
~**~
حين تبلغ الروح مدارج العلى في دروب السالكين ، ترق وتشف
وتتسع لكل مافي الكون من موجودٍ ساكن أو متحرك ،
وتتهيأ لتتصل بالملإ الأعلى .. بالتسبيح ،والترتيل ،والاستغراق ، و التبتيل ..!
عندها تدرك مالا يدركه الغافلون الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الساربة في ضمير هذا الوجود ..النابضة في كل ماحوله..!
الروح غيبٌ من غيب لايدركه سواه ، وسر من أسرارالقدسية أودعه الله تعالى بين جنبي هذا المخلوق البشري وخلائق
أخرى ..!
أبدع الإنسان ماأبدع في هذا الكون ، ولكنه وقف حسيراً أمام ذلك السر اللطيف - الروح - لايدري ماهو ، ولا كيف جاء ، ولا كيف يذهب ، ولا أين كان أو أين يكون...!!
* *

تعالوا بنا نرحل في التاريخ لنستشفّ روحاً عذبة المقام ، عضت قدميها الأشواك وهي تحفر بأظافرها طريق الحياة لأجل أن تلتقي رضا الله في الآخرة..!
أحبت الله تعالى حباً ملك عليها قيادها وملأ حركاتها وسكناتها ! وظلت في شغفٍ إلى رئة الإرتواء حتى لاقت ربها ! تلك هي *رابعة العدوية*
ومن هنا بدأت رحلة الروح *~

من نقطة في الرمل امتطينا ظهر سفينة الصحراء ، فضربت بنا
الأرض حتى أناخت عند مشارف مدينة الحسن البصري....!
روح الحاضر هنا تشهد الماضي يجري أمام أنظارها وهي فاغرة الوقوف تتأمّل تتابع المشاهد في عروق
جسد البصرة العريق ، والنخيل يزاحم عشق الخيال ، والتاريخ يعبق بالعود المعتق يفوح من أردان الماضي العريق !

في عام مائة للهجرة. .. وفي بلدة نائية تربض في حضن المدينة تدعى " الأبلة " استقبلت الحياة صرخة وليدة جديدة كانت الرابعة بعد ثلاث شقيقاتٍ اسماً .. ووجوداً..!
عاشت حتى بلغت الثمانين وماتت في بيت المقدس ودفنت في الطور..! وبين الموت والميلاد كانت تلك الحياة الحافلة للعابدة الزاهدة ...!

تتوالى المشاهد أمامي ، ويساورني وجعٌ وأنا ألمس الحزن البارد في جدران ذلك البيت الفاغرحيث انكمشت
أربع شقيقاتٍ وجلاتٍٍ منطفآت الشعلة ينتفضن تحت ضربات عواصف الأيام القاسية ، ينتظرهن المجهول
كنفق مظلم لايرى آخره ..!. رحل الوالد ولحقته الأم إلى حيث لاعودة ، والميراث زورقٌ منهك يكد في
نهرالبصرة ، وكانت مسؤوليته من نصيب رابعة الطفلة ذات العشرة أعوام ! وتلك المأساة كانت أولى جرعات المرارة من كأس الحياة لها !
.

وتمر الأيام شحيحةً، ويولد من رحم المعاناة عام جديدٌ بلا مساحة ضوءٍ . عام مجاعة حمل معه القفر والفقر والجدب والجوع للجميع .. فتحولت الفيحاء إلى صحراء !.
هاهي رابعة أقفوها تهيم وأخواتها في دروب المدينة وقد عضهن ناب الجوع ..ولكن الزاد أمنية بعيدة ..!
فيطوين على الرمق ! وهنا .. كانت الجرعة الثانية من كأس المرارة !.

وفي ظل هذه الظروف يتحرك غول الجشع في الضمائر المهزوزة ، ويكشف الشر عن أنيابه ومخالبه ...فإذا
برابعة الطفلة التي لم يفلح غطاء البؤس في إطفاء جمالها تتعرض للخطف على يد عصابة من اللصوص
فتستجير حيث لامجير ... ويسدل غبار المحنة ستاره بينها وبين أخواتها ، فتضيع معالمهن إلى الأبد،
ويعفى الأثر ولاتبقى إلا صورة رابعة الباكية في سوق الرقيق .. حيث تباع لتاجر غليظ الطباع من آل عتيق ! ... وتلك هي الجرعة الثالثة من كأس المرارة !

وترحل الشهور وتقفوها السنوات أمام نافذة الزمن المشرعة..!
ورابعة تنوء تحت ذل العبودية .. روحها وقلبها مشدودان إلى
الله ووجودها تكبله مسؤولية الأَمَةِ تجاه مالكيها ، وأراها تهرع في كل سانحة إلى محراب تبتلها وصلاتها
لترتشف من معين الحب الإلهي الشهد الذي أنساها مذاق الصاب في شفة النواح .. ولكن التوق الممتزج بروحها لا يواسيه ولا يشفيه
إلا لزوم رحاب المعبود وإغراق لواعج القلب الظاميءفي برد اليقين ، وبث الحنين والأنين ، ولزوم باب الله حتى تشرع الباب !
وقد جاء الفرج من حيث لم يكن ليأتي ، ولكنه أمر الله ! ففي إحدى الليالي يمر سيدها فيراها مستغرقة في
العبادة مخضلة العينين تدعو الله أن يمنّ عليها بالعتق من الرِّق !. وهنا ..يرق لها القلب الغليظ وتعتري جسد
السيد قشعريرة من هالة الإيمان التي أحاطت رابعة وحرارة الدعاء الذي يقرع القلوب ..!. فيعتقها ..لتتوجه إلى الله بكليتها و لتتفرغ بعدها للعبادة والدعوة إلى الله ..!.
*< وتستمر الرحلة إلى ديار رابعة >*
~* وهنا أناخت روحي كما الإبل التي حملتني من قبل ..!
وتلاشيت عن رؤى عالمي وألقيت السمع إلى التي كانت تعطر عمق الليالي بأنفاس نجواها..!
وذهلت في توهان الوجود والقلب له رفيفٌ وهتاف : أيننا منك يارابعة ؟ ياأنشودة البتول النقية ؟!
أنت يامن خلعت رغبات النفس وعلائق البدن ..
كنت همس حديث النجوم في قلب الدجنة ورعشاتها ، حين كانت ترهف السمع إلى مناجاتك ..!
ولشغف ابتهالات روحك توهجت هالة القمر سحراً ، وتماهت موجات الأثير في صمت يرش الكون إلا من سحر الدعاء الذي تصاعد في الآفاق وأرسى إلى حيث منتهى الوجود !
نقرؤك مدى الحياة قطرات من الجمال ..!
وحباً تصاعد في مدارج الكمال ، مذباً عنه أوهاق الحياة الساربة في ضمير هذا الكون !
أنظر الآن إلى الأيام الأخيرة من حياة حفلت بالعبادة والدعوة إلى الله فأرى رابعة وقد حم الرحيل تطلب من " عبدة بن أبي شوال " أن تكفنها بجبة الشعر التي ترتديها ، وخمار الصوف الذي تلبسه ..!
وتبحر الروح المحبة الى حيث جنة الأشواق
طيبة المسرى ...
حينها تلاشت روءى عالمها الماضي
وجلت عيناها من المرائي ماتعجز عن وصفه اللغى
وهناك استراحت عند كرمة الحب !
وحطت الرحال ... في ظل المعبود الذي ملأ وجودها !
واطمأنت الروح عند الله . ..!
*~ بعد عام من الرحيل ...!
تقول عبدة : رأيت في منامي رابعة عليها حلة إستبرق خضراء وخمار من سندس أخضر، لم أر شيئا قط
أحسن منهما، فقلت: يا رابعة ما فعلت الجبة التي كفناك فيها والخمار الصوف؟ قالت: إنه والله نزع عني
وأبدلت به هذا الذي ترينه علي، وطويت أكفاني، وختم عليها ورفعت في عليين، ليكمل لي بها ثوابها يوم القيامة...!
ألا ما أجدرنا أن نستريح لحظات من لهاث الطريق إلى ظلال محطة الروح ، ونأخذ رشفات إيمانية صافية من الكدر نستعيد بها أنفاسنا التي غرقت في أوحال المادة ، وذابت في ضجيج الحياة ..!
نحن بحاجة أن نكون رابعة لحظات كلما انفرج باب النور في قلوبنا !!
*<~**~>*