WIDTH=949 HEIGHT=500

" وَمَـا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه "
- حمْلَةٌ مِنْ نورٍ -
الصبر ترياق القلوب النازفة، ورداء الأفئدة المثقلة بالهموم..!
ودرب من ضياء يحمل أقدامنا في سبق روحاني للتزود من زاد الأجر والثواب.
قال تعالى : "وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ"
فكم من نفس ذاقت من علقم الحياة كؤوساً ...ومن كدرها رشفات وجرعات...؟!
كلٌّ منا ابتلاه الله، واختبره بحرمانه من سعادة.. أو عافية... أو من متعة أخرها زوال..!
والمؤمن يسلم لهذا الابتلاء، وينظر له بعين الرضا بقضاء الله وقدره.!
و"أن ما أصابنا لم يكن ليخطنا، وما أخطانا لم يكن ليصيبنا"
فينبغي علينا حمد الله وشكره، والصبر على ما ابتلينا به.
وأن يكون هذا قنديلنا في التطلع لحياة أجمل.!
على ضوء هذه الحملة المباركة " وَمَـا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه "
ومن وحي الواقع المؤلم... أردتُ أن أشارك بريشة قلمي المتواضع بلوحة إنسانية.!
لوحة صبرٍ ذات رموز... ومعاناة ألم من خنادق الحياة القاتمة.!
سأسرد قصة صديقة لي استحقت سطوة القلم، ورجفة حروفه..!
استحقت تخليد قصتها كعنوان من نور في هذه الحملة النبيلة...!
فمعاناتها وألمها لم يزيدانها إلا صبراً وثباتاً..!
قال تعالى:" اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"
هذه ...هي ... قصة صديقتي :
" صفاء بعمقها وفاء "
أتركها بين أ يديكم ... لتزنوا مقدار صبرها ...!
~ طفلة تناغي حضن أمها المجهولة..!
عنيدة تأبى مغادرة مهد الطفولة...
اتسمت بالعار وذاتها من ذلك براء...
المجتمع نعتها بوصمة عار،وسلب منها حق الانتماء
ذرفت دموعاً...وشربت كأساً من الحرمان...
كانت صغيرة لاتبرق عيناها سوى بالبكاء..!
مقلتاها ذابلتان تشعران بوحشة المكان...
ترتدي فستاناً باهتاً شبيهاً بمستقبلها الملطخ بالسواد.
بيدها قطعةُ حلوى تذوب وتنصهر قبل أن تصل للشفاه..وتشكو برد الشتاء.
تفرح بدمية أتتها هدية من امرأة تُدعى رقيقة الإحساس..!
إنها"ماما حنان"
صاحبة الفرحة التي جعلت صغيرتنا ترقص وتُقبل دميتها وتداعب شعرها حالك السواد...
لا تعلم بأن أمامها منحدر من الألم!!
لا تعرف من هويتها سوى اسم متعدد الحروفِ...وملامح جميلة بعمر الورودِ!!
وأي ورود ؟!
بل هي أشواك تطؤها بقدمها الصغيرة،وبقلبها المثكول.
ليست هذه بقصة خيالية أو سرد أكاذيب...
فلتعلموا يا ساده يا كرام..!
بأن الدنيا بطولها وعرضها صفعت بطلة قصتي التي أسميتها"صفاء بعمقها وفاء"
واقعية قصتها، وحزنها ثائر كالبركان.
طفلة بدايتها تتهجى حروف الحرمان...وفي نهايتها ترتوي دموعاً وآهاتاً..
وحدها فريدة تمتلك أسمين بصفتين...ومعنيين متضادين...حزن وفرح بمرحلتين.
إنها صديقتي "اللقيطة"
عذراً ...فهي من اصرت على النعت الصريح..!
تعلمون لماذا؟
لإنها تكره أن تُلبس المعاني خلخال التباهي...وتنبذ زخرفة النصوص.
فالأيام لم تكن منصفةً لقلبها المصاب بالسهام..!
الكل نعتها باللقيطة...مجهولة النسب والمكان...
فأصبح مستقبلها حطام...
فلم تعد تغضب من تجاويف العقول العقيمةِ ..
رفيقتي قصتها قصة حزنٍ سرمديٍ قاسي الطباع.
يجول خارطة الذات ..
هأنا ساحكي فصول قصتها بشرط أن لاتدمع أعيونكم مثلي واستبدلوها بأصدق الدعوات..!
عند بزوغ فجر يوم الأثنين...5 ذي الحجة...
علت المنابر بذكر الله ..وتأهب المصلون للخروج من فناء مسجد الحارة القديمة..
شاء الله أن تنظر أعينهم على أعتاب الباب طفلة باكيةً بمهد ملطخ بالظلم والضيم...
وتصرخ ضحية ذنب لم تقترفه..
التف حولها الرجال والصبيةِ وعاملي النظافة...
منهم من بكى وتقطع قلبه وتحسب على الجاني والظالم !
ومنهم من عتب على قسوة الأيام معدومة الأحساس !
ومنهم من نظر بعين غير مبالية...ورجع يخلدُ لفراشه ...ويكمل ِسيناريو الأحلام.
وكأنه لم يرسوى قطعة رداء...
أو مسرحية هزلية تُعرض فصولها فوق خشبة الحياة...
عاد الجميع...والطفلة البريئة بين ذراعي المؤذن المسكين العم "عبدالله"
حارَ وفكرَ ماهو الحل؟
وكيف الخلاص؟
فتوجه لقسم الشرطةِ...وأخبرهم حكاية طفلة وحيدة تفترش الطرقات..بمهدٍ رثٍ قديم.
فيا ساده يا كرام..!
تم البحث والتحري ...فلم يجدوا خيطاً ولو ضئيلاً يقودهم لبر الأمان.
وزادَ الصراخ والبكاء..!
احتاروا !!
أهي جائعة؟ أم خائفة من غدر الأيام؟
كيف لا؟!
وهي يتيمة تعض أصابع الخيبة والاستسلام !!...
الأرض حصيرها، والسماء غطاؤها ...ورحمة الله فضاؤها الوسيع.
ونجومه رفيقات درب...وشاهداتُ لوعة وحزن مرير.
وفي وسط هذا البكاء ...حملتها يد طاهرة بيضاء.
يد امرأة ...ورجل..لم يرجعا للنوم ...كما فعل"فلان وعلان"
متسائلين أين الرحمة والضمير؟
كيف لأمٍ أن يستطيع قلبها فترمي بفلذة كبدها في معترك الحياة ؟!
وحيدة خارج بستان الإنسانية...وخلف أسوار الإحساس..؟!
ذرفت عيناها...وهي تفكر...ماحال هذه المسكينة؟ وأين ستعيش؟
الكل سيحتقرها وينبذها ...يأخذانها بذنب رجل وامرأة وثالثهماالشيطان.
رفيق شهوة ...وانحراف دين وأخلاق..!
وكان مابين الأقواس حديث نفس تُحاكي عاطفة وأمومة ..!
خيم الصمت لبرهة على المرأة المذهولة...
ويداها ترتجفان شفقةً ، وترنيمة إحساس...
وإذا بصوت زوجها يقطع حبل الأفكار..
ويُذكرها بأن الله لطيف بالعباد...
وأن كافل اليتيم يصاحب رسولنا الكريم بالجنة...
وأن الله لا يضيع أجر المحسنين..!
ولنجعل المعاناة تتحدث شفاهاً عن القلم..!
تقول صفاء:
وبينما هو كان يحاورها كنتُ أنظر إليها وفي عينيّ ذل وإنكسار...
وتوسل ورجاء...وسطور غاضبة مكتوبة بدمع المقل...!
فتباً لمن سلب البسمة من فم الرضيع..!
تباً لمن غاب عن قلبه مراقبة الله..ومات في أعماقه صوت الضمير.
تباً لجسد كالحرباء يتلون ويمشي بقلب صناعيٍّ ضرير وحقير.
لا تلوموني ..!
فعقلي مصدوم...وقلبي يتأججُ باللهيب.
فعندما كنتُ العب مع أطفال الحارة...
وكنتُ أختبئ خلف الجدار الذي كان من طين...
سمعتُ حواراً هامساً بريئاً..
بين طفلتين جميلتين...ذاتا ضفائر من حرير..
واحدة اسمها هيفاء...والأخرى نوال.!
تقول هيفاء لنوال: تعرفين صفاء بعمقها وفاء؟
نوال: نعم أتقصدين رفيقتنا ابنة الجيران ؟
هيفاء : من قال لكِ بإنها ابنتهم ،فلقد سمعتُ أمي تقول هذا لجارتنا "أم ركان"
نوال: مامعنى ذلك؟
هيفاء: معناه إنه ليس لها أب وأم مثلنا يحبونها..ويشترون لها الألعاب!!
ولابد أن نبتعد عنها ، فهي قد كذبت علينا ، وستدخل النار.
وابتعد الأطفال عني ...وبقيتُ وحيدة...
لم يبق لي سوى الله ومن ثم دميتي...ودمعتي...وأمي "ماما حنان"
فلا تألموني....فأنا لم العب معهم"فتحي يا وردة ....سكري ياوردة"
ففضلتُ النظر من بعيد ...خوفاً من الاصطدام البريء .
فلا تلوموني يا ساده يا كرام..!
وعندما لاح الصباح،تجملتُ وتعطرتُ ...وأخذتني النشوة لمدرستي الصغيرةِ...
فأنا في الصف الأول الإبتدائي...وانتقلت للفصل الدراسي الثاني.
اذاً أنا كبيرة..! وفرحتي عظيمة...! يالسذاجة الطفولة..!
وفي نشوة فرحي ...صحوتُ على صوت معلمتي...غاضبة ناهرة.
تقول وتنادي: صفاء بعمقها وفاء بنت فلان بن فلان الفلاني...موجودة.
فلم أرد.!
وكانت صدمتي قوية..!
فاقتربت منا ...وأخذت تبحث عن قلب جاهل بالحقيقة ..
ورمقتني بتلك النظرة العجيبة..!
وقالت: ألا تسمعين اسمكِ ياجميلة؟
فقلتُ: ليس باسمي يامعلمتي الكريمة.!
قالت بسخرية: ربما كان اسمي ياصغيرة.!
مبروك...هذه شهادتكِ خالية من الرسوب..ولا ينسى والدكِ الكريم أن يضع توقيعه اللطيف.
حينها ذُهلتُ ..ودارت بي الأرض...وندمتُ إنني اصبحتُ كبيرة.
وعدتُ لمنزلي ..وبانتظاري القلب العظيم "أمي الغالية"
حضنتني فكان حضنها بلسماً كالربيع..بكيتُ وسقطتُ كأوراق الشجرة في الخريف.
فقالت: لاتبكي ياحلوتي..فدموعكِ علي غالية.
فالله موجود حيّ لايموت...فلما تذرفين الدموع؟
وخالقنا يرى ويسمع سرائر النفوس..!
ألم أقل لكِ دعي القرآن رفيقكِ، وقنديلكِ المنير...؟
فلا تلوموني ..!
ولا تأخذكم الظنون بأن الظلم والحرمان...ذلني وكسرني.
وأضاع مفاتيح السعادة..! لا لم يتحقق شيء من ذلك.!
بل زادني إيماناً بالله وصرامة...
وجعل مني شخصية مهابة... ذات صبر وجلادة.
أحببتُ الله وأحبني...فأنزل بقلبي شفافية وطهارة..!
فلم أنكس رأسي يوماً من أجل عقولٍ جاهلة اللباقة...
هكذا أمي علمتني..كيف أواجه الأمواج العالية..وأكون صامدة كجبل شامخ..!
وأن أكون قوية ورقيقة كالفراشة..!
" وَمَـا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه "