nourmanal
nourmanal

أصول العقيدة الإسلامية

وهي ستة أصول‏:‏

- الإيمان بالله عز وجل
- الإيمان بالملائكة
- الإيمان بالكتب
- الإيمان بالرسل
- الإيمان باليوم الآخر
- الإيمان بالقضاء والقدر
تمهيد

اعلم أيها المسلم -وفقني الله وإياك- أن أصول العقيدة الإسلامية التي هي عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة هي‏:‏ الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره‏.‏
وهذه الأصول دلت عليها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة وأجمعت عليها الأمة‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ‏}‏ ‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ‏}‏ ‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ‏}‏ ‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا‏}‏ ‏.‏ وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتومن بالقدر خيره وشره‏)‏ ‏.‏
وهذه الأصول العظيمة -وتسمى أركان الإيمان- قد اتفقت عليها الرسل والشرائع، ونزلت بها الكتب السماوية، ولم يجحدها أو شيئا منها إلا من خرج عن دائرة الإيمان وصار من الكافرين؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏
وهذه الأصول العظيمة والأركان القويمة تحتاج إلى شرح وبيان، وهو ما سنحاول إن شاء الله تقديم ما نستطيع منه في هذا الكتاب‏.‏

الأصل الأول‏:الإيمان بالله عز وجل
وهو أساسها وأصلها، وهو يعني الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق وحده، المدبر للكون كله، وأنه هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، وأن كل معبود سواه؛ فهو باطل وعبادته باطلة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ‏}‏ ، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال، منزه عن كل نقص وعيب‏.‏
وهذا هو التوحيد بأنواعه الثلاثة‏:‏ توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات‏.‏
أولا‏:‏ توحيد الربوبية
فأما توحيد الربوبية؛ فإنه الإقرار بأن الله وحده هو الخالق للعالم، وهو المدبر، المحيي، المميت، وهو الرزاق، ذو القوة المتين‏.‏
والإقرار بهذا النوع مركوز في الفطر، لا يكاد ينازع فيه أحد من الأمم‏:‏
كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ‏}‏ ‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ‏}‏ ‏.
وهذا في القرآن كثير؛ يذكر الله عن المشركين أنهم يعترفون لله بالربوبية والانفراد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة‏.‏
ولم ينكر توحيد الربويية ويجحد الرب إلا شواذ من المجموعة البشربة، تظاهروا بإنكار الرب مع اعترافهم به في باطن أنفسهم وقرارة قلوبهم، وإنكارهم له إنما هو من باب المكابرة؛ كما ذكر الله عن فرعون أنه قال‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ، وقد خاطبه موسى عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ‏}‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ ‏.‏
وهم لم يستندوا في جحودهم إلى حجة، وإنما ذلك مكابرة منهم؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ‏}‏ ؛ فهم لم ينكروا عن علم دلهم على إنكاره ولا سمع ولا عقل ولا فطرة‏.‏
ولما كان هذا الكون وما يجري فيه من الحوادث شاهدا على وحدانية الله وربوبيته؛ إذ المخلوق لا بد له من خالق، والحوادث لا بد لها من محدث؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ‏}‏ ، وقال الشاعر‏:‏
وفـي كـل شـيء له آيـة ** تــدل عـلى أنه واحــد
لما كان لا بد من جواب على هذه الحقيقة، اضطرب هؤلاء المنكرون لوجود الخالق في أجوبتهم‏:‏ فتارة يقولون‏:‏ هذا العالم وجد نتيجه للطبيعة، التي هي عبارة عن ذات الأشياء من النبات والحيوان والجمادات؛ فهذه الكائنات عندهم هي الطبيعة، وهي التي أوجدت نفسها‏!‏‏!‏ أو يقولون‏:‏ هي عبارة عن صفات الأشياء وخصائصها من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة وملاسة وخشونة، وهذه القابليات من حركة وسكون ونمو وتزاوج وتوالد؛ هذه الصفات وهذه القابليات هي الطبيعة بزعمهم، وهي التي أوجدت الأشياء‏!‏‏!‏
وهذا قول باطل على كلا الاعتبارين؛ لأن الطبيعة بالاعتبار الأول على حد قولهم تكون خالقة ومخلوقة؛ فالأرض خلقت الأرض، والسماء خلقت السماء‏.‏‏.‏‏.‏ وهكذا‏!‏ وهذا مستحيل‏!‏ وإذا كان صدور الخلق عن الطبيعة بهذا الاعتبار مستحيلا؛ فاستحالته بالاعتبار الثاني أشد استحالة؛ لأنه إذا عجزت ذات الشيء عن خلقه؛ فعجز صفته من باب أولى؛ لأن وجود الصفة مرتبط بالموصوف الذي تقوم به، فكيف تخلقه وهي مفتقرة إليه‏؟‏‏!‏ وإذ ثبت بالبرهان حدوث الموصوف؛ لزم حدوث الصفة‏.‏ وأيضا؛ قالطبيعة لا شعور لها؛ فهي آلة محضة؛ فكيف تصدر عنها الأفعال العظيمة التي هي في غاية الإبداع والإتقان، وفي نهاية الحكمة، وفي غاية الارتباط‏.‏
ومن هؤلاء الملاحدة من يقول‏:‏ إن هذه الكائنات تنشأ عن طريق المصادفة بمعنى أن تجميع الذرات والجزئيات عن طريق المصادفة يؤدي إلى ظهور الحياة بلا تدبير من خالق مدبر ولا حكمة‏!‏‏!‏ وهذا قول باطل ترده العقول والفطر؛ فإنك إذا نظرت إلى هذا الكون المنظم بأفلاكه وأرضه وسمائه وسير المخلوقات فيه بهذه الدقة والتنظيم العجيب؛ تبين لك أنه لا يمكن أن يصدر إلا عن خالق حكيم‏.‏
قال ابن القيم‏:‏ ‏"‏فسل المعطل الجاحد‏:‏ ماذا تقول في دولاب دائر على نهر، وقد أحكمت آلاته، وأحكم تركيبه، وقدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه، بحيث لا يرى الناظر فيه خللا في مادته ولا في صورته، وقد جعل على حديقة عظيمة، فيها من كل أنواع الثمار والزروع، يسقيها حاجتها، وفي تلك الحديقة من يلم شعثها، ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها، فلا يختل منها شيء، ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على أحسن المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم، فيقسم لكل صنف منهم ما يليق به، ويقسمه هكذا على الدوام، أترى هذا اتفاقا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر، بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة وكل ذلك اتفاقا من غير فاعل ولا قيم ولا مدبر‏؟‏‏!‏ أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان‏؟‏‏!‏ وما الذي يفتيك به‏؟‏‏!‏ وما الذي يرشدك إليه‏؟‏‏!‏ ولكن من حكمة العزيز الحكيم أن خلق قلوبا عميا لا بصائر لها فلا ترى هذه الآيات الباهرة إلا رؤية الحيوانات البهيمية كما خلق أعينا لا أبصار لها‏"‏‏.‏ انتهى كلامه رحمه الله‏.‏
ثانيا‏:‏ توحيد الألوهية
توحيد الألوهية هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة‏.‏
فالألوهية معناها العبادة، والإله معناه المعبود، ولهذا يسمى هذا النوع من التوحيد توحيد العبادة‏.‏
والعبادة في اللغة‏:‏ الذل، يقال‏:‏ طريق معبد‏:‏ إذا كان مذللا قد وطأته الأقدام‏.‏
وأما معنى العبادة شرعا؛ فقد اختلفت عبارات العلماء في ذلك مع اتفاقهم على المعنى‏:‏
فعرفها طائفة منهم بأنها ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي‏.‏
وعرفها بعضهم‏:‏ بأنها كمال الحب مع كمال ‏(1)
‏ الخضوع‏.‏
وعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة‏.‏
وهذا التعريف أدق وأشمل؛ فالدين كله داخل في العبادة، ومن عرفها بالحب مع الخضوع؛ فلأن الحب التام مع الذل التام يتضمنان طاعة المحبوب والانقياد له؛ فالعبد هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، فبحسب محبة العبد لربه وذله له تكون طاعته؛ فمحبة العبد لربه وذله له يتضمنان عبادته له وحده لا شريك له‏.‏
فالعبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، وهي تتضمن ثلاثة أركان هي‏:‏ المحبة والرجاء والخوف، ولا بد من اجتماعها؛ فمن تعلق بواحد منها فقط؛ لم يكن عابدا لله تمام العبادة؛ فعبادة الله بالحب فقط هي طريقة الصوفية، وعبادته بالرجاء وحده طريقة المرجئة، وعبادته بالخوف فقط طريقة الخوارج‏.‏
والمحبة المنفردة عن الخضوع لا تكون عبادة؛ فمن أحب شيئا ولم يخضع له؛ لم يكن عابدا؛ كما يحب الإنسان ولده وصديقه، كما أن الخضوع المنفرد عن المحبة لا يكون عبادة؛ كمن يخضع لسلطان أو ظالم اتقاء لشره‏.‏ ولهذا لا يكفي أحدهما عن الآخر في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون الله عنده أعظم من كل شيء‏.‏
والعبادة هي الغاية المحبوبة لله والمرضية له، وهي التي خلق الخلق من أجلها؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ، وبها أرسل جميع الرسل؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏.‏ والعبادة لها أنواع كثيرة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الحيوان والأيتام والمساكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقرآن؛ كل ذلك من العبادة، وكذلك حب الله وحب رسوله، وخشية الله والإنابة إليه؛ كل ذلك من العبادة، وكذلك الذبح والنذر والاستعاذة والاستعانة والاستغاثة‏.‏ فيجب صرف العبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له؛ فمن صرف منها شيئا لغير الله؛ كمن دعا غير الله، أو ذبح أو نذر لغير الله، أو استعان أو استغاث بميت أو غائب أو بحي حاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ فقد أشرك الشرك الأكبر وأذنب الذنب الذي لا يغفر إلا بالتوبة، سواء صرف هذا النوع من العبادة لصنم أو لشجر أو لحجر أو لنبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء حي أو ميت؛ كما يفعل اليوم عند الأضرحة المبنية على القبور؛ فإن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد؛ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي ولا غيرهم‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ‏}‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}‏ ‏.‏
ومع الأسف الشديد؛ فقد اتخذت القبور اليوم في بعض البلاد أوثانا تعبد من دون الله ممن يدعون الإسلام‏.‏‏.‏‏.‏ وقد يدعو أحدهم غير الله في أي مكان، ولو لم يكن عند قبر؛ كمن يقول‏:‏ يا رسول الله‏!‏ عند قيامه أو مفاجأته بشيء غريب‏!‏‏!‏ أو يقول‏:‏ المدد يا رسول الله‏!‏ أو‏:‏ يا فلان‏.‏‏.‏‏.‏ وإذا نهوا عن ذلك؛ قالوا‏:‏ نحن نعلم أن هؤلاء ليس لهم من الأمر شيء، ولكن هؤلاء أناس صالحون، لهم جاه عند الله، ونحن نطلب بجاههم وشفاعتهم‏!‏‏!‏ ونسي هؤلاء أو تناسوا- وهم يقرءون القرآن- أن هذا بعينه قول المشركين؛ كما ذكره الله في القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ‏}‏ ، فسماهم كفارا كذبة، وهم يعتقدون أن هؤلاء الأولياء مجرد وسائط بينهم وبين الله في قضاء حوائجهم، وهذا ما يقوله عباد القبور اليوم، ‏{‏تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏.‏
فالواجب على علماء الإسلام أن ينكروا هذا الشرك الشنيع ويبينوه للناس، والواجب على حكام المسلمين هدم هذه الأوثان وتطهير المساجد منها‏.‏
وقد أنكر كثير من الأئمة المصلحين هذا الشرك ونهوا عنه وحذروا وأنذروا، ومن هؤلاء‏:‏ شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني، والشيخ محمد بن علي الشوكاني‏.‏‏.‏‏.‏ وكثير من الأئمة قديما وحديثا، وهذه مؤلفاتهم بين أيدينا‏.‏
وفي ذلك يقول الإمام الشوكاني في ‏"‏نيل الأوطار‏"‏‏:‏ ‏"‏وكم سرى من تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها اعتقاد الجهلة كاعتقاد الكفار للأصنام وأعظم من ذلك، فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصدا لطلب قضاء الحوائج وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم، وشدوا إليها الرحال، وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة‏:‏ إنهم لم يدعوا شيئا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏
ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف؛ لا عالما ولا متعلما ولا أميرا ولا وزيرا ولا ملكا‏!‏‏!‏
ولقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيرا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه؛ حلف بالله فاجرا، وإذا قيل له بعد ذلك‏:‏ احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني؛ تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق‏!‏‏!‏ وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال‏:‏ إنه تعالى ثاني اثنين، أو ثالث ثلاثة‏.‏
فيا علماء الدين‏!‏ ويا ملوك المسلمين‏!‏
أي رزء للإسلام أشد من الكفر‏؟‏‏!‏ وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله‏؟‏‏!‏ وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة‏؟‏‏!‏ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا‏؟‏‏!‏
لقد أسمعـت لو ناديت حيـا ** ولكن لا حياة لمن تنـادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت ** ولكن أنت تنفخ فى رمـاد
انتهى كلام الشوكاني رحمه الله‏.‏

وقد زاد البلاء بعده وصار أشد مما وصف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏
علاقة توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية والعكس
وعلاقة أحد النوعين بالآخر أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الإلهية، بمعنى أن الإقرار بتوحيد الربوبية يوجب الإقرار بتوحيد الإلهية والقيام به‏.‏
فمن عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره؛ وجب عليه أن يعبده وحده لا شريك له‏.‏
وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية؛ بمعنى أن توحيد الربوبية يدخل ضمن توحيد الألوهية؛ فمن عبد الله وحده ولم يشرك به شيئا؛ فلا بد أن يكون قد اعتقد أنه هو ربه وخالقه؛ كما قال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ ‏.‏
والألوهية والربوبية‏:‏ تارة يذكران معا فيفترقان في المعنى ويكون أحدهما قسيما للآخر؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ‏}‏ ؛ فيكون معنى الرب‏:‏ هو المالك المتصرف في الخلق، ويكون معنى الإله‏:‏ أنه المعبود بحق المستحق للعبادة وحده‏.‏ وتارة يذكر أحدهما مفردا عن الآخر، فيجتمعان في المعنى؛ كما في قول الملكين للميت في القبر‏:‏ من ربك‏؟‏ ومعناه‏:‏ من إلهك وخالقك‏؟‏ وكما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا‏}‏ ؛ فالربوبية في هذه الآيات هي الإلهية‏.‏
والذي دعت إليه الرسل من النوعين هو توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية يقر به جمهور الأمم، ولم ينكره إلا شواذ من الخليقة؛ أنكروه في الظاهر فقط، والإقرار به وحده لا يكفي؛ فقد أقر به إبليس‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏، وأقر به المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما دلت على ذلك الآيات البينات؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏
فمن أقر بتوحيد الربوبية فقط؛ لم يكن مسلما، ولم يحرم دمه ولا ماله، حتى يقر بتوحيد الألوهية؛ فلا يعبد إلا الله‏.‏
وبهذا يتبين بطلان ما يزعمه علماء الكلام والصوفية من أن التوحيد المطلوب من العباد هو الإقرار بأن الله هو الخالق المدبر، ومن أقر بذلك؛ صار عندهم مسلما، ولهذا يعرفون التوحيد في الكتب التي ألفوها في العقائد بما ينطبق على توحيد الربوبية فقط؛ حيث يقولون مثلا‏:‏ التوحيد هو الإقرار بوجود الله وأنه الخالق الرازق‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏!‏‏!‏ ثم يوردون أدلة توحيد الربوبية‏.‏
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع، فيقولون‏:‏ هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له‏.‏ وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها‏.‏‏.‏‏.‏ ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا‏:‏ لا إله إلا الله، حتى يجعلوا معنى الألوهية القدرة على الاختراع‏!‏ ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولا لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء، حتى إنهم كانوا يقرون بالقدر أيضا، وهم مع هذا مشركون‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏
هذا كلام الشيخ رحمه الله، وهو واضح في الرد على من اعتقد أن التوحيد المطلوب من الخلق هو الإقرار بتوحيد الربوبية، ويؤيد هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ؛ فالرسل لم يقولوا لأممهم‏:‏ أقروا أن الله هو الخالق‏!‏ لأنهم مقرون بهذا، وإنما قالوا لهم‏:‏ ‏{‏اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏.‏
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا‏:‏ ‏"‏التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده؛ بأن يشهد أن لا إله إلا الله لا يعبد إلا إياه‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏
إلى أن قال‏:‏ ‏"‏وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف، ويظن هولاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل؛ فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه؛ فقد فنوا في غاية التوحيد‏.‏
فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء؛ لم يكن موحدا، حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، والإله هو المألوه الذي يستحق العبادة، وليس الإله بمعنى القادر على الاختراع، فإذا فسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا هو الغاية في التوحيد؛ كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه؛ لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ ؛ قال طائفة من السلف‏:‏ تسألهم من خلق السماوات والأرض‏؟‏ فيقولون‏:‏ الله، وهم مع هذا يعبدون غيره‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ‏}‏ ‏.
فليس كل من أقر بأن الله تعالى رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه، داعيا له دون ما سواه، يوالي فيه ويعادي فيه ويطيع رسله‏.‏‏.‏‏.‏
وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أندادا‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏
إلى أن قال رحمه الله‏:‏ ‏"‏ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب ويدعوها ويصوم وينسك لها ويتقرب إليها، ثم يقول‏:‏ إن هذا ليس بشرك، إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي، فإذا جعلتها سببا وواسطة؛ لم أكن مشركا، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى كلامه‏.‏
قلت‏:‏ وهذا ما يقوله عباد القبور اليوم؛ يتقربون إليها بأنواع العبادة، ويقولون‏:‏ هذا ليس بشرك؛ لأننا لا نعتقد فيها أنها تخلق وتدبر، وإنما جعلناها وسائط نتوسل بأصحابها‏.‏‏.‏‏.‏
nourmanal
nourmanal
6- قال الله ( وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقَاً حَرَجَاً كَأَنَّمَاْ يَصَّعَّدُ فِيْ السَّمَاْءِ ) الأنعام : 125 --------------------------------------------------------------------- و الآن عندما تركب طائرة و تطير بك و تصعد في السماء بماذا تشعر؟ ألا تشعر بضيق في الصدر؟ فبرأيك من الذي أخبر محمداً صلى الله عليه و سلم بذلك قبل 1400 سنة؟ هل كان يملك مركبة فضائية خاصة به استطاع من خلالها أن يعرف هذه الظاهرة الفيزيائية؟ أم أنه وحي من الله تعالى؟؟؟
6- قال الله ( وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقَاً حَرَجَاً كَأَنَّمَاْ...

أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الإلهية


لما كان توحيد الربوبية قد أقر به الناس بموجب فطرهم ونظرهم في الكون، وكان الإقرار به وحده لا يكفي للإيمان بالله ولا ينجي صاحبه من العذاب، ركزت دعوات الرسل على توحيد الإلهية، خصوصا دعوة خاتم الرسل نبينا محمد عليه وعليهم أفضل السلام، فكان يطالب الناس بقول‏:‏ لا إله إلا الله، المتضمنة لعبادة الله، وترك عبادة ما سواه، فكانوا ينفرون منه ويقولون‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏ ‏.‏
وحاولوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يترك هذه الدعوة ويخلي بينهم وبين عبادة الأصنام، وبذلوا في ذلك معه كل الوسائل؛ بالترغيب تارة وبالترهيب تارة، وهو عليه الصلاة والسلام يقول‏:‏ ‏"‏والله، لو وضعوا الشمس بيميني، والقمر بشمالي، على أن أترك هذا الأمر؛ لا أتركه حتى يظهره الله أو أهلك دونه‏"‏‏.‏
وكانت آيات الله تتنزل عليه بالدعوة إلى هذا التوحيد، والرد على شبهات المشركين، وإقامة البراهين على بطلان ما هم عليه‏.‏
وقد تنوعت أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الإلهية، وها نحن نذكر جملة منها؛ فمن ذلك‏:‏
1- أمره سبحانه بعبادته وترك عبادة ما سواه؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏.‏
2- ومنها إخباره سبحانه أنه خلق الخلق لعبادته؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏.‏
3- ومنها إخباره أنه أرسل جميع الرسل بالدعوة إلى عبادته والنهي عن عبادة ما سواه؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏.
4- ومنها الاستدلال على توحيد الإلهية بانفراده بالربوبية والخلق والتدبير؛ كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ‏}‏ ‏.‏
5- ومنها الاستدلال على وجوب عبادته سبحانه بانفراده بصفات الكمال وانتفاء ذلك عن آلهة المشركين؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا‏}‏ ، وقوله عن خليله إبراهيم‏:‏ إنه قال لأبيه‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا‏}‏ ‏.‏ 6- ومنها تعجيزه لآلهة المشركين؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ‏}‏ ‏.‏
7- ومنها تسفيه المشركين الذين يعبدون غير الله؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ‏}‏ ‏.‏ 8- ومنها بيان عاقبة المشركين الذين يعبدون غير الله، وبيان مآلهم مع من عبدوهم، حيث تتبرأ منهم تلك المعبودات في أحرج المواقف؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ‏}‏ ‏.‏
9- ومنها رده سبحانه على المشركين في اتخاذهم الوسائط بينهم وبين الله بأن الشفاعة ملك له سبحانه؛ لا تطلب إلا منه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، بعد رضاه عن المشفوع له؛ قال سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى‏}‏ ؛ فبين سبحانه في هذه الآيات أن الشفاعة ملكه وحده، لا تطلب إلا منه، ولا تحصل إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع له‏.‏
10- ومنها أنه بين سبحانه أن هؤلاء المعبودين من دونه لا يحصل منهم نفع لمن عبدهم من جميع الوجوه، ومن هذا شأنه لا يصلح للعبادة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ ‏.‏
11- ومنها أنه سبحانه ضرب أمثلة كثيرة في القرآن يتضح بها بطلان الشرك، من ذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏ ؛ شبه سبحانه التوحيد في علوه وارتفاعه وسعته وشرفه بالسماء، وشبه تارك التوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين؛ لأنه سقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر، وشبه الشياطين التي تقلقه بالطير التي تمزق أعضاءه، وشبه هواه الذي يبعده عن الحق بالريح التي ترمي به في مكان بعيد‏.‏ هذا مثال واحد من أمثلة كثيرة في القرآن ذكرها الله سبحانه لبيان بطلان الشرك وخسارة المشرك في الدنيا والآخرة‏.‏
وما سقناه في هذا الدرس من أساليب القرآن في الدعوة إلى توحيد الإلهية وإبطال الشرك قليل من كثير، وما على المسلم إلا أن يقرأ القرآن بتدبر ليجد الخير الكثير والأدلة المقنعة والبراهين الساطعة التي ترسخ عقيدة التوحيد في قلب المؤمن وتقتلع منه كل شبهة‏.‏
nourmanal
nourmanal
حدوث الشرك في توحيد الألوهية

مطلوب من المسلم بعدما يعرف الحق أن يعرف ما يضاده من الباطل ليجتنبه، كما يقال‏:‏
عرفت الشر لا للشـ ** ـر لكن لتوقيـــه
وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول‏:‏ ‏"‏كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه‏"‏‏.‏
ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏يوشك أن تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية‏"‏‏.‏
وقبل ذلك قال الخليل عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏.‏ فهذا مما يوجب شدة الخوف من الشرك ومعرفته ليجتنبه المسلم‏.‏ فالشرك هو صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله؛ كالدعاء والذبح والنذر والاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله‏.‏ والتوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة‏.‏ وهو أصيل في بني آدم، والشرك طارئ عليه؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ‏}‏ ‏:‏
قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏كان بين آدم ونوح عشرة قرون؛ كلهم على الإسلام‏"‏‏.‏
قال ابن القيم رحمه الله‏:‏ ‏"‏هذا القول هو الصحيح في الآية‏"‏‏.‏

وصحح هذا القول أيضا ابن كثير‏.‏
وأول ما حدث الشرك في الأرض في قوم نوح حين غلوا في الصالحين‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏.‏ قال البخاري في ‏"‏صحيحه‏"‏عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏هذه أسماء رجال صالحون من قوم نوح، فلما هلكوا؛ أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم؛ عبدت‏"‏‏.‏
قال ابن القيم‏:‏ ‏"‏قال غير واحد من السلف‏:‏ لما ماتوا؛ عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم‏"‏‏.‏
ومن هذا الأثر الذي رواه البخاري عن ابن عباس في غلو قوم نوح في الصالحين وتصويرهم إياهم والاحتفاظ بصورهم ونصبها على المجالس منه ندرك خطورة التصوير وخطورة تعليق الصور على الجدران وخطورة نصب التماثيل في الميادين والشوارع، وأن ذلك يئول بالناس إلى الشرك، بحيث يتطور تعظيم تلك الصور والتماثيل المنصوبة، فيؤدي ذلك إلى عبادتها؛ كما حدث في قوم نوح‏.‏
ولهذا جاء الإسلام بتحريم التصوير ولعن المصورين وتوعدهم بأشد الوعيد، وأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة؛ سدا لذريعة الشرك، وابتعادا عن مضاهاة خلق الله عز وجل‏.‏
وندرك من هذه القصة مدى حرص الشيطان لعنه الله على إغواء بني آدم، ومكره بهم، وأنه قد يأتيهم من ناحية استغلال العواطف ودعوى الترغيب في الخير؛ فإنه لما رأى في قوم نوح ولوعهم بالصالحين ومحبتهم لهم؛ دعاهم إلى الغلو في هذه المحبة؛ بحيث أمرهم بنصب الصور التذكارية لهم، وهدفه من ذلك التدرج بهم في إخراجهم من الحق إلى الضلال، ولم يقصر نظره على الحاضرين، بل امتد إلى أجيالهم اللاحقة الذين قل فيهم العلم وفشا فيهم الجهل، فزين لهم عبادة هذه الصور، وأوقعهم في الشرك الأكبر، وكابروا نبيهم بقولهم‏:‏ ‏{‏لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ‏}‏ ‏.‏
قال الإمام ابن القيم رحمه الله‏:‏ ‏"‏وقد تلاعب الشيطان بالمشركين في عبادة الأصنام بكل قوم على قدر عقولهم‏:‏
فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا؛ كما في قوم نوح، وهذا السبب هو الغالب على عوام المشركين‏.‏ وأما خواصهم؛ فاتخذوا الأصنام على صور الكواكب المؤثرة في العالم بزعمهم، وجعلوا لهم بيوتا وسدنة وحجابا وقربانا، ولم يزل هذا في الدنيا قديما وحديثا، وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة، وهم قوم إبراهيم عليه السلام، الذين ناظرهم في بطلان الشرك، وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده، فطلبوا تحريقه‏.‏ وطائفة أخرى اتخذت للقمر صنما، وزعموا أنه يستحق العبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي‏.‏ وطائفة تعبد النار، وهم المجوس‏.‏ وطائفة تعبد الماء‏.‏ وطائفة تعبد الحيوانات؛ فطائفة عبدت الخيل، وطائفة عبدت البقر‏.‏ وطائفة عبدت البشر الأحياء والأموات‏.‏ وطائفة تعبد الجن‏.‏ وطائفة تعبد الشجر‏.‏ وطائفة تعبد الملائكة‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏ انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى‏.‏
وبه تعرف معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏ ‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا‏}‏ ‏.‏ هؤلاء المشركون لما تركوا عبادة الله وحده لا شريك له- وهي التي خلقوا من أجلها وبها سعادتهم-؛ ابتلوا بعبادة الشياطين، وتفرقت بهم الأهواء والشهوات؛ كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله‏:‏
هربوا من الرق الذي خلقوا له ** فبلوا برق النفس والشيطان
فلا اجتماع للقلوب ولا صلاح للعالم إلا بالتوحيد؛
كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ ‏.‏
ولذلك إذا خلت الأرض من التوحيد؛ قامت القيامة؛ كما روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض‏:‏ الله الله‏)‏ ‏.‏ ومثل تفرق المشركين الأولين في عباداتهم ومعبوداتهم تفرق القبوريين اليوم في عبادة القبور؛ فكل منهم له ضريح خاص يتقرب إليه بأنواع العبادة، وكل طريقة من الطرق الصوفية لها شيخ اتخذه مريدوه ربا من دون الله يشرع لهم من الدين ما لم يأذن به الله‏.‏
وهكذا تلاعب الشياطين ببني آدم، ولا نجاة من شره ومكره إلا بتوحيد الله والاعتصام بكتابه وسنة رسوله‏.‏
نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه؛ إنه هو مولانا؛ فنعم المولى ونعم النصير‏.‏
خطر الشرك ووجوب الحذر منه بتجنب أسبابه
الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا مغفرة لمن لم يتب منه، مع أنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وذلك يوجب للعبد شدة الحذر وشدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه، ويحمله على معرفته لتوقيه، لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم‏:‏
قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ، وذلك لأنه تنقص لله عز وجل، ومساواة لغيره به؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ ‏.‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ؛ لأن الشرك مناقض للمقصود بالخلق والأمر من كل وجه بالله عز وجل؛ فقد شبه المخلوق بالخالق، وأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات عن جميع المخلوقات‏.‏
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الشرك، وسد كل الطرق التي تفضي إليه؛ فقد بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وحالة العرب بل وحالة أهل الأرض كلهم إلا بقايا من أهل الكتاب كانت على أسوإ حالة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏.‏
لقد كانت الخليقة في هذه الفترة بين وثنية حائرة تتخذ آلهتها من حجارة منحوتة وأصنام منصوبة تعكف عندها وتطوف حولها وتقرب لها الذبائح من أنفس أموالها بل وحتى أولادها؛ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ‏}‏ ‏.‏‏.‏‏.‏ وفريق آخر أهل الكتاب‏:‏ إما نصرانية حائرة ضلت عن سواء السبيل فجعلت الآلهة ثلاثة، واتخذت من أحبارها وقديسيها أربابا من دون الله‏.‏‏.‏‏.‏ وإما يهودية مدمرة عاثت في الأرض فسادا، وأشعلت نار الفتن، ونقضت عهد الله وميثاقه، وتلاعبت بنصوص كتابها حتى حرفتها عن مواضعها‏.‏
وفريق ثالث هم المجوس الذين يعبدون النيران، ويتخذون إلهين أحدهما خالق للخير والثاني خالق للشر بزعمهم‏.‏
وفريق رابع وهم الصابئون الذين يعبدون الكواكب والنجوم ويعتقدون تأثيرها في الأرض‏.‏
وفريق خامس هم الدهرية الذين لا يدينون بدين ولا يؤمنون ببعث ولا حساب‏.‏
هكذا كانت حالة أهل الأرض عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ جهالة جهلاء وضلالة عمياء، فأنقذ الله به من قبل دعوته واستجاب له من الظلمات إلى النور، وأعاد الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهدم الأوثان، ونهى عن الشرك، وسد كل الوسائل الموصلة إليه‏.‏
وإليك بيان الوسائل القولية والفعلية التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها تفضي إلى الشرك‏:‏
1- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلفظ بالألفاظ التي فيها التسوية بين الله وبين خلقه؛ مثل‏:‏ ما شاء الله وشئت، لولا الله وأنت‏.‏‏.‏‏.‏ وأمر بأن يقال بدل ذلك‏:‏ ما شاء الله ثم شئت؛ لأن الواو تقتضي التسوية، وثم تقتضي الترتيب، وهذه التسوية في اللفظ شرك أصغر، وهو وسيلة إلى الشرك الأكبر‏.‏
2- نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيم القبور بالبناء عليها وإسراجها وتجصيصها والكتابة عليها‏.‏
3- نهى عن اتخاذ القبور مساجد للصلاة عندها؛ لأن ذلك وسيلة لعبادتها‏.‏
4- نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لما في ذلك من التشبه بالذين يسجدون لها في هذه الأوقات‏.‏
5- نهى عن السفر إلى أي مكان من الأمكنة بقصد التقرب إلى الله فيه بالعبادة؛ إلا إلى المساجد الثلاثة‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى‏.‏
6- ونهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه، فقال‏:‏ ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله‏)‏ ‏.‏ والإطراء‏:‏ هو المبالغة في المدح‏.‏
7- ونهى صلى الله عليه وسلم عن الوفاء بالنذر- إذا كان في مكان يعبد فيه صنم أو يقام فيه عيد من أعياد الجاهلية-‏.‏
كل هذا حذر منه صيانة للتوحيد، وحفاظا عليه، وسدا للوسائل والذرائع التي تفضي إليه‏.‏
ومع هذا البيان التام من النبي صلى الله عليه وسلم والاحتياط الشديد الذي يبعد الأمة عن الشرك خالف القبوريون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا أمره وارتكبوا ما نهاهم عنه؛ فشيدوا القباب على القبور، وبنوا عليها المساجد، وزينوها بأنواع الزخارف، وصرفوا لها أنواعا من العبادة من دون الله‏.‏
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله‏:‏ ‏"‏ومن جمع بين سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم؛ رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا‏.‏
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها وإليها‏.‏
ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله‏.‏
ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها‏.‏
ونهى أن تتخذ عيدا وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك يجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر‏.‏
وأمر بتسويتها؛ كما روى مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏عن أبي الهياج الأسدي؛ قال‏:‏ ‏(‏قال لي علي رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته‏؟‏‏)‏ وهؤلاء يبالغون في مخالفة الحديث، ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب‏.‏
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه؛ كما روى مسلم عن جابر رضي الله عنه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه‏.‏ ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها؛ كما روى أبو داود في ‏"‏سننه‏"‏عن جابر‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏نهى عن تجصيص القبور وأن يكتب عليها‏)‏ ‏.‏ قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره‏.‏
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها؛ كما روى أبو داود عن جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه‏.‏ وهؤلاء يزيدون عليها الآجر والجص والأحجار‏.‏ قال إبراهيم النخعي‏:‏ ‏"‏كانوا يكرهون الآجر على قبورهم‏"‏‏.‏
والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذين لها أعيادا، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب؛ مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، محادون لما جاء به‏.‏
وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏‏.‏
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله في وصف ما أحدثه عباد القبور في زمانه، وقد زاد الأمر بعده وتطور إلى أشد وأشنع، واعتبر من ينكر ذلك شاذا متشددا متنقصا لحق الأولياء‏.‏‏.‏‏.‏
ومن العجب أنهم يغارون لتنقص حق الأولياء؛ حيث اعتبروا ترك عبادتهم تنقصا لهم، ولا يغارون لتنقص حق الله بالشرك الأكبر، ولا يغارون لتنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخالفة سنته، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏
8- الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في تعظيمه ومدحه، وغيره من باب أولى؛ لأن ذلك يؤدي إلى إشراك المخلوقين في حق الخالق سبحانه وتعالى‏.‏
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله‏)‏ ‏.‏ رواه البخاري ومسلم‏.‏ والإطراء هو مجاوزة الحد في مدحه؛ أي‏:‏ لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام حتى ادعوا فيه الألوهية‏.‏ ‏"‏إنما أنا عبد، فقولوا‏:‏ عبد الله ورسوله‏"‏؛ أي‏:‏ صفوني بذلك ولا تزيدوا عليه؛ فقولوا‏:‏ عبد الله ورسوله، كما وصفني ربي بذلك؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي‏}‏ ‏.‏
فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه، فعظموه بما نهاهم عنه وحذرهم منه، وناقضوه أعظم مناقضة، وشابهوا النصارى في غلوهم وشركهم، وجرى منهم من الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم بما هو صريح الشرك في نثرهم وشعرهم، كقول البوصيري في ‏"‏البردة‏"‏ يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم
وما بعده من الأبيات التي مضمونها توجيه الدعاء والعياذ واللياذ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب تفريج الكربات منه في أضيق الحالات وأشد الصعوبات، ونسي الله عز وجل‏!‏‏!‏
وذلك أن الشيطان زين لهذا الناظم ولأمثاله سوء عملهم، فأظهر لهم هذا الغلو في مدحه -وإن كان شركا أكبر- في قالب حبه وتعظيمه صلى الله عليه وسلم، وأظهر لهم التزام السنة في عدم الغلو به صلى الله عليه وسلم في قالب بغضه وتنقصه‏.‏
وفي الحقيقة إن ارتكاب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من الإفراط في مدحه وترك متابعته في أقواله وأفعاله وعدم الرضى بحكمه هو التنقص الحقيقي له صلى الله عليه وسلم، فلا يحصل تعظيمه ولا تتحقق محبته إلا باتباعه ونصرة دينه وسنته‏.‏
وقد جاء في حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه؛ قال‏:‏ ‏(‏انطلقت مع وفد بني عامر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقلنا أنت سيدنا وابن سيدنا فقال‏:‏ ‏"‏السيد الله تبارك وتعالى‏"‏ فقلنا‏:‏ وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال‏:‏ قولوا بقولكم -أو بعض قولكم-، ولا يستجرينكم الشيطان‏)‏ ‏.‏ رواه أبو داود بسند جيد‏.‏ ففي هذا الحديث منع صلى الله عليه وسلم هؤلاء أن يقولوا له‏:‏ أنت سيدنا، وقال‏:‏ ‏"‏السيد الله تبارك وتعالى‏"‏، ونهاهم أن يقولوا‏:‏ وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا‏!‏ وذلك لأنه خشي عليهم الغلو، وكره أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو، وقال‏:‏ ‏"‏لا يستجرينكم الشيطان‏"‏؛ أي‏:‏ يتخذكم جريا له، والجري الرسول والوكيل، فبين بهذا أن مواجهة المادح للممدوح بالمدح ولو بما فيه أنه من عمل الشيطان؛ لأن ذلك يسبب تعاظم الممدوح، وذلك مما ينافي كمال التوحيد؛ كما أنه قد يسبب غلو المادح حتى ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها‏.‏
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إطرائه، والإطراء هو الزيادة في المدح حتى يفضي ذلك إلى الشرك به ووصفه بأوصاف الربوبية؛ كما حصل في كثير من المدائح النبوية التي نظمها بعض الغالين؛ كصاحب ‏"‏البردة‏"‏وغيره، مما جرهم إلى الشرك الأكبر؛ كقول صاحب ‏"‏البردة‏"‏‏:‏
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم
وقوله‏:‏
فإن من جودك الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم
والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية؛ صار يكره أن يمدح؛ صيانة لمقام العبودية، وحماية للعقيدة، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك؛ نصحا لها، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه من الشرك ووسائله، ومن ذلك نهيه لهؤلاء أن يقولوا له‏:‏ أنت سيدنا، والسيد مأخوذ من السؤدد‏.‏
قال ابن الأثير في ‏"‏النهاية‏"‏‏:‏ ‏"‏والسيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم‏"‏، وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث‏:‏ ‏"‏السيد الله‏"‏؛ يريد أن السؤدد حقيقة لله عز وجل، وأن الخلق كلهم عبيد له، والسيد إذا أطلق على الله تعالى، فهو بمعنى المالك والمولى والرب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏الله الصمد‏"‏، أي‏:‏ السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد‏"‏‏.‏
قال ابن الأثير رحمه الله‏:‏ ‏"‏فيه أنه جاء رجل من قريش، فقال‏:‏ أنت سيد قريش‏!‏ فقال‏:‏ ‏"‏السيد الله‏"‏؛ أي‏:‏ هو الذي تحق له السيادة، كأنه كره أن يحمد في وجهه وأحب التواضع‏.‏ وحديث‏:‏ ‏(‏أنا سيد ولد آدم ولا فخر‏)‏ ‏:‏ قاله إخبارا عما أكرمه الله به من الفضل والسؤدد، وتحدثا بنعمة الله تعالى عليه، وإعلاما لأمته؛ ليكون إيمانهم به على حسبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله‏:‏ ‏"‏ولا فخر‏"‏؛ أي‏:‏ إن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله، ولم أنلها من قبل نفسي، ولا بلغتها بقوتي؛ فليس لي أن أفتخر بها‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏اهـ‏.‏ فهو صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم كما أخبر بذلك، لكن لما واجهه هؤلاء بهذا اللفظ؛ نهاهم عنه؛ خوفا من الغلو الذي يفضي بهم إلى الشرك‏.‏ ومما يوضح هذا الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏أن ناسا قالوا يا خيرنا وابن خيرنا‏!‏ وسيدنا وابن سيدنا‏!‏ فقال يا أيها الناس‏!‏ قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل‏)‏ ‏.‏ رواه النسائي بسند جيد‏.‏
ففي هذا الحديث ما يبين أنه نهاهم أن يقولوا يا سيدنا خشية عليهم من الغلو في حقه، فسد هذا الطريق من أساسه، وأرشدهم أن يصفوه بصفتين هما أعلى مراتب العبودية، وقد وصفه الله بهما في مواضع من كتابه، وهما قوله‏:‏ عبد الله ورسوله، ولم يحب أن يرفعوه فوق ما أنزله الله عز وجل حماية للتوحيد‏.‏
وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏
كقوله‏:‏ ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله‏)‏ ‏.‏
وقوله‏:‏ ‏(‏إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل‏)‏ ‏.‏

ونهى عن التمادح وشدد فيه؛ كقوله لمن مدح إنسانا‏:‏ ‏(‏ويلك‏!‏ قطعت عنق صاحبك‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إذا لقيتم المداحين؛ فاحثوا في وجوههم التراب‏)‏ ‏.‏ وذلك لما يخاف على المادح من الغلو، وعلى الممدوح من الإعجاب، وكلاهما يؤثران على العقيدة‏.‏
بقي أن يقال‏:‏ هل يجوز أن يقال للمخلوق‏:‏ سيد‏؟‏
قال العلامة ابن القيم‏:‏ ‏"‏اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له‏:‏ يا سيدنا‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏السيد الله تبارك وتعالى‏)‏ ‏.‏ وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار‏:‏ ‏(‏قوموا إلى سيدكم‏)‏، وهذا أصح من الحديث الأول‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏ انتهى‏.‏
قال الشارح‏:‏ ‏"‏وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار‏:‏ ‏"‏قوموا إلى سيدكم‏"‏؛ فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعدا به، فيكون في هذا المقام تفصيل‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏
وكأنه يقصد بالتفصيل أنه لا يجوز أن يواجه الإنسان ويقال له‏:‏ يا سيد‏!‏ من باب المدح، ويجوز أن يقال هذا في حقه إذا كان غائبا وكان ممن يستحق هذا الوصف جمعا بين الأدلة‏.‏ والله أعلم‏.‏
9- الغلو في الصالحين‏:‏ إذا كان الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم ممنوعا؛ فالغلو في حق غيره من الصالحين من باب أولى‏.‏
والمراد بالغلو في الصالحين‏:‏ رفعهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إلى ما لا يجوز إلا لله؛ من الاستغاثة بهم في الشدائد، والطواف بقبورهم، والتبرك بتربتهم، وذبح القرابين لأضرحتهم، وطلب المدد منهم‏.‏
وقد أدخل الشيطان الشرك على قوم نوح من باب الغلو في الصالحين، فيجب الحذر من ذلك، وإن كان القصد حسنا‏.‏
وقد وقع في هذه الأمة مثل ما وقع لقوم نوح لما أظهر الشيطان لكثير من المفتونين الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ليوقعهم فيما أوقع به قوم نوح؛ فما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف على قبور الصالحين يعتبر محبة لهم، وأن الدعاء عند قبورهم يستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء والتوسل بها، فإذا ألفوا ذلك، نقلهم منه إلى دعاء المقبورين وعبادتهم وسؤالهم الشفاعة من دون الله عز وجل، فتصبح قبورهم أوثانا تعلق عليها القناديل وتسدل عليها الستور ويطاف بها وتستلم وتقبل، فإذا ألفوا ذلك؛ نقلهم إلى أن يدعوا الناس إلى عبادة هذه القبور واتخاذها أعيادا ومناسك، فإذا ألفوا ذلك وتقرر عندهم، نقلهم إلى اعتقاد أن من نهى عنه فقد تنقص الأولياء وأبغضهم وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر لهم‏.‏
وقد سرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم؛ فعلوا ذلك كله تحت ستار حب الصالحين وتعظيمهم، وقد كذبوا في ذلك؛ لأن محبة الصالحين على الحقيقة تكون على وفق الكتاب والسنة، وذلك بمعرفة فضلهم والاقتداء بهم في الأعمال الصالحة من غير إفراط ولا تفريط‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏.‏ قال شيخ الإسلام ابن تيمية‏:‏ ‏"‏فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول‏:‏ يا سيدي فلان‏!‏ انصرني، أو‏:‏ أغثني، أو‏:‏ ارزقني، أو‏:‏ أنا في حسبك‏.‏‏.‏‏.‏ ونحو هذه من الأقوال؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه؛ قإن تاب، وإلا؛ قتل، فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له ولا يدعى معه إله آخر، والذين يدعون مع الله إلها آخر مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم ويقولون‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله سبحانه رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة‏.‏‏.‏‏.‏‏"‏انتهى كلام الشيخ رحمه الله، وبه يتضح كشف شبهة هؤلاء القبوريين، الذين يبررون فعلهم هذا بأنهم لا يعتقدون في الأولياء مشاركة الله في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإنما يعتقدون فيهم أنهم وسائط بينهم وبين الله في قضاء حاجاتهم وتفريج كربتهم، وهي نفس الشبهة التي قالها مشركو الجاهلية؛ كما ذكرها الله في كتابه وأبطلها‏.‏
والواقع أن شرك هؤلاء المتأخرين زاد على شرك الجاهلية، فصاروا يهتفون بأسماء هؤلاء الأموات في كل مناسبة، ولا يذكرون اسم الله إلا قليلا، وإنما يجري على ألسنتهم اسم الولي دائما، والأولون كانوا يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، وهؤلاء شركهم دائم في الرخاء والشدة؛ كما قال الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله‏:‏
وكم هتفوا عند الشدائد باسمها ** كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
فيا علماء المسلمين‏!‏ أنتم المسئولون عن هذه القطعان الضائعة والتائهة في الضلال‏.‏‏.‏‏.‏
لماذا لا تبينون لهم طريق الحق وتنهونهم عن هذا الشرك العظيم وأنتم تسكنون معهم وتخالطونهم‏؟‏‏!‏
لماذا ضيعتم ما أوجب الله عليكم من الدعوة والبيان بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ‏}‏ ‏؟‏‏!‏
أليس العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء جاءوا بإنكار هذا الشرك وجهاد أهله حتى يكون الدين كله لله‏؟‏‏!‏
فاتقوا الله الذي حملكم هذه المسئولية وسيسألكم عنها؛ فقد ورد في الحديث الصحيح أن العالم الذي لا يعمل بعلمه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة‏.‏
إن كنتم ترون هذا شركا وتركتم الناس عليه؛ فهذا أمر خطير، وإن كنتم لا ترونه شركا؛ قالأمر أشد خطرا؛ لأنكم جهلتم ما هو من أوضح الواضحات‏!‏
اللهم‏!‏ أصلح أحوال المسلمين، واهد ضلالهم؛ إنك على كل شيء قدير‏.‏
10- التصوير وسيلة إلى الشرك‏:‏
والتصوير معناه نقل شكل الشيء وهيئته بواسطة الرسم أو الالتقاط بالآلة أو النحت وإثبات هذا الشكل على لوحة أو ورقة أو تمثال‏.‏
وكان العلماء يتعرضون للتصوير في مواضيع العقيدة؛ لأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك وادعاء المشاركة لله بالخلق أو المحاولة لذلك، وأول شرك حدث في الأرض كان بسبب التصوير حينما أقدم قوم نوح على تصوير الصالحين ونصب صورهم على المجالس‏.‏
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن التصوير بجميع أنواعه، ونهى عنه، وتوعد من فعله بأشد الوعيد، وأمر بطمس الصور وتغييرها؛ لأن التصوير فيه مضاهاة لخلق الله عز وجل الذي انفرد بالخلق؛ فهذا الإنسان المصور يحاول أن يضاهي الله عز وجل فيما انفرد به من الخلق، ولأن التصوير وسيلة من وسائل الشرك؛ فأول حدوث الشرك في الأرض كان بسبب التصوير، لما زين الشيطان لقوم نوح تصوير الصالحين، ونصب صورهم على المجالس لأجل تذكر أحوالهم والاقتداء بهم في العبادة، حتى آل الأمر إلى عبادة تلك الصور، واعتقاد أنها تنفع وتضر من دون الله‏.‏
فالتصوير هو منشأ الوثنية؛ لأن تصوير المخلوق تعظيم له وتعلق به في الغالب، خصوصا إذا كان المصور له شأن من سلطة أو علم أو صلاح، وخصوصا إذا عظمت الصورة بنصبها على حائط أو إقامتها في شارع أو ميدان؛ فإن ذلك يؤدي إلى التعلق بها من الجهال وأهل الضلال، ولو بعد حين، ثم هذا أيضا فيه فتح باب لنصب الأصنام والتماثيل التي تعبد من دون الله‏.‏
وسأورد الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا الموضوع مع التعليق عليها بما تيسر‏:‏
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قال الله تعالى‏:‏ ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؛ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة‏)‏ ‏.‏ أخرجه البخاري ومسلم‏.‏
ومعناه‏:‏ لا أحد أشد ظلما من المصور؛ لأنه لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله من إنسان أو بهيمة أو غيرهما من ذوات الأرواح؛ صار مضاهيا لخلق الله الذي هو خالق كل شيء، وهو رب كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها حياتها؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ‏}‏
ثم إن الله تحدى هؤلاء المصورين الذين يحاولون مضاهاة خلقه أن يوجدوا في تلك الصور التي صوروها أرواحا تحيا بها كما في المخلوق الذي صوروا، وهذا بيان لعجزهم وفشلهم في محاولتهم، وكما أنهم عاجزون عن إيجاد حيوان ذي روح؛ فهم عاجزون عن إيجاد الثمر والحب؛ فليخلقوا حبة‏.‏
2- وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله‏)‏ ‏.‏ فهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بشدة عذاب المصورين يوم القيامة وسوء عاقبتهم، وإن عاشوا في هذه الدنيا سالمين، وسموا فنانين، وشجعوا بأنواع التشجيع؛ فإن لهم مصيرا ينتظرهم إذا لم يتوبوا؛ لأنهم بعملهم هذا يضاهون بخلق الله؛ أي‏:‏ يشابهون بما يصنعونه من الصور ما صنعه الله من الخلق وتفرد به وهو الخلاق العليم‏.‏ ‏{‏أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‏}‏ قال الإمام النووي رحمه الله على هذا الحديث‏:‏ ‏"‏قيل‏:‏ هذا محمول على صانع الصورة لتعبد، وهو صانع الأصنام ونحوها؛ فهذا كافر، وهو أشد الناس عذابا‏.‏ وقيل‏:‏ هو فيمن قصد هذا المعنى الذي في الحديث من مضاهاته خلقه، واعتقد ذلك؛ فهذا كافر أيضا، وله من شدة العذاب ما للكافر، ويزيد عذابه بزيادة كفره‏.‏ فأما من لم يقصد بها العبادة ولا المضاهاة؛ فهو فاسق صاحب ذنب كبير لا يكفر‏"‏‏.‏
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله‏:‏ ‏"‏وإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله من الحيوان؛ فكيف بمن سوى المخلوق برب العالمين، وصرف له شيئا من العبادة‏.‏
3- وروى البخاري ومسلم رحمهما الله عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم‏)‏ ‏.‏
ومعناه‏:‏ أنه في يوم القيامة تحضر جميع الصور التي صورها في الدنيا، ويجعل في كل واحدة منه نفس يعذب بها في جهنم، قلت الصور أم كثرت، فيقاسي عذابها، بحيث يكون من كل صورة شخص يعذب به في جهنم‏"‏‏.‏
4- وروى البخاري ومسلم رحمهما الله عن ابن عباس أيضا‏:‏ ‏"‏من صور صورة، كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ‏"‏‏.‏
وهذا نوع آخر من العذاب للمصور، ومعناه واضح، وهو أن المصور تحضر أمامه جميع الصور التي صورها في الدنيا، ثم يؤمر أن ينفخ في كل واحدة منها الروح، وأنى له ذلك، و ‏{‏الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ ، وإنما هذا تعذيب له وتعجيز له؛ لأنه يكلف ما لا يطيق، فيكون معذبا دائما‏.‏ فالحديث يدل على طول تعذيبه وإظهار عجزه عما كان يتعاطاه في دنياه من مضاهاة خلق الله‏.‏
5- وروى مسلم رحمه الله عن أبي الهياج؛ قال‏:‏ ‏(‏قال لي علي رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته‏)‏ ‏.‏
ففي هذا الحديث الأمر بطمس الصور، وهو تغييرها عن هيئتها، حتى لا تبقى على حالها المشابهة لخلق الله، وفيه الأمر بهدم المباني المقامة على القبور من قباب ومساجد وغيرها من مظاهر الوثنية‏.‏
ففي هذا الحديث الأمر بالقضاء على وسيلتين من أكبر وسائل الشرك وذرائعه المفضية إليه، هما التصوير والبناء على القبور، وهذا وأمثاله من أكبر مصالح الدين وحماية عقيدة المسلمين‏.‏
وقد كثر في زماننا هذا التصوير واستعماله ونصب الصور بتعليقها والاحتفاظ بالصور التذكارية‏(2)، وكثر أيضا في هذا الزمان البناء على القبور، حتى صار ذلك أمرا مألوفا، وذلك بسبب غربة الدين، وخفاء السنن، وظهور البدع، وسكوت كثير من العلماء، واستسلامهم للأمر الواقع، حتى أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا في غالب البلدان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏
فالواجب التنبيه والنصيحة لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم، خصوصا وأن دعاة الضلال والمروجين للباطل كثيرون؛ فلا بد من كشف زيفهم ورد ضلالهم وتبصير المسلمين بشرهم حتى يحذروهم‏.‏ وفق الله المسلمين للعمل بكتابه وسنة رسوله‏.‏
nourmanal
nourmanal

نقض شبهات المشركين التي يتعلقون بها في تبرير شركهم في توحيد الإلهية

إنه بسبب رواج الشبه والحكايات التي ضل بها أكثر الناس واعتبروها أدلة يستندون إليها في تبرير ضلالتهم وشركهم؛ استمرءوا ما هم عليه، فكان لا بد من كشف زيفها وبيان بطلانها؛ ‏{‏لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ‏}‏ وهذه الشبه منها ما هو قديم أدلى به المشركون من الأمم السابقة، ومنها ما أدلى به مشركو هذه الأمة، ومن هذه الشبه‏:‏
أولا‏:‏
شبهة تكاد تكون مشتركة بين طوائف المشركين في مختلف الأمم، وهي شبهة الاحتجاج بما كان عليه الآباء والأجداد، وأنهم ورثوا هذه العقيدة خلفا عن سلف، كما قال الله تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ‏}‏ وهذه حجة يلجأ إليها من يعجز عن إقامة الدليل على دعواه، وهي حجة داحضة، لا يقام لها وزن في سوق المناظرة؛ فإن هؤلاء الآباء الذين قلدوهم ليسوا على هدى، ومن كان كذلك؛ لا تجوز متابعته والاقتداء به‏.‏
قال تعالى ردا عليهم‏:‏ ‏{‏قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ‏}‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ‏}‏ وإنما يكون الاقتداء بالآباء محمودا إذا كانوا على حق‏:‏
كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ‏}‏
وشبهة الاحتجاج بما كان عليه الآباء الضالون متغلغلة في نفوس المشركين، يقابلون بها دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏:‏
فقوم نوح لما قال لهم نوح‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ‏}‏ ، فجعلوا ما عليه آباءهم حجة يعارضون بها ما جاءهم به نبيهم نوح عليه السلام‏.‏
وقوم صالح عليه السلام يقولون له‏:‏ ‏{‏أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا‏}‏ وقوم إبراهيم يقولون له‏:‏ ‏{‏بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏ وفرعون يقول لموسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى‏}‏
ومشركو العرب يقولون لمحمد صلى الله عليه وسلم لما قال لهم‏:‏ قولوا‏:‏ لا إله إلا الله‏!‏ قالوا‏:‏ ‏{‏مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ‏}‏
ثانيا‏:
ومن الشبه التي يدلي بها عباد القبور اليوم ظنهم أن مجرد النطق بلا إله إلا الله يكفي لدخول الجنة، ولو فعل الإنسان ما فعل؛ فإنه لا يكفر وهو يقول‏:‏ لا إله إلا الله، متمسكين بظواهر الأحاديث التي ورد فيها أن من نطق بالشهادتين حرم على النار‏.‏
والجواب عن هذه الشبهة‏:‏ أن هذه الأحاديث ليست على إطلاقها، وإنما هي مقيدة بأحاديث أخرى جاء فيها أنه لا بد لمن قال‏:‏ لا إله إلا الله‏:‏ أن يعتقد معناها بقلبه ويعمل بمقتضاها فيكفر بما يعبد من دون الله‏.‏
كما في حديث عتبان‏:‏ ‏(‏فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله‏)‏ ‏.‏ وإلا؛ فالمنافقون يقولون‏:‏ لا إله إلا الله بألسنتهم، وهم في الدرك الأسفل من النار، ولم ينفعهم النطق بلا إله إلا الله؛ لأنهم لا يعتقدون ما دلت عليه بقلوبهم‏.‏
وفي ‏"‏صحيح مسلم‏"‏‏:‏ ‏(‏من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله‏)‏ ‏.‏ فعلق النبي صلى الله عليه وسلم حرمة المال والدم على أمرين‏:‏ الأول‏:‏ قول لا إله إلا الله، والثاني‏:‏ الكفر بما يعبد من دون الله، ولم يكتف بمجرد النطق بلا إله إلا الله، فدل على أن الذي يقول لا إله إلا الله ولا يترك عبادة الموتى والتعلق بالأضرحة؛ لا يحرم ماله ولا دمه‏.‏
ثالثا‏:
ومن الشبه التي يدلون بها أيضا‏:‏ دعواهم أنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية شرك وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن هذا الذي يمارسونه عند الأضرحة من عبادة الموتى ودعائهم من دون الله لا يسمى شركا عندهم‏.‏
والجواب عن هذه الشبهة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون في هذه الأمة مشابهة لليهود والنصارى فيما هم عليه، ومن جملة ذلكم اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنها لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمته بالمشركين، وحتى تعبد فئات من أمته الأوثان، وقد حدث في هذه الأمة من الشرك والمبادئ الهدامة والنحل الضالة ما خرج به كثير من الناس عن دين الإسلام، وهم يقولون لا إله إلا الله‏.‏‏.‏‏.‏
رابعا‏:
ومن الشبه التي تعلقوا بها قضية الشفاعة؛ حيث يقولون‏:‏ نحن لا نريد من الأولياء والصالحين قضاء الحاجات من دون الله، ولكن نريد منهم أن يشفعوا لنا عند الله، لأنهم أهل صلاح ومكانة عند الله؛ فنحن نريد بجاههم وشفاعتهم‏.‏
والجواب‏:‏ أن هذا هو عين ما قاله المشركون من قبل في تبرير ما هم عليه، وقد كفرهم الله وسماهم مشركين؛ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ والشفاعة حق، ولكنها ملك لله وحده؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا‏}‏ ؛ فهي تطلب من الله لا من الأموات؛ لأن الله لم يرخص في طلب الشفاعة من الملائكة ولا من الأنبياء ولا غيرهم؛ لأنها ملكه سبحانه، وتطلب منه؛ ليأذن للشافع أن يشفع، وليس الأمر كما هو عند المخلوقين من تقدم الشفعاء لديهم بدون إذنهم، ويضطرون إلى قبول الشفاعة لحاجتهم إليهم، وإن لم يرضوا عن المشفوع فيه؛ لأنهم يحتاجون إلى الأعوان والوزراء، أما الله سبحانه؛ فلا يشفع أحد إلا بإذنه ورضاه عن المشفوع فيه؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى‏}‏ خامسا‏:
ومن شبه هؤلاء أنهم يقولون‏:‏ إن الأولياء والصالحين لهم مكانة عند الله، ونحن نسأل الله بجاههم ومكانتهم‏.‏
والجواب‏:‏ أن المؤمنين كلهم أولياء الله، ولكن الجزم بشخص معين أنه ولي لله يحتاج إلى دليل من الكتاب والسنة، ومن ثبت ولايته بالكتاب والسنة؛ لم يجز لنا الغلو فيه والتبرك به؛ لأن ذلك من وسائل الشرك، والله أمرنا بدعائه مباشرة دون اتخاذ وسائط بيننا وبينه، ولأن هذا هو التعليل الذي علل به المشركون من قبل أنهم اتخذوا هؤلاء شفعاء ووسائط بينهم وبين الله يسألون الله بجاههم وقربهم، فأنكر الله عليهم ذلك‏.‏
nourmanal
nourmanal

بيان أنواع من الشرك الأكبر

الشرك نوعان‏:‏ شرك أكبر وشرك أصغر، والشرك الأكبر ينافي التوحيد ويخرج من الملة، وله أنواع كثيرة سبق بيان بعضها بما يمارس حول الأضرحة، وهناك أنواع أخرى منها‏:‏
1- الشرك في الخوف
الخوف كما عرفه العلماء‏:‏ توقع مكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة، وهو ثلاثة أقسام‏:‏

الأول‏:‏ خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أو ميت أو غائب من جن أو إنس أن يصيبه بما يكره؛ كما قال الله عن قوم هود عليه السلام‏:‏ إنهم قالوا له‏:‏ ‏{‏إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ‏}‏ وقد خوف المشركون رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم من أوثانهم؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏}‏
وهذا الخوف من غير الله هو الواقع اليوم من عباد القبور وغيرها من الأوثان؛ يخافونها، ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله‏.‏
وهذا النوع من الخوف من أهم أنواع العبادة، يجب إخلاصه لله وحده؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ‏}‏ وهذا الخوف من أعظم مقامات الدين وأجلها؛ فمن صرفه لغير الله؛ فقد أشرك بالله الشرك الأكبر والعياذ بالله‏.‏
الثاني‏:‏ من أنواع الخوف أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفا من بعض الناس؛ فهذا محرم، وهو شرك أصغر، وهذا هو المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{ا‏لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏
وهذا أيضا هو الخوف المذكور في الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يحقر أحدكم نفسه‏!‏ قالوا يا رسول الله‏!‏ كيف يحقر أحدنا نفسه‏؟‏ قال يرى أمرا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة ما منعك أن تقول في كذا وكذا‏؟‏ فيقول خشية الناس فيقول الله عز وجل فإياي كنت أحق أن تخشى‏)‏ ‏.‏ الثالث‏:

من أنواع الخوف‏:‏ الخوف الطبيعي، وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك؛ فهذا ليس بمذموم؛ كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ‏}‏ أما النوع الأول الذي هو خوف السر؛ فهو من أعظم أنواع العبادة؛ فيجب إخلاصه لله عز وجل‏.‏ وكذلك النوع الثاني؛ فهو من حقوق العبادة ومكملاتها‏.‏
ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ‏}‏ ‏:‏ أن يخوفكم بأوليائه‏.‏ ‏{‏فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ‏}‏ ‏:‏ نهي من الله للمؤمنين أن يخافوا غيره، وأمر لهم أن يقصروا خوفهم عليه؛ فإذا أخلصوا الخوف وجميع أنواع العبادة؛ أعطاهم ما يريدون وأمنهم مما يخافون‏.‏
قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ‏}‏

قال الإمام ابن القيم‏:‏ ‏"‏ومن كيد عدو الله أن يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف ولا ينهوهم عن منكر، وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه، ونهانا أن نخافهم، فكلما قوي إيمان العبد؛ زال منه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه؛ قوي خوفه منهم، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ‏}
فأخبر سبحانه أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا بجوارحهم وأخلصوا له الخشية دون سواه، فأثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين؛ لأن عمارة المسجد لا تكون إلا بالطاعة والعمل الصالح، والمشرك وإن عمل؛ فعمله ‏{‏كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا‏}‏ ، أو ‏{‏كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ‏}‏ وما كان كذلك؛ فالعدم خير منه؛ فلا تكون المساجد عامرة عمرانا صحيحا إلا بالعمل الصالح المؤسس على الإخلاص والتوحيد والعقيدة الصحيحة الخالية من الشرك والبدع والخرافات، وليس عمارتها بالطين والزخرفة وفخامة البناء فقط، أو إشادتها على القبور؛ فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك‏.‏
وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ‏}‏ ؛ قال ابن عطية‏:‏ ‏"‏يريد‏:‏ خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية‏"‏‏.‏
وقد كتب معاوية رضي الله عنه إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يطلب منها أن تكتب له كتابا توصيه فيه ولا تكثر عليه، فكتبت له عائشة رضي الله عنها ما نصه‏:‏ إلى معاوية، سلام عليك، أما بعد؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من التمس رضى الله بسخط الناس، كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله‏؟‏ وكله الله إلى الناس‏)‏ ‏.‏
والسلام‏.‏ رواه أبو نعيم في الحلية، ورواه ابن حبان في ‏"‏صحيحه‏"‏بلفظ‏:‏ ‏(‏من التمس رضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله؛ سخط الله عليه وأسخط عليه الناس‏)‏ ‏.‏
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ ‏"‏وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته‏:‏ ‏(‏من أرضى الله بسخط الناس؛ كفاه مؤونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله؛ لم يغنوا عنه من الله شيئا‏)‏ ‏.‏ هذا لفظ المرفوع‏.‏
ولفظ الموقوف‏:‏ ‏"‏من أرضى الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله؛ عاد حامده من الناس له ذاما ‏"‏‏
.‏
وهذا من أعظم الفقه في الدين؛ فإن من أرضى الله بسخطهم، كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كاف عبده، ‏{‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏}‏ ، والله يكفيه مؤونة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه؛ فقد لا يحصل ذلك، ولكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة‏.‏ ومن أرضى الناس بسخط الله؛ لم يغنوا عنه من الله شيئا؛ كالظالم الذي يعض على يديه، وأما كون حامده ينقلب ذاما؛ فهذا يقع كثيرا، ويحصل في العاقبة؛ فإن العاقبة للتقوى، ولا تحصل ابتداء عند أهوائهم‏"‏‏.‏ انتهى كلامه رحمه الله‏.‏
ومن هذا الحديث برواياته يتبين أن الإنسان إذا كان يطلب بعمله إرضاء الله بما يسخط الناس؛ حصل على مصلحتين عظيمتين‏:‏ رضى الله تعالى ورضى الناس، ومن كان بالعكس يطلب بعمله إرضاء الناس بما يسخط الله عز وجل، حصل له مضرتان‏:‏ سخط الله وسخط الناس، فدل على أن إرضاء الله تعالى يجمع الخير كله، وأن إرضاء الناس بما يسخط الله يجمع الشر كله‏.‏ نسأل الله العافية والسلامة‏.‏
هذا ويجب أن نعلم أن الخوف من الله سبحانه يجب أن يكون مقرونا بالرجاء والمحبة؛ بحيث لا يكون خوفا باعثا على القنوط من رحمة الله؛ فالمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، بحيث لا يذهب مع الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله، ولا يذهب مع الرجاء فقط حتى يأمن من مكر الله؛ لأن القنوط من رحمة الله والأمن من مكره ينافيان التوحيد‏:‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏
وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ‏}‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ‏}‏
قال إسماعيل بن رافع‏:‏ ‏"‏من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة‏"‏‏.‏
وقال العلماء‏:‏ القنوط‏:‏ استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلاهما ذنب عظيم‏.‏

فلا يجوز للمؤمن أن يعتمد على الخوف فقط حتى يقنط من رحمة الله، ولا على الرجاء فقط حتى يأمن من عذاب الله، بل يكون خائفا راجيا؛ يخاف ذنوبه، ويعمل بطاعة الله، ويرجو رحمته؛ كما قال تعالى عن أنبيائه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ‏}‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏
والخوف والرجاء إذا اجتمعا؛ دفعا العبد إلى العمل وفعل الأسباب النافعة؛ فإنه مع الرجاء يعمل الطاعات رجاء ثوابها، ومع الخوف يترك المعاصي خوف عقابها‏.‏ أما إذا يئس من رحمة الله؛ فإنه يتوقف عن العمل الصالح، وإذا أمن من عذاب الله وعقوبته؛ فإنه يندفع إلى فعل المعاصي‏.‏
قال بعض العلماء‏:‏ من عبد الله بالحب وحده؛ فهو صوفي، ومن عبده بالخوف وحده؛ فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده؛ فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء؛ فهو مؤمن، كما وصف الله بذلك خيرة خلقه حيث يقول سبحانه‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ‏}‏
وقد وصف الله الذين أهملوا جانب الخوف واندفعوا في المعاصي، وأمنوا من العقوبة بأنهم الخاسرون، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏
ومعنى الآيات‏:‏ أن الله لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل المتمادين في الكفر والمعاصي؛ ذكر أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من مكر الله وعدم الخوف منه، ومكر الله هو أنه إذا عصاه العبد وأغضبه؛ أنعم عليه بأشياء يظن العبد أنها من رضى الله عنه، وهي استدراج له؛ فهؤلاء الكفرة أمنوا مكر الله بهم لما استدرجهم بالسراء والنعم وعصوا رسلهم وتمادوا في المعاصي حتى أهلكهم الله‏.‏
وحذر من جاء بعدهم أن يفعل مثل فعلهم فيصيبه ما أصابهم، فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ‏}‏ قال بعض العلماء‏:‏ خوف العبد ينشأ من أمور هي‏:‏
* أولا‏:‏ معرفته بالجناية وقبحها‏.‏
* ثانيا‏:‏ تصديقه بالوعيد، وأن الله رتب على المعصية عقوبتها‏.‏
* ثالثا‏:‏ كونه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب‏.‏
وبهذه الثلاثة يتم له الخوف قبل الذنب وبعده ويكون خوفه أشد‏.‏
وكان الأنبياء عليهم السلام لا ينقطع أملهم بالله أبدا، ولا ييأسون من رحمة الله في جميع الأحوال، مهما اشتد الخطب وضعفت الأسباب‏:‏
فهذا خليل الله إبراهيم لما بشرته الملائكة بالولد مع كبر سنه وحال زوجه التي يستبعد معها حصول الولد، قال عند ذلك‏:‏ ‏{‏قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ‏}‏ ؛ لأنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم، لكنه قال للملائكة‏:‏ ‏{‏قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ‏}‏ ، قال ذلك على وجه التعجب والتفكر في عظيم قدرة الله ورحمته‏.‏
وهذا نبي الله يعقوب عليه السلام لما اشتد به الأمر وتأزم الحال بفراق بنيه؛ عظم رجاؤه بالله وطمعه برحمته، وقال لبنيه الحاضرين عنده‏:‏ ‏{‏يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأََسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا‏}‏ وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال الله عنه‏:‏ ‏{‏إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا‏}‏ ، فعظم رجاؤه عند الشدة، ويقول‏:‏ ‏(‏واعلم أن الفرج مع الكرب‏)‏ ‏.‏
والله سبحانه ينهى عباده الذين كثرت ذنوبهم وعظمت جرائمهم أن يحملهم ذلك على القنوط من رحمته وترك التوبة منها؛ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ‏}‏ ؛ فنهى سبحانه عباده أن تحملهم كثرة ذنوبهم على ترك التوبة واليأس من المغفرة‏.‏
وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم اليأس من روح الله من الكبائر‏:‏
فعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر‏؟‏ فقال الإشراك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله‏)‏ ‏.‏
وعن ابن مسعود؛ قال‏:‏ أكبر الكبائر‏:‏ الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله‏.‏
لأن القنوط من رحمة الله‏:‏ سوء ظن بالله، وجهل بسعة رحمته ومغفرته‏.‏ والأمن من مكر الله‏:‏ جهل بالله وبقدرته، وثقة بالنفس وإعجاب بها‏.‏
وفي ذلك تنبيه على أن يكون العبد دائما بين الخوف والرجاء؛ فإذا خاف، فلا يقنط ولا ييأس، بل يرجو رحمة الله‏.‏ وإذا رجا؛ فلا يتمادى به الرجاء حتى يأمن العقوبة‏.‏
وكان بعض السلف يستحبون للعبد أن يقوي في حال الصحة جانب الخوف، وفي حالة المرض وعند الموت يقوي جانب الرجاء‏.‏
فتوازن القلب بين الخوف والرجاء يدفع على العمل الصالح والبعد عن المعاصي والتوبة من الذنوب، أما إذا اختل توازن القلب فمال إلى جانب واحد، فإن هذا مما يعطل حركة العمل ويعرقل سبيل التوبة ويوقع في الهلاك‏.‏
وفيما قصه الله عن الأمم السابقة التي عطلت جانب الخوف فحل بها عقاب الله خير مذكر لأهل الإيمان‏:‏
فها هم قوم هود يقولون له‏:‏ ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ‏}‏ والخوف والرجاء من أعظم أنواع العبادة؛ فيجب إخلاصهما لله عز وجل، والإخلال بهما إخلال بالتوحيد وإفساد للعقيدة‏.‏