احلى جودي @ahl_gody
محررة فضية
رسائل شهيد..من غــزة
مروة النجار
الشهيد حمزة الحية
لم تكن المقابلة محسوبة ولا مخططا لها من قبل، لكن قدر الله أن أقابله بعد خروجنا أنا وزميلتي من غزة بيوم واحد، ذهبنا سويًّا إلى مستشفى العريش يوم الإثنين 28 يناير 2008 عندما أخبرنا أحد سكان المدينة أن هناك شابًّا فلسطينيًّا مصابا بالمستشفى، كان هو واثنان من أقاربه في انتظار من يساعدهم في الوصول إلى القاهرة؛ لإجراء عملية جراحية خطيرة في المخ.
لم أعرف اسم الشخص الذي تحدث معنا حتى نهاية المقابلة.. كان مرافقًا لابن عمّه "عماد الحية" الذي أصيب جراء قصف إسرائيلي قبلها بستة أشهر، وصف لنا حالة ابن عمه المأساوية وطلب منا أن نساعده، وعدته بأنني سوف أجري بعض الاتصالات، وأحاول أن أساعد الشاب المصاب للوصول إلى القاهرة.
بداية تواصل
لم تزد المقابلة عن النصف ساعة، تبادلنا أرقام الهواتف لنبقى على تواصل، ثم ودعناه وابن عمه الثاني، كما ودعنا عماد الذي كان في عالم آخر، يتذكر القصف، يطلب الطعام، يتألم من جراحه، ويحلم بالشهادة..
عدت إلى القاهرة وانخرطت في عملي، ولكن لم يمنعني ذلك من أن أتصل ببعض الأشخاص الذين آمل فيهم أن يمدوا لنا يد العون في قضية عماد.. بعضهم وعدني بأن هناك طبيبًا سوف يسافر للعريش ليفحص عماد والبعض الآخر لم يَعِد بهذا، وكان حمزة يستعجلني في الوصول إلى من يساعد بالفعل؛ لأن السلطات المصرية قد بدأت في إغلاق المعابر وحمزة وأولاد عمه كانوا يريدون أن يرجعوا إلى غزة قبل أن تغلق المعابر تمامًا.
وأخيرًا.. عرفت من حمزة أن هناك من أهل العريش من نجح في إقناع طبيب متخصص في المخ والأعصاب بأن يفحص عماد، طلبت منه أن يطمئنني على قرار الطبيب وانتظرت المكالمة. جاءت المكالمة الساعة العاشرة ليلاً وكانت الأخبار سارة، فعماد -حسب قول الطبيب- لا يحتاج إلى عملية جراحية، ولكنه يحتاج إلى علاج لمدة سنة وسوف يُشفى بنسبة 80% بإذن الله تعالى.
رسائل حمزة
شكرني حمزة شكرًا لم أفهمه.. أنا لم أنجح في مساعدتهم وكل جهودي قد باءت بالفشل، علام يشكرني إذن؟ وظننت أن هذه المكالمة هي آخر اتصال بيننا حتى فوجئت برسالة منه يوم الجمعة الأول من فبراير يقول فيها: "الأخت الفاضلة مروى، مجددًا أكرر لك عظيم شكري على جهدك وعلى تعاطفك الدفاق معنا، وختامًا.. أود تبشيرك أنت وشعبنا المصري الحبيب بأننا سنواصل دربنا درب ذات الشوكة، ولن نحيد عنه مهما اشتدت الأزمات حتى ولو كانت نهايته كنهاية أصحاب الأخدود.. آملين من الله أن تكون نهايته فتحًا مظفرًا لقدسنا وتحريرًا لكل أرضنا، وإن كنا بحاجة إلى شيء منكم فهو دعاؤكم ودعمكم المعنوي، فلا تقلقوا علينا نحن على جادة الطريق وسنواصله، حمزة خليل الحية".
وجاءتني منه رسالة أخرى يوم 3 فبراير يقول لي فيها: "الأخت مروى: أود إعلامك أننا قد وصلنا غزة والجميع بخير، وأهل غزة يرسلون السلام لكم، وبالأخص والدي النائب خليل الحية يتقدم لكم بشكره على ما قدمتموه لنا.. حمزة الحية".
تعجبت من شكره المتكرر! هل نسي أنني لم أنجح في توفير المساعدة المطلوبة؟
أرسلت له ردًّا: "أحمد الله على سلامتكم يا أخي العزيز، سلامي لجميع الأهل والأحبة.. نحن لم نقدم لكم واحدًا بالمائة مما تقدمونه أنتم كل يوم وكل ليلة، فأنتم تقدمون أرواحكم دفاعًا عن الأرض التي بارك الله حولها؛ فلا وجه للمقارنة بين هذا وذاك، أنتم والله أعز الناس إلينا، وأسأل الله أن يقدر لي أن أفديكم ولو بروحي.. بارك الله فيكم، وثبّت أقدامكم، وسدّد رميكم، وكتب لكم الشهادة في سبيله".
ورغم الحصار والظلم الواقع على غزة وأهلها، لم ينسَ أن يهنئني على فوز مصر بكأس إفريقيا، وذلك على الرغم من الحملة العدائية التي كان يشنها الإعلام المصري على الشعب الفلسطيني
رسالة أوجعتني
ثم وصلتني منه رسالة أخرى يوم 17 فبراير: "كيف حالك يا أخت مروى وكيف حال الجميع؟ أرجو من الله أن تكونوا بخير، سلامنا من الجميع للجميع، واعذرونا على تقصيرنا، ودمت ذخرًا للإسلام وأهله.. لا تنسونا من دعوة مخلصة في وقت السحر"...
توقفت أتعجب!!.. تقصير من؟! فأرسلت له ردًّا في نفس اليوم: "أخي الكريم حمزة.. نحن بخير والحمد لله، كيف أنتم وكيف حال عماد؟ هل تصدقني لو قلت لك إن رسالتك أوجعتني؟ عن أي تقصير تتحدث؟ والله شعرت بالخجل عندما قرأت هذه الكلمة. المفترض أن نطلب نحن منكم أن تسامحونا لا العكس".
وفي اليوم التالي استيقظت على رسالته: "أستغرب من شعوركم الدائم بالتقصير معنا، على الرغم من أننا متساوون في التضحية، فأنتم تقدمون أقصى الذي تقدرون ونحن مثلكم، كمثل رجلين تصدقا بنصف ماليهما، واحد منهما يملك جبل ذهب والآخر يملك قرشين.. أليسا متساويين في أجر صدقة النصف؟ لا تنسونا من دعوة خالصة في جوف الليالي".
ويوم 24 فبراير كان اليوم العالمي لمناهضة غزة. وقد أرسلت له يومها رسالة عن أحد فعاليات اليوم وهي إطفاء النور لمدة خمس دقائق الساعة الثامنة مساء بتوقيت القاهرة تضامنًا مع أهلنا في غزة، فأرسل لي رسالة شكر..
"أسأل الله تعالى يا أخت مروى أن يتم نوره عليكم، وأن يلبسكم ثياب نور، وجعلكم الله نورًا ينير طريق العاصين، وأطمئنك بأن ظلام الظلم والحصار سيعقبه ضياء وانتصار، بأمثالكم سيعاد عز الأمة المسلوب".
لم أجد كلمات لأجيب بها على هذه الرسالة الجميلة من هذا الشاب الجميل المتواضع الذي كان كلامه يتدفق فيه الإيمان والخلق والتواضع.
"الآن" استشهد حمزة
ثم كان يوم الخميس 28 فبراير: كنت في عملي وقلبي حزين على الأوضاع التي اشتدت بشكل عنيف في غزة، ولم أكن قادرة على التركيز في عملي لانشغال ذهني بالأحبة في فلسطين.
الساعة 11:46 ظهرًا جاءتني رسالة من غزة.. رسالة وكأنها سكين قد طعن قلبي: "الآن ابن الدكتور خليل الحية استشهد".
لم أستطع أن التقط أنفاسي لعدة لحظات.. أرسلت ردًّا سريعًا يحمل كلمتين.. "من؟ ما اسمه؟"،
وجاء الرد: "حمزة خليل الحية".
رحمك الله يا حمزة.. عرفتك لمدة 30 يومًا، ثم استشهدت.. لم أكن أعرف أنك من المرابطين الذين يدافعون عنا وعن شرف أمة أصبحت تجيد الصمت.. لم أكن أعرف أنك لا يزيد عمرك عن 22 عامًا.. لم أكن أعرف شيئًا عنك إلا أنك صاحب الرسائل الجميلة، وأنك كنت تشكرني على أشياء لا تُوجِب الشكر..
لم أكن أعرف شيئًا عنك يا أخي العزيز، ولكني أحببتك وما زلت أحبك في الله..
قلت في رسالتك الأخيرة لي: "وأطمئنك بأن ظلام الظلم والحصار سيعقبه ضياء ونور". صدقت والله يا حمزة.. فأنت تركت ظلام الظلم والحصار وذهبت إلى نور الجنان.. أنت فزت ورب الكعبة يا حمزة.. فزت فوزًا عظيمًا..
على الرغم من أنني لن أتلقى منك رسالة بعد الآن، فإن رسائلي لك لن تتوقف، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
أبلغك السلام يا أخي العزيز في كل يوم وليلة، فأنت لم تغب عن ذهني لحظة.. كل دمعة تتساقط من عيني تحمل اسمك...
بلِّغ سلامي رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه يا حمزة.. بلِّغ سلامي الشهداء جميعًا.
--------------------------------------------------------------------------------
مديرة تحرير موقع التعريف بالإسلام .
3
374
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
وينصرهم نصرا سريعا