمة على عقولنا، رائحتها تزكم أنوفنا، ثقلها يقبض أنفاسنا؟

فإذا الجواب: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } ، وكذلك: {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون} .

قلن فرحات مستبشرات: نعم آمنا بالله، ووثقنا برحمة الله، بمغفرة الله، نعم سنلبس لباس التوبة، والأوبة، وسنعمل تقطيعا بتلك الذكريات التي يزينها الشيطان، لأنها تكبلنا، تقنطنا... قلن: هيهات هيهات، قد مضى عهد القنوط وولى، إننا مقبلات خاشعات منيبات.

وهتفت كل واحدة منهن تنادي:

خاطبني الوعظ من جناني وكان وعظي على لساني

قربنـي مـنه بعـد بعُد وخصني الله واصـطفاني

أجبت لما دعيت طـوعاً مـلبياً للـذي دعـاني

وخفت مما جـنيت دوماً فوقع الـحب بالأمـانة

نعم لقد هز الإيمان كل ذرة في أجسادهن، وهتفت كل واحدة تنادي بقلب المطمئن الخاشع:

قـد تصـبرت إلى أن عيل في حـبك صبري

ضاق من غلي وقيدي وامتهاني فيك صـدري

ليس يخفى عنك أمري يا منى قلبـي وذخـري

أنت لي تـعتق رقـي وتـفك الـيوم أسـري

وهؤلاء التائبات رجعن إلى ربهن بصدق، فكانت توبتهن نصوحاً، ليس كمن يدعي التوبة والإنابة وهو ما عرف الرجوع إلى ربه قط، بل هو كاذب مخادع، له في أوبته الفساد وكل يوم راية، وفي دور الدمار كل وقت آية ، كلا ليس هذا حال من يريد التوبة، وإن حال هؤلاء التائبات اللائي نتحدث عنهن- لأهميته- له وقعه ومكانته، لأن كل واحدة منهن تقرر وتؤكد أن التوبة من المعصية ضالتها المنشودة التي كانت تبحث عنها منذ سنوات، ثم وجدتها بعد أن عرفت وعاشت حياة الحيرة والعذاب والعمل الزائف المجرد من الإنسانية والكرامة، بعد أن انتقلت من الأسود إلى الأبيض، من الضباب والرياح العاتية إلى الصفاء والهدوء، من البكاء والحزن والخوف إلى الفرح والطمأنينة والدفء. أخواتي: كان هذا هو الموجز، وإليكن التفصيل.

إليكن حكايات تائبات منيبات في القديم وفي الحديث. إليكن أخبارهن، نشيجهن، بكاءهن على أيام أمضينها في سبيل الشيطان.



امرأة تريد فتنة الربيع بن خثيم

هذه امرأة بارعة الجمال أمرها قوم أن تتعرض للربيع بن خثيم التابعي الكبير، لعلها تفتنه، وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم، فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب، وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه، ثم تعرضت له حيث خرج من مسجده، فنظر إليها، فراعه أمرها، فأقبلت عليه وهي سافرة، فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك، فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك لو سألك منكر ونكير؟ فصرخت صرخة، فسقطت مغشياً عليها، يقول الراوي: فوا الله لقد أفاقت، وبلغت من عبادة ربها ما إنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق، فيالله! ما أصدق نصحه، وما أجمل توبتها!



توبة مغنية

وهذا سري السقطي يحدث كما في كتاب التوابين لابن قدامة، فيقول: ضاقت علي نفسي يوماً، فقلت في نفسي: أخرج إلى المارستان- يعني دار المرضى- وأنظر إلى المجانين فيه، وأعتبر بأحوالهم، فخرجت إلى بعض المارستانات، وإذا بامرأة مغلولة يدها إلى عنقها، وعليها ثياب حسان، وروائح عطرة، كانت جارية في دار أحد الكبراء تطربه وتغني له، فلما هاج هاجس الإيمان فيها وتابت اتهمها صاحبها بالجنون، فجاء بها إلى هذا المارستان.

قال سري: فقلت لصاحب المارستان: ما هذه؟ فقال: مملوكة خبل عقلها، فحبست لتصلح، فلما سمعت الجارية كلامه أنشدت:

معشر الناس ما جننت ولكن أنا سكــرانة وقلبـي صاح

لم غللتم يـدي ولم آت ذنباً غير هتكي في حبه وافـتضاحي

أنـا مفتـونة بـحب حبيب لست أبغي عن بـابه من براح

فصلاحي الذي زعمتم فسادي وفسادي الذي زعمتم صلاحي

ما على من أحب مولى الموالي وارتضاه لنفسه مـن جـناح

قال سري:

فسمعت كلاماً أبكاني، فلما رأت دموعي قالت: يا سري: هذه دموعك على الصفة، فكيف لو عرفته حق المعرفة؟ فقلت: يا جارية، أراك تذكرين المحبة، فلمن تحبين؟ قالت: لمن تعرف إلينا بآلائه، وتحبب إلينا بنعمائه، وجاد علينا بجزيل عطائه، فهو قريب، إلى القلوب مجيب، تسمى بأسمائه الحسنى، وأمرنا أن ندعوه بها، فهو حكيم كريم، قريب مجيب.

وجاء سيدها فقال له سري: ما الذي تنكر منها؟ فقال: كثرة فكرتها، وسرعة عبرتها، وزفرتها وحنينها، فهي باكية راغبة، لا تأكل مع من يأكل، ولا تشرب مع من يشرب، وهي بضاعتي، اشتريتها بكل مالي- بعشرين ألف درهم- وأملت أن أربح فيها مثل ثمنها. فقلت: وما كان صنعتها؟ قال: مطربة. قلت: ومنذ كم كان بها هذا الداء؟ فقال: منذ سنة. قلت: ما كان بدؤه؟ قال: كان العود في حجرها وهي تغني.. فكسرت العود وقامت وبكت. فاتهمتها بمحبة إنسان، فكشفت عن ذلك، فلم أجد له أثراً. قال سري: فقلت لها: هكذا كان. فقالت:

خاطبني الوعظ من جناني وكان وعظي على لساني

قربنـي مـنه بعـد بعُد وخصني الله واصـطفاني

أجبت لما دعيت طـوعاً مـلبياً للـذي دعـاني

وخفت مما جـنيت دوماً فوقع الـحب بالأمـانة

قال سري: فقلت له: علي الثمن وأزيدك. قال: فصاح: وافقراه! من أين لك ثمن هذه؟ فقلت: لا تعجل علي، تكون في المارستان حتى آتي بثمنها، ثم مضيت وعيني تدمع، وقلبي يخشع، وبت ولم أطعم غمضاً، و والله ما عندي درهم من ثمنها. وبقيت طول ليلتي أتضرع إلى الله- تعالى- وأقول: يا رب، إنك تعلم سري وجهري، وقد اتكلت على فضلك، وعولت عليك فلا تفضحني. فبينما أنا عند السحر، إذا بقارع يقرع الباب. فقلت: من بالباب.. فإذا برجل معه خادم وشمعة، فقال: يا أستاذ، أتأذن لي بالدخول؟ فقلت: أدخل. من أنت؟ قال: أنا أحمد بن المثنى، قد أعطاني مالك الدار فأكثر، كنت الليلة نائماً فهتف بي هاتف في المنام: احمل خمس بدرات- جمع بدرة وهي كيس فيه عشرة آلاف درهم كما في مختار الصحاح- يقول: احمل خمس بدرات إلى سري يعطيها لمولى بدعة (وهذه هي الجارية التي تابت من الطرب) يفكها من الأسر، ومن رق العبودية الساعة.. قال سري: فخررت لله ساجداً، وارتقبت الصبح، فلما تعالى ضوء النهار.. أتيت مولاها فإذا هو يبكي ويخشع، فقلت له: قد جئناك بما ورثت وربح خمسة آلاف. فقال: لا والله! فقلت: بربح عشرة آلاف، فقال: لا. فقلت: بربح المثل. فقال: لو أعطيتني الدنيا ما قبلت وهي حرة لوجه الله تعالى- فقلت: ما القصة؟ فقال: يا أستاذ! وبخت البارحة، أشهدك أني خارج من جميع مالي، وهارب إلى الله تعالى اللهم كن لي بالسعة كفيلاً، وبالرزق جميلاً..

ومضت (بدعة) التائبة في توبتها خاشعة باكية، وذات يوم خرجت إلى الحرم تطوف بالكعبة، فإذا بصوت محزون من كبد مقروحة، فإذا هي صاحبة الصوت تناجي ربها تقول:

قد تشهرت بحبك كيف لي منك بـقربك

كيف بي يا نفس إن وأخذك الله بـذنبك

لم يقاسي أحد يا نفـسن كربا مثل كربك

فسلي ربك يأتيك الرضـا من عـند ربـك

وظلت هذه المرأة تناجي ربها خاشعة له، باكية على أيامها الماضية ثم قالت: لا حاجة لي بالبقاء، فخذني إليك، قال الراوي: فحركتها، فإذا هي ميتة- رحمة الله عليها-.

وفي هذه الحادثة- إن صحت- عبر: أولها: فضل هذه التائبة الخاشعة، حيث دب الإيمان في قلبها دفعة واحدة بعد غفلة عريضة، لما علمت أن عليها رقيباً يراها، فلم تأبه بعد ذلك بالتهديد والأغلال، ثم كان لها فضيلة أخرى لما كانت سبباً في توبة سيدها. وثانيها:. فضل سري السقطي الذي علم توبتها، فأراد أن يفكها من قيود الظلم بأغلى الأثمان رغم أنه لا يملك شيئاً، وثالثها: أنه لما كان صادق النية، منور القلب فرج الله تعالى همه، وكشف كربه، فجاءته خمسة آلاف درهم وهو قاعد في بيته، ولا عجب فإن من اتقى الله تعالى جعل له مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب.



توبة بغي

وهذه حادثة أخرى لا تقل في سموها وجمالها عن سابقتها، يرويها لنا الشيخ (علي الطنطاوي) في ذكرياته الجميلة ويحلق بنا في مصر أرض الكنانة، حيث الجامع الأزهر موطن العلماء، فيقول:

كان من علماء الجامع الأزهر شيخ وقور، لا يعرف من الدنيا إلا الجامع الأزهر الذي يدرس فيه، والبيت القريب منه الذي يسكنه، والطريق بينهما.. فلما طالت عليه المدة، وعلت به السن، واعتلت منه الصحة، احتاج إلى الراحة، فألزمه الطبيب بها، وأشار عليه أن يبتعد عن جو العمل وعن مكانه، وأن ينشد الهدوء في البساتين والرياض، وعلى شط النيل. فخرج فاستوقف عربة، ولم تكن يومئذ السيارات، وقال له: خذني يا ولدي إلى مكان جميل أتفرج فيه وأستريح.

وكان صاحب العربة خبيثاً، فأخذه إلى طرف الأزبكية، حيث كانت بيوت المومسات، وقال: هنا. قال: يا ولدي لقد قرب المغرب فأين أصلي؟ خذني أولاً إلى المسجد. قال: هذا هو المسجد!

وكان الباب مفتوحاً، وصاحبة الدار قاعدة على الحال التي يكون عليها مثلها، فلما رآها غض بصره عنها، ورأى كرسياً فقعد عليه ينتظر الأذان، وهي تنظر إليه، لا تدري ما أدخله عليها، وليس من رواد منزلها، ولا تجرؤ أن تسأله، منعها بقية حياء، وهو يستح وينظر في ساعته، حتى سمع أذان المغرب من بعيد فقال لها أين المؤذن؟ لماذا لا يؤذن وقد دخل الوقت؟ هل أنت بنته؟ فسكتت، فانتظر قليلاً، ثم قال: يا بنتي المغرب غريب، لا يجوز تأخيره، وما أرى هنا أحداً، فإن كنت متوضئة فصلي ورائي تكن جماعة.

وأذن، وأراد أن يقيم، وهو لا يلتفت إليها، فلما لم يحس منها حركة، قال: مالك؟ ألست على وضوء؟ وهنا وقع الأمر العظيم: لقد استيقظ إيمانها دفعة واحدة، ونسيت ما هي فيه، وعادت إلى أيامها الخوالي، أيام كانت فتاة عفيفة طاهرة، بعيدة عن الإثم، وراحت تبكي وتنشج، ثم ألقت بنفسها على قدميه..-

فدهش، ولم يدر كيف يواسيها وهو لا يريد أن ينظر إليها، أو أن يمسها.. وقصت عليه قصتها، ورأى من ندمها وصحة توبتها ما أيقن معه صدقها فيها، فقال: اسمعي يا بنتي ما يقوله رب العالمين: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} .

جميعا يا ابنتي جميعاً، إن باب التوبة مفتوح لكل عاص، وهو واسع يدخلون منه، فيتسع لهم، مهما ثقل حملهم من الآثام حتى الكفر، فمن كفر بعد إيمانه ثم تاب قبل أن يأتيه ساعة الاحتضار، وكان صادقاً في توبته، وجدد إسلامه فإن الله يقبله. الله يا بنتي أكرم الأكرمين، فهل سمعت بكريم يغلق بابه في وجه من يقصده ويلجأ إليه، معتمداً عليه؟

قومي اغتسلي، والبسي الثوب الساتر، اغسلي جلدك بالماء، وقلبك بالتوبة والندم، أقبلي على الله، وأنا منتظرك هنا، لا تبطئي لئلا تفوتنا صلاة المغرب.

ففعلت ما قال، وخرجت إليه بثوب جديد، وقلب جديد، ووقفت خلفه وصلت صلاة ذاقت حلاوتها، ونقت الصلاة قلبها.

فلما انقضت الصلاة قال لها: هلمي اذهبي معي، وحاولي أن تقطعي كل رابطة تربطك بهذا المكان ومن فيه، وأن تمحي من ذاكرتك كل أثر لهذه المدة التي قضيتها فيه، وداومي على استغفار الله، والإكثار من الصالحات، فليس الزنا بأكبر من الكفر ،و(هند) التي كانت كافرة، وكانت عدواً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحاولت أن تأكل كبد عمه حمزة لما صدقت التوبة صارت من صالحات المؤمنات، وصرنا نقول رضي الله عنها.

وأخذها الشيخ الجليل إلى دار فيها نسوة دينات، ثم زوجها ببعض ممن رضي بها من صالحي المسلمين، وأوصاه بها خيراً.

حقاً إنها حادثة تثير العجب تلو العجب ، إنا لنعجب من هذه الروح الإيمانية العالية التي كان عليها هذا الشيخ الجليل ،الذي سما بنفسه، فترقت عالياً في سلم الفضائل، فلم تعرف للرذيلة سبيلاً، ولا للخنا معبراً وطريقا، فلما خانه صاحب العربة – وما أكثر الخونة- فأدخله دار البغاء، وكان قد حفظ الله حفظه الله ونجاه ، بل كتب توبة هذه البغي علي يديه!

والعجب الآخر – يا أخوات- ذلك الإيمان الذي تحرك دفعة واحدة في قلب تلك المرأة بدون مقدمات، بدون تمهيدات ولا تهديدات ولا إنذارات !ألا إنه الحق الأبلج حيث وجد قلباً فارغاً فتمكن، وأبصر ضلالة عمياء تهيم في لجج الباطل المتلاطمة فأمسكها، فلم يفلت منها زمام! لقد تذكرت واعتبرت، وأيقنت أن لا نجاة ولا سعادة إلا باللجوء إلى الله تعالى بالإنابة والتوبة، ولكأنما لسان حالها يقول:

قريح القلب من وجع الذنوب نحيل الجسم يشهـق بالنحيب

أضـر بجسـمه سهر الليالي فصار الجسم منـه كالقضيب

وغير لـونه خـوف شديد لما يلقاه من طـول الكروب

ينـادي بالتضـرع يا إلهي أقلني عثرتي واسـتر عـيوبي

فزعت إلى الخلائق مستغيثاً فلـم أر في الخلائق من مجيب

وأنت تجيب من يدعوك ربي وتكشف ضر عبدك يا حبيبي

ودائي باطـن ولديك طب وهـل لي مثل طبك يا طبيبي



استمرار قافلة التائبات

يا أخواتي في الله: هل وقف سير التائبات عند هذه التائبة؟

والجواب: لا، فلا زالت القافلة مستمرة في المسير إلى الله تعالى، ولا زال السيل متدفقاً، والنهر جارياً لا يقف في وجهه أحد. ولئن كان المطاف هنا قد قارب الانتهاء، إلا أن النفس تأبى حتى تروي غليلها بتعطير جونا هنا بذكريات نوع من التائبات لعل في القارئات معتبرات .. متذكرات.

هؤلاء التائبات يا أخوات هن من أهل الفن الذي يمجده من لا خلاق له من أدعياء التحرر والنضال، وليس ثمة تحرر ولا نضال، بل هلاك – تالله – وبوار، والشاهد على ذلك من عشيرته وأهله، فهل من متذكر ومعتبر؟!



(فلانة الراقصة ماتت ودفن معها ماضيها)

حدثت راقصة عن الألم الذي حدث لها من جراء عملها المشين هذا فقالت: إنها رقصت ذات مرة كانت هي آخر مرة حيث أحست أنها دمية، جثة تتحرك بلا معنى، فأسرعت خارجة من هذا المكان العفن وهي تذرف دموع الندم والتوبة على هذه الأيام التي قضت فيها جل وقتها سافرة حاسرة، فتوضأت وصلت تقول هذه التائبة:" وساعتها شعرت بالسعادة والأمان، وارتديت الحجاب .. ثم تقول في نهاية حديثها: فلانة الراقصة( تعني نفسها) ماتت ودفن معها ماضيها، أما أنا فاسمي سهير عابدين،أم كريم، ربة بيت أعيش مع ابني وزوجي، ترفقني دموع الندم على أيام قضيتها من عمري بعيداً عن خالقي الذي أعطاني كل شيء ولم أعطه أي شيء ،إنني الآن مولودة جديدة، أشعر بالراحة والأمان بعد أن كان القلق والحزن صديقي رغم الثراء والسهر واللهو"

وتقول: قضيت كل السنين الماضية صديقة للشيطان، لا أعرف سوى اللهو والرقص، كنت أعيش حياة كريهة حقيرة، كنت دائماً عصبية، والآن أشعر أنني مولودة جديدة!!



الرقص عذاب وحيرة

وتائبة أخرى كانت تمارس المهنة السابقة نفسها مهنة الرقص، تصرح وتقول:" لقد جاء قرار الاعتزال من أعماقي، وسبقه وقت أمضيته في التفكير والبكاء ومراجعة النفس حتى رسوت على شاطئ اليقين بعد حيرة وعذاب وشهرة زائفة وعمل مرهق مجرد من الإنسانية والكرامة، كله ابتذال ومهانة وعري، وعيون شيطانية زائغة، تلتهم جسدي كل ليلة، ولا أقدر على ردها.! أ.هـ



التمثيل هلاك ودمار

وأما الممثلات فخذوا اعترافاتهن حول التمثيل الذي يحكمن عليه ودموع الندم والتوبة لا تكاد تفارقهن بأنه الهلاك والدمار، والقضاء على الحشمة والحياء، تقول إحداهن: أثناء عملي بالتمثيل كنت أشعر بشيء في داخلي يرفض العمل حتى إنني كنت أظل عامين أو ثلاثة دون عمل حتى يقول البعض: إنني اعتزلت.

-كان عملي بالتمثيل أشبه بالغيبوبة، كنت أشعر أن هناك انفصاماً بين شخصيتي الحقيقية والوضع الذي أنا فيه، وكنت أجلس أفكر في أعمالي السينمائية التي يراها الجمهور، ولم أكن أشعر أنها تعبر عني، وكنت أحس أنني أخرج من جلدي.

وتحكي هذه الممثلة التائبة تمثيلها مع زوجها ثم تقول:" وأنا أحكي هذا الآن ليس باعتباره شيئاً جميلاً في نفسي، ولكن أتحدث عن فترة زمنية عندما أتذكرها أتمنى أن تمحي من حياتي، ولو عدت إلى الوراء لما تمنيت أبداً أن أكون من الوسط الفني . كنت أتمنى أن أكون مسلمة ملتزمة، لأن ذلك هو الحق، والله تعالى يقول: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ."

* وتائبة من فن التمثيل تقول: "انفجرت مدامعي تأثراً وانفعالاً.. أناملي الراعشة تضغط بالمنديل الورقي على الكرات الدمعية المتهطلة كي لا تفسد صفحات اعتدت تدوين خواطري وذكرياتي في ثناياها، وصوت ابنتي لا يزال يردد بيت شوقي:

خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء

نعم لقد مورست ضدي عمليات خداع نصبتها أكثر من جهة. وتقول: كنت قطعة من الشقاء والألم، فقد عرفت وعشت كل ما يحمله قاموس البؤس والمعاناة من معان وأحداث!



يتبع في دموع التائبات (2)

المصدر: saaid.net

حسناء الوجود :38:
0
454

هذا الموضوع مغلق.

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️