ذكريات على الطنطاوي
عن تاريخ
< مراحل الاختلاط في مدارس الشام >
"....أما الحرب التي تواجه الإسلام الآن فهي أشدّ وأنكى من كل ما كان؛ إنها عقول كبيرة جدًا, شريرة جدًا, تمدّها قُوى قوية جدًا وأمور كثيرة جدًا, كلّ ذلك مسخَّر لحرب الإسلام على خُطَط مُحكَمة, والمسلمون أكثرهم غافلون.
يجدّ أعداؤهم ويهزلون, ويسهر خصومهم وينامون. أولائك يحاربونهم صفًا واحدًا, والمسلمون قد فرّقت بينهم خلافات في الرأي ومطامع في الدنيا.
يدخلون علينا من بابَين كبيرَين حولهما أبواب صغار لا يُحصى عددها, أمّا البابان الكبيران فهما باب الشبهات وباب الشهوات.
أمّا الشبهات فهي كالمرض الذي يقتل مَن يصيبه, ولكنّ سريانه بطيء وعدواه ضعيفة.
فما كلّ شابّ ولا شابّة إذا أُلقيَت عليه الشُّبَه في عقيدته يقبلها رأسًا ويقتنع بها.
أمّا الشهوات فهي داء يُمرِض وقد لا يقتل, ولكنه أسرع سرَيانًا وأقوى عدوى؛ إذ يصادف من نفس الشابّ والشابّة غريزة غرزها الله وغرسها
لتُنتج طاقة تُستعمل في الخير, فتنشئ أسرة وتُنتج نسلاً وتقوّي الأمة وتزيد عدد أبناءها, فيأتي هؤلاء فيوجّهونها في الشرّ, للّذّة العاجلة التي لا تُثمِر.
طاقة نعطلها ونهملها ودافع أُوجد لوجَّه إلى عدوّنا لندافع بها عن بلدنا, فنحن نطلقها في الهواء فنضيعها هباء, أو يوجّهها بعضنا إلى بعض.
هذا هو باب الشهوات, وهو أخطر الأبواب. عرف ذلك خصوم الإسلام فاستغلّوه, وأول هذا الطريق هو الاختلاط.
بدأ الاختلاط من رياض الأطفال, ولمّا جاءات الإذاعة انتقل منها إلى برامج الأطفال فصاروا يجمعون الصغار من الصبيان والصغيرات من البنات.
ونحن لا نقول إن لبنت خمس سنين عورة يحرم النظر إليها كعورة الكبيرة البالغة, ولكن نقول إن من يرى هذه تذكّره بتلك فتدفعه إلى محاولة
رؤيتها. ثم إنه قد فسد الزمان حتى صار التعدّي على عفاف الأطفال مُنكَرًا فاشيًا ومرضًا ساريًا, لا عندنا, بل في البلاد التي نَعُد أهلها هم أهل المدنية والحضارة في أوربّا وأميركا.
كان أعداء الحجاب يقولون إن اللواط والسحاق وتلك الانحرافات الجنسية سببها حَجب النساء, ولو مزّقتم هذا الحجاب وألقيتموه لخلصتم منها ورجعتم إلى الطريق القويم.
وكنّا -من غفلتنا وصفاء نفوسنا- نصدّقهم, ثم لمّا عرفناهم وخبرنا خبرهم ظهر لنا أن أن القائلين بهذا أكذب من مسيلمة.
إنْ كان الحجاب مصدر هذا الشذوذ فخبروني:
هل نساء ألمانيا وبريطانيا محجّبات الحجاب الشرعي؟
فكيف إذن نرى هذا الشذوذ منتشرًا فيهم حتى سنّو له قانونًا يجعله من المباحات؟
ثم إن الوصول إلى العقائد وبذور العادات ومبادئ الخير والشر إنما تُغرَس في العقل الباطن للإنسان, من حيث لا يشعر في السنوات الخمس أو الستّ الأولى من عمره.
فإذا عوّدنا الصبي والبنت الاختلاط فيها, ألا تستمر هذه العادة إلى السبع والثمان, ثم تصير أمرًا عاديًا ينشأ عليه الفتى وتشبّ عليه الفتاة, فيكبران وهما عليه؟
وهل تنتقل البنت في يوم معيّن من شهر معيّن, من الطفولة إلى الصِّبا في ساعات معدودة, حتى إذا جاء ذلك اليوم حجبناها عن الشباب؟
أم هي تكبر شعرة شعرة, كعقرب الساعة تراه ثابتًا فإذا عدت إليه بعد ساعتين وجدته قد انتقل من مكانه؟
فهو إذن يمشي وإن لم ترَ مشيه.
فإذا عوّدنا الأطفال على هذا الاختلاط فمتى نفصل بينهم؟
ثم سلَّموا التعليم في المدارس الأوّلية لمعلّمات بدلاً من المعلمين.
ونحن لا نقول إن تعليم المرأة أولادًا صغارًا أعمارهم دون العاشرة محرّم في ذاته.
لأ, ليس محرّما في ذاته, ولكنه ذريعة إلى الحرام وطريق إلى الوقوع فيه في مقبل الأيام, وسدّ الذرائع من قواعد الإسلام.
والصغير لا يدرك جمال المرأة كما يدركه الكبير ولا يحسّ إن نظر إليها بمثل ما يحسّ به الكبير, ولكنه يختزن هذه الصورة في ذاكرته فيُخرجها من مخزنها لو بعد عشرين سنة.
أنا أذكر نساء عرفتهنّ وأنا ابن ستّ سنين قبل أكثر من سبعين سنة, وأستطيع أن أتصوّر الآن ملامح وجوههن وتكوين أجسادهن!
ثم إن من تُشرِف على تربية الأطفال يلازمه أثر هذه التربية حياتّه كلها, يظهر في عاطفته وفي سلوكه وفي أدبه إن كان أديبًا.
ولا تبعد في ضرب الأمثال, فهاكم ابن حزم يحدّثكم في كتابه العظيم الذي ألّفه في الحب (طوق الحمامة) حديثًا مستفيضًا في الموضوع.
خلق الله الرجال والنساء بعضهم من بعض, ولكن ضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبَله العذاب.
فَمَن طلب الرحمة والمودّة واللذّة والسكون والاطمئنان دخل من الباب, والباب هو الزواج.
ومن تسوّر الجدار أو نقب السقف أو أراد سرقة متعة ليست له بحقّ, ركبه في الدنيا القلق والمرض وازدراء الناس وتأنيب الضمير, وكان له في الآخرة عذاب السعير.
فما الذي صنعناه؟
إن للأعراض لصوصًا, ولصوص المال أخفّ شرًا وأقلّ ضررًا من لصوص الأعراض.
وهم يحومون دائمًا حول بناتنا, ولكنهم لا يستطيعون أن يقتحموا علينا بيوتنا إلاّ إذا صار الأمر فوضى, وصار (حاميها حراميها) وعاد الناس كوحش الغاب.
ففكَّروا وقدَّروا واستوحوا شياطينهم, فوصلوا إلى الرأي:
وهو أن يدخلوا علينا من طريق المدارس. فكيف دخلوا من طريق المدارس؟
إن لذلك قصة طويلة الذيول عريضة الحواشي, أعرفها كلها ولكن لا أستطيع الآن أن أرويها كلها, لذلك سأسرد اليوم العناوين وأعود يومًا إلى المضامين.
بدؤوا بإدخال المدرسين من الرجال على البنات بحُجّة فقد المدرّسات القادرات.
وكان المدرّسون أولاً من أمثال الشيخ محيي الدين الخاني والأستاذ أديب التقي البغدادي والأستاذ محمد علي السراج, وممّن درّس فيها حينًا شيخنا بهجة الطيار وأنا.
ثم فُتح الباب للشباب, ومن الشباب قِلّة هم أصلح وأتقى لله من الشيوخ الكبار, وأكثر الشباب من المَستورين الذي لا يُعرف عنهم إقبال على المعصية ولا تمسّك قوي في الدين.
ومنهم من هو فاسق يُخفي فسوقه, ومنهم من يجاهر به ويُعلِنه ويجد من الناس من يعجب بهذه المجاهرة ويصفّق لهذا الإعلان.
ثم احتجّوا بالرياضة, فكشفوا من أجلها العورات واستباحوا المحرّمات.
ثم اتخذوا الحفلات السنوية طريقًا إلى ما يريدون, يصنعون فيها ما لا يجرؤون عليها في غيرها.
ولمّا كنت أُدرّس في ثانوية البنات سنة 1949 دُعيت إلى هذه الحفلة السنوية فلم أذهب.
وكانت الطالبات (وكلهن بالغات كبيرات) يأتين المدرسة بالثوب الرسمي الساتر, وكُن يحتجبن في درسي ودرس الشيخ بهجة.
فلما كان يوم الحفلة -وقد جئت المدرسة لبعض المعاملات- رأيت الطالبات في الثياب العادية, أي التي يُذهَب بها إلى الأعراس؛ أي أنني رأيتهن متكشّفات بأبهى زينة!
فنصحت من سلّمَت عليّ وانصرفت عائدًا.
فلما انقضت الحفلة ومرّت عليها أيام أهدت إليّ إحدى الطالبات ظرفًا كبيرًا فيه أكثر من ثمانين صورة ملوّنة للبنات أُخذت في الحفلة.
والذي صوّرها رجل أجنبي عنهن, ليس أباهن ولا أخاهن. ثم رأيت هذه الصورة في محلّ هذا المصوّر (ومحلّة على طريقي الذي أجتازه كل
يوم) معروضة في واجهة المحل!
ثم اخترعوا نظام المرشدات (وهو مثل نظام الكشفية للأولاد) وصرن يذهبن في رحلات قصيرة في قُرى دمشق.
ثم جاءت المصيبة التي أنست ما قبلها من المصائب, وهي نظام (الفُتُوّة) أي إلباس الطالبات لباس الجند وتدريبهن على حمل السلاح.
لماذا؟
وهل انقرض الرجال حتى نقاتل بربّات الحِجال؟
ولمَن تُترك إدارة البيوت وتربية الأطفال؟
لماذا والشباب يتسكّعون في الطرقات ويزدحمون في أبواب السينمات, فندع الشباب لهذا ونقاتل أعداءنا بالبنات؟
قالوا:
أنتم رجعيون متأخّرون جامدون. ألا ترون اليهود كذلك يصنعون؟
أتكون الفتاة اليهودية أشجع من العربية؟
ولو أنهم قرؤوا ما نقله الدكتور محمد علي البار (جزاه الله خيرًا) في كتابه عن النساء المجنّدات في الجيش والشرطة في أميركا وأوربّا لعضّوا الأنامل ندمًا.
وبكوا بدل الدموع دماء على أنهم جعلوا أئمّتهم اليهود.
تقول العوامّ (وفي بعض ما يقولون حكمة بالغة وحق بيّن), يقولون:
((المال الداشر يعلّم الناس السرقة)). ذلك لأن كلّ نفس تميل إلى المال, وأكثر وأقوى من الميل إلى المال الميل إلى الجمال.
وهؤلاء الذي سلّمناهم بناتنا (ومنهم من لا تعصمه زوجة ولا يردعه دين ولا يمسكه خوف من الله والدار الآخرة), هؤلاء تدفعهم غرائزهم إلى هذا الذي فعلوا, ولا يزالون دائبين ليصلوا لأكثر ممّا نالوا.
فأين حُرّاس هذا الجمال المعروض؟
أين الآباء والأولياء لهؤلاء البنات؟
لو جاؤوا يسرقون منهم أموالهم لغضبوا لأموالهم وهبّوا يدافعون عنها يستميتون في سبيلها, فما لهم لا يغضبون لأعراضهم ولا يعملون على حمايتها؟
لم يبقَ في الميدان إلا المشايخ. والمشايخ لم يكونوا صفًا واحدًا إلا أيامًا قليلة, ولا يزالون مختلفين.
وهذه حقيقة يقطع ذكرُها القلبَ أسفًا وحزنًا.
ليس المشايخ علي قلب رجل واحد, منهم الصوفي والسلفي وأتباع المذاهب والآخذون رأسًا من الكتاب والسنة والإخوان المسلمون وخصوم
الإخوان المسلمين, وأتباع كل شيخ يتنكّرون للشيخ الآخر.
هؤلاء هم الإسلاميون العاملون, هذه حالهم, أمّا المشايخ الذي يَنظرون: كلّ حاكم ما يريد, فيفتّشون له في الكتب عمّا يؤيّد ما أراده ويجعلون ذلك
دينًا, وأما المشايخ الموظفون الذي أهمّتهم وظائفهم (أي رواتبهم) فلا يحرصون إلاّ عليها ولا يبالون إلاّ بها, هؤلاء وأمثالهم لا أتكلّم عنهم ولا أمل لي فيهم.
كان المشايخ الباقون في الميدان يجتمعون فيتشاكّون ويتباكون ثم لا يجدون (وأنا واحد منهم, يُقال عني كل ما أقوله عنهم) لا يجدون إلاّ أن يجمعوا صفوفهم فيراجعوا الرئيس أو الوزير, فلا تنفعهم المراجعة شيئًا, ويعلنون النصح للناس, ويجهرون بكلمة الحق من فوقِ المنابر,
فيخرج الناس من صلاة الجمعة فيتحدّثون بما سمعوه ويثنون على الخطيب ويدعون له, ثم ينغمسون في حمأة الحياة فينسون ما قاله وما
سمعوا."
المصدر:
ذكريات الطنطاوي ((الجزء الخامس)).
مع خالص شكري :26:
روزAZ @rozaz
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
الله يبارك لنا في شامنا