حلوه بعيون زوجي
- 8 –


وصلت المستشفى وصعدت السلالم سريعا ، وعندما كنت في الجزء الأخير منه ، إذ سمعت صوت صراخ كبير لمجموعة من الأطفال ، كانوا يصرخون في وقت واحد وكأنهم قد اتفقوا على ذلك .
زاد استغرابي .. توجهت إلى الغرفة ، وجدت الأم ممسكة بغادة وهي تستفرغ ، ثم أتت ممرضة لتحقنها بحقنة ، سألت : ما الأمر ، أخبروني أن أطفال هذا الجناح أصيبوا ببكتيرياء معدية ، فأصيبوا باستفراغ واسهال شديدين .
أصبحت تعتمد على المغذيات في طعامها وشرابها ، وكانت تأخذ علاجها عن طريقها أيضا ، زاد هذا المرض من معاناة غادة ، وبعد يوم من الاستفراغ والاسهال أصبحت عظما بلا لحم ، وتحول اهتمامنا إلى القضاء على هذه البكتيرياء .
اعتبر الأطباء ما حدث لأطفال ذلك الجناح أمرا عاديا فهو يحدث في جميع المستشفيات ، قال ذلك طبيبها بعد أن عاتبته على ما يحصل للأطفال من مأساة حقيقية ، صراخ وبكاء لا ينقطع ، واستنفار من جميع الأمهات .
بعد هذه الجرثومة تحول أنظار الأطباء إلى علاج الأطفال منها ، ونسوا أمر أمراضهم التي دخلوا المستشفى من أجلها ، فتوقفت التحاليل والفحوصات ، وكذلك تحولت اهتمامنا إلى هذه البكترياء التي أخذت تفتك بالأطفال .
جاءني إحساس قوي بأن غادة ستموت ، وأن نهايتها قريبة ، زادت حالتي النفسيةسوءا ، كنت جسدا بلا روح ، لا أعرف ماذا أفعل و ولا أين أذهب .. أهيم في كل مكان ، وضاع تفكيري وتشتت تركيزي .
أمسكت بأمها وهي تبكي بكاء مرا ، قلت لها : إن الله أعطانا غادة وإذا كان الله قد قدر أن يأخذها فلا راد لقضائه ، وسيرزفنا الله بإذنه تعالى بغادة أخرى ،
أيعقل أن يمر أسبوع والبنت في هذا المستشفى ولا يعرفون ما بها ؟ أيعقل هذا ؟ أعراض واضحة كوضوح الشمس ، بنت لا تمشي ، يداها ترتعشان ، عيناه تتقلبان ، ثم أصبحت لا تجلس ثم قالت أمها أنها لا تستطيع أن تثبت رقبتها ، وفوق هذا أصبحت تتكلم بلا صوت ..
قررت الخروج بها من هذا المستشفى ، وعلاجها في مستشفى آخر ، تذكرت مستشفى الملك فيصل التخصصي ، طلبت من الطبيب تقريرا عن حالتها ، تغير وجه وفسر هذا الأمر بتفسير آخر ، أخبرته أني أريد علاجها في مستشفى آخر .. سكت قليلا ثم قال : أمهلني قليلا وسأعطيك طلبك صباح الغد ..
وبالفعل ففي صباح يوم الأحد أعطاني الطبيب التقرير وكان من صفحة واحدة مكتوبا باللغة الانجليزية ، أتذكر أنه كان يقول فيه :
طفلة في شهرها الثامن عشر جاء بها والده قائلا أنها لا تمشي بمرور الأيام حدثت تطورات في حالتها حيث أصبحت لا تجلس ثم لا تتحكم في رقبتها ...
تقرير مؤلم بالفعل ، انطلقت به كمن أعطي حريته من سجنه العتيد الذي قضى فيه سنين طويلة ، ذهبت إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي ، سألت عن مكان استقبال المرضى ، وصلت إليه كان على الشباك موظف سعودي ، أعطيته التقرير وسألته عن النتيجة ، فقال : ستجتمع لجنة لتدرس التقرير ثم ستقرر قبول علاجها من عدمه .
كان قليل من الأمل تكون لدي ، جلست أتخيل ابنتي وهي في هذا المكان الجميل ، تنام على أحد أسرته ، وتتلقى عناية ممرضاته ، ويكفي أن تشم رائحة هذا المكان فتشفى بإذن الله ..
زادت مساحة الأمل لدي بعد أن عدت لمستشفى الأطفال فوجدت أن غادة بدأت تتعافى قليلا من البكترياء فتوقف الاستفراغ والاسهال .
لا يمكنني أن أنسى تلك الليلة ليلة الاثنين ، كنت قبل نومي قد اعتدت في كل ليلة أن أدعو الله أن يحفظ لي ابنتي وأن يشفيها من مرضها ، لكن في هذه الليلة وبعد إلحاح في الدعاء أحسست براحة نفسية هدأت أعصابي بعدها كثيرا ، وأصبحت اتنفس بطريقة هادئة ، وأحسست بانزياح ثقل كبير كنت أشعر به جاثما على صدري .
نمت تلك الليلة وأنا متفائل برد مستشفى التخصصي وأنه سيقبل بعلاج ابنتي ..
حلوه بعيون زوجي
- 9 –


في صباح الاثنين ، ذهبت إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي مباشرة ، وتوجهت لذلك الموظف ، أعطيته اسم المريضة ، غاب قليلا ليعود لي بذلك التقرير وقد كتب عليه رد اللجنة .
قال لي للأسف يا أخ عبدالله رد اللجنة يقول : أنه بإمكان علاج الطفلة في أي مكان .
صرخت فيه دون وعي : في أي مكان ؟ أعطني مكانا واحدا لو سمحت .
رد علي : هذا ليس عملي ..
عدت أصرخ فيه : يا أخي لو سمحت ضع نفسك مكاني .. أبٌ وجد طفلته الثانية الصغيرة لا تمشي ويداها ترتعشان وعيناها تتقلبان ترى ماذا سيفعل ؟ هل ستظل تنظر إليها وهي تموت ؟
سكت الرجل ولم يقل شيئا .. وبعد أن هدأت ، قال لي : ما أنا إلا موظف هنا ..
خرجت من المستشفى مكتئبا مهموما ، وكأن حلما جميلا طار بين يدي ، وكأن غادة قد صدر حكم الموت بحقها ، وحتى وإن صدر الحكم فلن تموت في هذا المكان الجميل ، بل في ذلك المكان البائس .
دخلت مستشفى الأطفال ، وبدأت أشم رائحة الموت تنبعث من جنباته ، كانت رائحة ينقبض لها الصدر ، وتنخنق لها الأنفاس ، وتصيب المرء بالدوار .. قابلني الطبيب بلباسه الأبيض ، بدا لي وكأنه حانوتيا ينتظر موت غادة كي يواريها الثرى ،سألني ماذا فعلت بشأن التقرير أخبرته برد المستشفى ، ابتسم لي وكأنه يؤكد فكرة الحانوتي في ذهني .
كانت ابتسامته تقول لي : أتريد الهروب منا ؟ .. هيهات .. فلن تفلت منا .. ستظل ابنتك في هذا السجن الكبير .. أبوابه الحديدة مغلقة بإحكام .. لن تستطيع الخروج .. ثم تتعالى ضحكاته ..
أفقت من هواجيسي وجدته يبتسم ، خيل لي أنه يبتسم لهزيمتي ، قررت الرد عليه ، قلت لو وجدتم لها علة أو دواء ما فكرت في علاجها بعيدا عن هنا .. هلا تكرمت بإعطائي سببا واحدا لما يحدث لها ؟
أخذ يدور في مكانه ثم قال : هناك تفسير قد يكون هو المبرر لما يحدث لها ، قلت له وفي داخلي سخريةكبيرة وكأني أشك في شهادة الطب التي حصل عليها وخولته أن يتولى أمر هؤلاء الأطفال الصغار .
قال لي : هناك يا سيد عبدالله مرض يصيب المخ ، قاطعته في نفسي : عاد للمخ مرة أخرى !
قال : هذا المرض يسمى ضمور المخ ، يصيب الأطفال خاصة ، حيث ينمو الطفل عاديا ثم ما يلبث أن يتوقف المخ عن النمو ثم يبدأ في الضمور حيث يفقد الطفل بعض خصائصه كالمشي والنطق والحركة حتى الموت .
تحولت سخريتي منه إلى رعب كبير في داخلي ، فقد وجد تشخيصه صدى قويا في داخلي ، حيث كان التفسير الأقرب لما يحدث ، فالبنت بدأت في الانحدار التدريجي .
رغم أنه قد طرأت في ذهني مسبقا فكرة الموت ، وأصبح سماعها أمرا عاديا بالنسبة لي ، إلا إني شعرت بقشعريرة هزت جسمي ، وبدأت أفقد توازني ، وأحسست بالفعل بقرب نهاية ابنتي .
ذهبت إلى أمها كانت صامتة وبجانبها غادة نائمة وقد غدت هيكلا بسبب ما أصابها من المايكروب ، جلست فترة أتأمل ذلك الوجه وكأني أودعه وأرمقه بالنظرات الأخيرة ، يا إلهي ما أقسى هذه الدنيا ، قبل أيام كانت تلعب وتلهو والآن طريحة الفراش ، بين الحياة والموت .
حاولت ببعض الكلمات أواسي زوجتي ، قلت لها : كل ما يحصل هو في علم الله وتقديره ، لو كتب الله لها الحياة لعاشت حتى لو كانت قاب قوسين أو أدنى من الموت ،ولو كتب الله لها الموت لماتت وهي بكامل عافيتها .
أخذت تتنهد لم تتكلم ، عيونها قد أغرورقت بالدموع ، كنت قريبا من الانهيار ، تماسكت وحبست عبراتي ، كان منظرها هي الأخرى يدعو للأسى ، رفعت رأسها ثم قالت : ما أخبار ندى ؟ اشتقت إليها .. أحضرها عصر اليوم أريد أن أراها .. ثم انفجرت في البكاء .
كانت أختي تأتي بندى لأمها بين حين وآخر لكن لما انتشر المايكروب بين الأطفال توقفت عن ذلك خوفا عليها ، في هذه الأثناء دخلت ممرضة وقالت : الطبيب في اجتماع مع عدد من الأطباء ويريدونك على وجه السرعة .
حلوه بعيون زوجي
- 10 -


ذهبت إلى غرفة الأطباء ، كان ثلاثة من الأطباء جالسين حول طاولة ، وقطعوا حديثا كان يدور بينهم باللغة الانجليزية ، رحبوا بي وحركوا كرسيا وطلبوا مني الجلوس .
احسست بأن في الأمر شيئا ، هل يا ترى عرفوا المرض ، ولصعوبته لم يستطع أحد منهم أن يخبرني به منفردا ، وفضلوا أن يخبروني به مجتمعين ؟! أم تراهم اتفقوا على تشخيص مرضها بأنه ضمور في المخ ؟ أم أنهم سيطلبون مني أن أحمل ابنتي وأرحل من هنا ، فقد فضح مرضها مستواهم المهني .؟!
كنت في حالة تسمح لي أن اسمع منهم أسوأ خبر ، فمن يرى البنت سيكون مهيأ لذلك ، جلست على المقعد ، نظرت إليهم ، كانت أمامهم ورقة عليها رسومات ، هيكل عظمي ، وعمود فقري وصور أخرى لم أتبينها ..
تحدث الطبيب إياه فقال : أستاذ عبدالله .. إن ابنتك تشكو مرضا غامضا ، كل تخميناتنا ذهبت سدى ، كل ما توقعنا شيئا ظهر لنا عكسه ..
قلت : وماذا عن ضمور المخ الذي قلت لي قبل قليل ؟
قال آخر : لم يتأكد لنا ذلك علاوة على أن الأشعات أظهرت سلامة المخ .. لكنه مازال احتمالا قائما ..
عاد طبيبها يقول : يبدو أن ابنتك تحمل مرضا جديدا ، لذا بقي احتمال أخير ..
قلت : وما هو ؟
قال : يجب أن نأخذ عينة من النخاع الشوكي ؟
قلت : ولماذا ؟
قال الثاني : نشك في مرض لم نتأكد منه بعد ، حتى نقوم بتحليل عينة من النخاع الشوكي .
مد الطبيب إياه ورقة وقال : من فضلك وقع هنا ..
قلت : وما هذه الورقة ؟
قال : موافقتك على سحب العينة .
أدركت أنهم يقصدون مرض السرطان ، حتى وإن لم يسموه لي ، فلدي معلومات كافية عنه .
نهضت من مقعدي ، وقلت بحزم : لا .. لن أوافق ..
نهض أحدهم وقال : ولماذا ؟
قلت : لن أوافق على أن تأخذوا منها عينة ، فأنا أعرف يقينا حساسية عملية أخذ عينة من النخاع الشوكي ، فخطأ صغير قد تصيب الابرة العصب فيحدث الشلل ..
رد الثالث الذي كان صامتا لفترة طويلة : لا تخف ، فلدينا خبرة طويلة في مثل هذه النوعية من الأمور .
قلت : مع تقديري لخبرتكم .. إلا إني لن أوافق أبدا على أمر كهذا .. فإن كتب الله لابنتي الحياة فستحيأ بدون سحب هذه العينة ، وإن كتب الله لها الموت فستموت لا محالة ..
خرجت من عندهم ، وأنا مصمم على رأيي الذي اتخذته ، كان لدي قصص عن أناس أصيبوا بالشلل نتيجة لهذه العينة .
ظلوا طوال ذلك اليوم يحاولون معي ، بل تعدوا ذلك فكلما جاء أحد يزورنا طلبوا منه أن يقنعني بالقبول ، لكني كنت أشرح لهم رأيي ووجهة نظري .
خرجت من عندهم والهموم تعتصرني ، سرت في الشوارع بسيارتي أهيم بها لا أدري أين أذهب ، أصبحت الرياض على كبر مساحتها سجن صغير ، أصبحت كئيبةفي نظري ، أصبحت أشم رائحة الموت في كل ركن من أركانها وفي كل جزء من أجزائها .
كنت قد تناولت غداء بسيطا لكني لم أحس بالجوع ، عند إحدى الإشارات وقفت بسيارتي ، التفت يسار شاهدت طفلة في عمر غادة ، كانت تلعب في الخلف ، تضحك وتبتسم وتتكلم بلكنة جميلة ، تذكرت غادة كانت تلعب مثلها ، وكانت تتكلم وكانت ..
تحركت السيارات واختفت تلك البنت في الزحام ...
تذكرت ندى ابنتي الوحيدة ، خفق قلبي ، تحركت نحوها ، دخلت بيت أختي ، أسرعت ندى عندما شاهدتني وارتمت في حضني ، حضنتها وقبلتها ، أحسست بأنها ستكون ابنتي الوحيدة ، وستفقد أختها ، سألتني عن أمها وعن غادة .. ومتى سنعود إلى بيتنا ؟
تماسكت حتى انتهى سيل أسئلتها ، قلت لها ألا تريدين أن تذهبي إلى أمك ، هزت رأسها موافقة ، قلت لها غدا سآتي لآخذك إليها .
أردت الذهاب إلى الشقة لكني وجدت صعوبة في اقناعها أن تتركني أخرج من بيت أختي ، كانت ممسكة بي وبقوة وهي تبكي .
حلوه بعيون زوجي
- 11 -

لم أجد بدا من الخروج بها بسيارتي ، ذهبت بها إلى بقالة قريبة ، اشتريت لها بعض الحلوى ، لم يكن لديها رغبة ، تذكرت أنها تحب وجبة أطفال في مطعم وجبات سريعة ، وكان يوجد فيه بعض الألعاب الكهربائية ، دخلنا المطعم ، طلبت لها وجبة أطفال ، ثم أخذت تلعب بتلك الألعاب ولكن لم تكن مسرورة ، فقد تعودت أن تلعب أختها معها .
خرجنا من المطعم ، تجولت بها بالسيارة ، وهي لم تفتأ تسألني عن أمها وأختها ، ولم تنس أنها كانت لا تمشي ، فأخذت تسأل سؤالها المعتاد ليه غادة ما تمشي ؟!
طالت جولتنا بالسيارة حتى نامت أخيرا ، ثم عدت بها إلى بيت أختى ، وذهبت إلى الشقة ، مجهدا متعبا ، ورأسي مثقل بالتفكير والهموم .
ظهر الأربعاء اصطحبت ندى معي إلى المستشفى ، كانت أمها في شوقٍ إليها فقد مضى أربعة أيام ولم ترها ، حيث كانت ملتهية مع غادة في اشتداد أزمتها أثناء إصابتها بالمايكروب .
اتصلت على أمها من هاتف بالأسفل ، فنزلت وأسرعت تقبلها وتحتضنها وتبكي ، وندى لا تفتر تسأل أمها : ليه أنت جالسة هنا يا ماما ؟ أين غادة يا ماما ؟ والأم تزيد بكاء كلما سمعتها ..
في تلك الأثناء صعدت إلى غادة ، كانت نائمة ، أخذت أنظر إليها بأسى ، وضمور المخ يدق على رأسي بشدة ، يذكرني به في كل وقت ، خيل إلي أني ألقي نظراتي الأخيرة عليها ، اغرورقت عيني بالدموع ، رن جرس الهاتف ، كانت أمها تقول تطلب أن أنزل عند ندى حتى تصعد هي عند غادة ..
عدت بندى مرة أخرى إلى بيت أختي ، هدأت قليلا بعد أن شاهدت أمها ، ودعتها وعدت إلى الشقة ، و ورميت جسمي المتعب على ذلك السرير .
كان صوت غادة وهي تلعب يرن في أذني ، صراخها وهي تركض مع أختها يملأ البيت ، ضحكاتها وأنا ألاعبها يجلجل في كل مكان .
صداع قوي يضغط على مقدمة رأسي ، وألم شديد في عيني يعتصرهما ، وبالرغم من ذلك ذهبت في نوم مضطرب .
عصر اليوم ذهبت إلى المستشفى ، جلست بجانب أمها كل منا كان يسلي الآخر ، كان قليلا من النشاط قد دب في غادة ، لكن لم تكن تعرفني أو تفرح بي إذا حضرت ، كانت كل ما تفعله عندما تستيقظ أن تبكي أو تدور بعينيها ، أو تظل صامتة .
جاء بعض الزوار ، أشفقوا علينا ، بدأوا يحكون لنا قصص لمرضى مرضا شديدا شفوا بعد ذلك ، ذكروا أننا مأجورون على صبرنا ، شكرناهم داعين الله أن لا يريهم مكروها ..
ذهب الجميع ، كانت أمها شبه منهارة ، تنظر إلى ابنتها وتبكي ، وكأنها تودعها ، بنظرات كلها أسى ، تركتها تخرج ما في صدرها من ألم ، هدأت قليلا ، جاءتني فكرة السفر بها إلى الخارج ، لكنها اصطدمت بطول الاجراءات وضيق الوقت ، ثم طرأت البحث عن مستشفى آخر غير التخصصي ، وقررت المضي في ذلك من الغد .
بعد نصف ساعة من نهاية موعد الزيارة ، خرجت أجرجر قدمي ، ركت سيارتي ، كم هو مر طعم الموت ، تذكرت أن أمي تذوقته مع أطفالها سبع مرات ، كانت في لحظات حزنها تحكي لي قصة فقدها لواحد من أطفالها السبعة ، كلهم ماتوا وهم صغار ، في المهد أويمشون ، كانت تذرف الدموع وهي تتحدث عن بنت لها جميلة ، كان عمرها سنتين ونصف ، كانت جميلة هادئة ، تمشي وتلعب عندها ، ارتفعت حرارتها ذات يوم ، ثم ماتت بعد يومين ، كانت امي تحكي لي ذلك وهي تبكي ، رغم مرور عقود من الزمن على موتهم ، لكنه قلب الأم .. تنهدت وتمتمت لها بالدعاء وبعظيم الأجر .
وصلت إلى الشقة ، رميت بنفسي على السرير ، لا أريد أن أفكر فقد تعبت من التفكير ، كل جزء من جسمي يئن من التعب والإجهاد ، حتى غلبني النوم .
في صباح الخميس استيقظت على رنين الهاتف ، كانت الساعة تشير إلى العاشرة وتزيد ، رفعت السماعة ، جاءني صوت أم ندى وهي تنشج وتبكي .
حلوه بعيون زوجي
- 12 -


كانت تحاول أن تخبرني شيئا ، قلت لها : هدئي من روعك وقولي ما بك ؟
- إني خائفة عليك .. هناك خبر سيْ ..
- وما هو ؟
- لقد عرفوا مرض غادة ..
- غير معقول ! وما هو ؟ وكيف ؟
- لقد حضر طبيب مصري وكشف عليها وقال .. ثم أجهشت في بكاء حاد ..
- تعوذي بالله من الشيطان الرجيم .. وقولي ما الأمر ؟
- يقول إن لديها فايروس في المخيخ ..
- أخيرا عرفوا ما بها ..
- غريبة ! كنت أتوقع أنك ستنهار !
- اسمعي سآتي الآن ..
أغلقت السماعة ، وأسرعت متوجها نحو المستشفى ، ذهبت إلى الغرفة 7 أ ، لم أجدهما ، تسارعت أنفاسي ودقات قلبي ، قالت لي ممرضة : إنهما بالدور العلوي غرفة 9 .
صعدت إلى الدور العلوي ، كان المكان نظيفا شرحا يدخله الهواء ، ذهبت إلى الغرفة التي ذكرتها لي الممرضة ، كانت الأم تجفف دموعها ، ثم حكت لي تفاصيل ما حدث .
قالت : جاء طبيب مصري كان في إجازة لمدة أسبوعين ، وعاد إلى المستشفى ليأخذ بعض حاجياته ، حيث كان بصددالسفر في إجازة أخرى طويلة إلى بلاده ، فقالوا له : لدينا حالة حيرتنا ، لم نعرف لها تشخيصا ، فجاء وفحص غادة وسألني بعض الأسئلة بعد أن عرفني بأنه طبيب أعصاب ، ثم قال لي : هل البنت كانت تشكو من زكام أو كحة قبل إصابتها بهذا المرض ؟ فقلت : نعم ، كان زكاما ، فقال : إن فايروس الزكام وبعد أن أنهى دورته في جسم غادة لم يخرج كالعادة مع مخارج الجسم ، بل صعد واستقر في المخيخ ، وهناك بدأ يعطل بعض خصائص الإنسان من الحركة والتركيز حيث كنتم تشاهدون رعشة يدها ، وكذلك بعض الحواس الأخرى كالنطق ونحو ذلك .
فأجهشتُ في بكاء حاد بعدما سمعت كلمة فايروس في المخيخ ، فأخذ يطمئنني قائلا : إن هذا الفايروس يأخذ دورته في جسم الإنسان ثم سيذهب وسيعود المريض إلى كامل عافيته في مدة أربعة إلى ستة أسابيع .
كتنت فرحتي لا توصف وزوجتي تقول ستعود إلى سابق عهدها بعد أربعة أسابيع ، إذن عادت الحياة لك يا غادة وذهبت رائحة الموت التي كانت سائدة طوال الأيام الماضية ، وجاء بدلا عنها رائحة الحياة ، وما أجملها من رائحة .
استيقظت غادة من نومها ، حملتها والسعادة تغمرني ، قبلتها سرت بها في أرجاء الغرفة ، كانت لا تزال تتحدث بصوت غير واضح ، لكنها كانت تتحكم قليلا برقبتها ، خرجت بها أتجول في أورقة المستشفى ، كنت في قمة سعادتي ، وكانت فرحة بأبيها وكأنها لأول مرة تشاهده ، كانت في حال أفضل من ليلة أمس ، كانت تشير إلى بعض الأماكن وتتحدث بصوت غير مسموع ، لا بأس يا عزيزتي غدا ستخرجين صوتا ، غدا ستعودين كما كنت تمشين .. تركضين .. تملئين الشقة صراخا ولعبا وجريا .. لن أقول لك كفى .. لن أقول لك توقفي .. لن أقول لك ازعجتيني بل العبي كما شئت ..
عدت إلى الغرفة ، كانت أمها مازالت قلقة ، لم تستوعب عودة الحياة مرة أخرى ، لم تكن تصدق أن ابنتها قد كتب لها الحياة .. مازالت رائحة الموت تستنشقها ، وتملأ رأسها ..
أخذت أشرح لها الأمر ، وكيف أنها ستعود إلى كما كانت زهرة متفتحة بعبقها الأخاذ ، وستعود كما كانت غادة تلك التي ملأت البيت صراخا ..
كنت لا أريد أن أتركها ، ذهبت بها إلى الطبيب ، طبعا لم يكن ذلك الطبيب الأول ، طلبت منه الإذن بالخروج من المستشفى ، لكنه رفض وقال ليس بعد !
استغربت الأمر ، فقال : هناك أمر يجب أن تجلس في المستشفى من أجله ..