رسالة جوابية إلى طالبةٍ جامعية

ملتقى الإيمان

بسم الله الرحمن الرحيم


أيْبنيتي :

تلقيترسالتك الأولى المفعمة بمزيج من مشاعر الأسى والمعاناة ، المشحونة بعديد من القضاياوالمشاكل المتشابكة ، وأشفقت على عقلك الفتي , وذهنك الغض من وقع هذه المعضلات ،وثقل هذه الضغوط المتراكمة ...

وعزمتأن أسطر هذه الصفحات ، محاولا إزاحة كابوسها , مضيئاً لكِ الطريق في بعض دهاليزهاالمظلمة ... عسى أن تنجلي الغمة ، وتصفو النفس ، ويصلح الحال . والله المستعان .

ولكني، بادئ ذي بدء ، ورغم كل ما ذكرتِ ، أود أن أهنئك ! نعم أهنئك ، بل إنني أحمل باقةمن التهاني الكبيرة :

أولها: على نعمة الإسلام ، أعظم نعمة ؛ أن تحدرت من أبوين مسلمين ، لتكوني بإذن الله منخير أمة أخرجت للناس .

الثانية: على منة الإيمان وحلاوته ، وزينته في قلبك ، رغم ما تنعين به على نفسك من تقصير، وتجلدين به ظهرك من سياط التقريع ، فأنت تتفيئين دوحة الإيمان ، شعرت أم لمتشعري .

الثالثة: نعمة العلم والعرفان ، فقد أخرجك الله من بطن أمك لا تعلمين شيئاً ، وجعل لكالسمع والبصر والفؤاد ...

فلمتزالي تترقي في سلم العلم حتى بلغت هذا المبلغ .. وصرت طالبة جامعية ، يشار إليكبالبنان . فهنيئاً لك ثم هنيئاً .

أيْبنيتي :

تقولينإنك تعانين من " الفراغ " ! والفراغ هوة سحيقة ، وصحراء دويَّة ، يفقدالمرء فيه صوابه ، وتنعدم فيه الجاذبية ، فإذا هو يتأرجح يمنةً ويسرة بلا ضابط ولاميزان !

وكلذلك صحيح .. لكني أزيده إيضاحا فأقول :

الفراغيا بنيتي نوعان : فراغ عملي , وفراغ روحي .

فالفراغالعملي : يعني الخلو من الأعمال والالتزامات والمهام اليومية .

والفراغالروحي : يعني الخلو من الأهداف والمقاصد والاهتمامات المعنوية .

والثانيأشد خطراً من الأول ، بل هو من أشد أسبابه .

وياعجباً ! كيف يفرغ المؤمن !

إنعليك في هذه المرحلة أن تنصبي لنفسك جملة من الأهداف المعنوية لتملأ كيانك ،وتشعرك أن للحياة معنى :

أحدها: عبادة الله ، التي لأجلها خلق الله الإنس والجن ، و أقام عليها سوق الجنة والنار. إنك _ يا رعاك الله _ تَجْرِين في مضمار فسيح يفضي إلى الدار الآخرة ، فاغتنميعمرك وشبابك ، وصحتك ، وفراغك ، بالأعمال الصالحة التي تفرحين بها يوم تجد كل نفسما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً .

ثانيها: تحصيل العلم النافع . فينبغي لك ، يا بنيتي أن تتقني ما أنت بصدده من التخصصاتالعلمية لتكوني جديرة بالشهادة التي تسعين إليها ، مؤهلةً للقيام بمهام المستقبل .

ثالثها: المساهمة في الارتقاء بمجتمعك : مجتمع الكلية بالمساهمة بأنواع المشاركاتالمفيدة ، وتجنب السلبية والتخذيل .

ومجتمعكالصغير المتمثل بأسرتك ، بتعليمهم ، وتثقيفهم ، وتوثيق الروابط الاجتماعية بينهم ،وتعزيز صلة الرحم .

أليسفيما ذكرتُ شغلاً ؟

وأماالفراغ العملي .. فإن من آفات مجتمعنا الحديث أن أعفى الفتاة مثلك من كثير منالأعمال والمهارات ، التي كانت تزاولها وتكتسبها أمك حين كانت في مثل سنك .. حينانكب الناس على استقدام الخادمات ، وإلقاء التبعات عليهن والتخلي عن المهامالطبيعية للمرأة المسلمة في بيتها ... فأثمر ذلك : فراغاً ، وفساداً ، وقلقاً ،وانعدام خبرة .

فاجتهدييا بنيتي أن تعمري ساعاتك المنزلية بخدمة البيت ، ومساعدة الوالدة ، واكتساب خبرةالتدبير المنزلي ، فإنك غداً ستزفين إلى زوج لا يعذرك ألا تحسني طبخاً أو غسلا ،أو كياً ، ولن يرضى بزوجة خرقاء . فتنبهي .

وليكنلك ، يا رعاك الله ، مشاريع منزلية هادفة ، من قراءة منظمة نافعة ، وسماع مفيد ،وحضور دروس أو دورات أو ندوات تضيف لك شيئاً جديداً سوى ما تتعلمين في الكلية ،فليست الكلية فقط خزانة العلم .

إنمن آثار الفراغ الذي تشتكين ما كتبت إليَّ من محاولات فاشلة لشغله ، مثل :

-الانهماك في المكالمات الهاتفية ،التي باتت " سرطاناً " يلتهم وقتك ، دون فائدة ، بل ضرر محقق ؛ تقومينمنها بضمير يتوجع من جراء ما فُهت به أو سمعتيه من غيبة وسوء مقال .. وخلافه .

-الانكباب أمام شاشة التلفاز ،والفضائيات ، تسهرين ترقبين محارم الله ، وتتقحمين بنظراتك المشاهد المخزية فيغفلة من رقيب الأرض ، ورقيب السماء يراك ..

ثمتقومين تَعُضِّين أصابع الندم على ما سعت قدماك ، واقترفت يداك ، وأصغت أذناك ،ورأت عيناك ... هذا لبقية بقيتْ من دينٍ وحياء ، وإلا يوشك إن تمادى بك الحال ، أنيقال : ما لجرح بميت إيلام .

ماكان أغناك عن هذا .. ما كان أحوجك إلى سواه .

تيقظيبنيتي ، لا تسرفي على نفسك ، ارحمي شبابك ، واغتنمي زهرة عمرك .. قبل أن تنحط قواك، ويشيب صدغاك .. فتندمين على ما فرطت في جنب الله .. و لات ساعة مندم .

تقولينأيْ بنيتي .. إنك تأتين ما تأتين ، ليس بالضرورة شوقاً إلى هذه المعاصي ، وحباً فيالمنكرات .. ولكن هروباً من واقع أسري مؤلم يتمثل في :

-الشقاق المستمر بين أبويك .. وماينتجه من ألم مرير ، وجرح راعف عميق في نفسك منذ الصغر .

-التفكك الأسري الواقع بين أفرادالأسرة ، من أخوةٍ وأخوات فلكلٍ عالمه الخاص ، وأسراره التي يهمس بها إلى الأبعدينويداريها عن الأقربين .

-قطيعةٍ بين الأقارب ، وكثرة خصومات، وقيل وقال ، وتبادل تهم .. إلخ

وأنذلك كلَّه يسبب لك شعوراً بالحرمان العاطفي الذي يحملك على " قتل الوقت" و " إزهاق الفراغ " بما يصلح وما لا يصلح!!

وأقولنعم .. وألف نعم .. إن الحرمان العاطفي مؤلم غاية الإيلام .. والإنسان مدني بطبعهيحب المؤانسة والملاطفة ، ويبحث عن دفء العلاقات الإنسانية من أمومة ، وأبوة ،وأخوة ، وصداقة .. إلخ

لكنعليك أن تعلمي أن أشد أنواع الحرمان العاطفي هو فقدان العاطفة الإيمانية ، نحوالله عز وجل ، أو ضعفها فلا يجد المرء في قلبه روح الإيمان وبهجته ، ومحبة الربوخشيته . ففي القلب فاقة لا يسدها إلا الإيمان بالله ، وفيه شعث لا يلمه إلااجتماع القلب عليه .

إنعليك ، وقد بلغت من العمر والعلم هذا المبلغ ، أن تفكري بطريقة أخرى .. فبدلا أنتتذرعي بأنك " ضحية " وتعلقي أخطاءك على مشجب التاريخ ، كوني واقعية ،وفكري في الإصلاح ، واستنقاذ ما يمكن استنقاذه ، وترميم العلاقات المهترئة ،وإعادة ترتيب البيت ، بحكمة وروية ، حتى تعودين بركة على أسرتك ، وتتنسمين أجواءالإشباع العاطفي ، وتبُلِّين رحمك ببلالها.

تقولين، على وجلٍ واستحياء ، إن صاحبتك فلانة وجدت ضالتها ، وأشبعت عاطفتها ، عن طريقالعلاقات الغرامية ببعض الشباب الذين يسكبون في أذنيها عبارات الحب والغراموالهيام ، عن طريق الهاتف ، وغرف المحادثة في الإنترنت ، والرسائل الوردية التييزفونها عبر الجوال ، ورسائل وبعائث من نوع آخر " .. ثم لم تزل كذلك حتىتناست مشاكلها ، وغرقت في بحار الحب ... وهاهي الآن تدعوك إلى الانغماس معها !!! واعجباًبل وا أسفى على حرائر المسلمين أن آل بهن الحال إلى حالِ من لا خلاق لهم من اليهودوالنصارى والذين لا يعلمون ، فصرن يقتفين خطاهم ، ويترسمن سلوكهم .

أماتعلمين ، أي بنيتي ، أن صاحبتك هربت من واقع سيء إلى أسوأ منه ، فهي كالمستجير منالرمضاء بالنار .

إنها" ضحية " مرتقبة ، " وفريسة " سهلة للذئاب البشرية الذينيستدرجونها بزخرف القول ، ومعسول الكلام ، فعمَّا قليل ، إلا أن يشاء الله ،ستحدثك أنها التقت بصديقها لقاءً بريئاً في أحد المنتزهات أو الأسواق ثم تحدثكأنها وثقت به وصحبته في سيارته في نزهة قصيرة .. ثم يحدثك الناس أن الهيئة أوالشرطة ضبطت فلانة ، صاحبتك ، في خلوة محرمة .

إنهالانهيار التام لمستقبل فتاةٍ مرغت سمعتها ، وسمعة عائلتها ، وجرت على نفسها وعلىأهلها الفضائح والسبة والعار بسبب نزوة عارضة ، واستهتار بالدين والقيم أوردهاالمهالك .

هلرأيت دموع السجينات خلف القضبان ، هل سمعت نَوح الأمهات ، وحوقلة الآباء ، وزمجرةالإخوان ؟

احذري! تسلمي ، واعلمي أن الله لم يجعل شفاءك في ما حرَّم عليك . وأختم رسالتي هذهبتلاوة هاتين الآيتين :

((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً . يصلح لكم أعمالكم ، ويغفرلكم ذنوبكم ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً )) ، (( ومن يتق الله يجعلله مخرجاً ، ويرزقه من حيث لا يحتسب )) وفقك الله ، وسدد على الخير خطاك .






بقلم : د.أحمد بن عبدالرحمن القاضي



المشرف على :مركز المشير للاستشارات التعليمية والتربوية



وموقعالعقيدة والحياة
0
421

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️