رسالة نافعة
للإمام ابن قيّم الجوزية رحمه الله
نذكر هاهنا نكتة نافعة. وهى: أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب، وما ينال كثيرا من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والمال، وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار، وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين. فإذاسمع في القرآن قوله تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾
وقوله ﴿وَإنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ﴾ وقوله ﴿كَتَبَ الله لأغْلِبن أَنَا وَرُسُلِي﴾ وقوله ﴿وَالعَاقِبةُ لِلْمُتّقِينَ﴾ .
حمل ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط، ويعتمد على هذا الظن إذا أُديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين،أو الفجرة الظالمين: وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى. فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق، فيقول: أنا على الحق. وأنا مغلوب: فصاحب الحق في هذه الدنيا مغلوب مقهور، والدولة فيها للباطل.
وأنت تشاهد كثيراً من الناس إذا أصابه نوع من البلاء يقول: يا ربى ما كان ذنبي، حتى فعلت بي هذا؟
وقال لي غير واحد: إذا تبت إليه وأنبت وعملت صالحا ضيق على رزقي، ونكد علي معيشتي، وإذا رجعت إلى معصيته، وأعطيت نفسي مرادها، جاءني الرزق والعون ونحو هذا.
فقلت لبعضهم: هذا امتحان منه، ليرى صدقك وصبرك، هل أنت صادق في مجيئك إليه وإقبالك عليه، فتصبر على بلائه، فتكون لك العاقبة، أم أنت كاذب فترجع على عقبك؟.
وهذه الأقوال والظنون الكاذبة الحائدة عن الصواب مبنية على مقدمتين:
إحداهما: حسن ظن العبد بنفسه وبدينه، واعتقاده أنه قائم بما يجب عليه،وتارك ما نهى عنه، واعتقاده في خصمه وعدوه خلاف ذلك، وأنه تارك للمأمور، مرتكب للمحظور، وأنه نفسه أولى بالله ورسوله ودينه منه.
والمقدمة الثانية: اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لايؤيد صاحب الدين الحق وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعيش عمره مظلوما مقهورا مستضاما، مع قيامه بما أمر به ظاهرا وباطنا، وانتهائه عما نهى عنه باطنا وظاهرا، فهو عند نفسه قائم بشرائع الإسلام، وحقائق الإيمان، وهو تحتقهر أهل الظلم، والفجور والعدوان.
فلا إله إلا الله، كم فسد بهذا الاغترارمن عابد جاهل، ومتدين لا بصيرة له، ومنتسب إلى العلم لا معرفة له بحقائق الدين.
فإنه من المعلوم: أن العبد وإن آمن بالآخرة فإنه طالب في الدنيا لما لا بد له منه: من جلب النفع، ودفع الضر، بما يعتقد أنه مستحب أو واجب أو مباح. فإذا اعتقد أن الدين الحق واتباع الهدى، والاستقامة على التوحيد، ومتابعة السنة ينافى ذلك. وأنه يعادى جميع أهل الأرض لما لا يقدر عليه من البلاء، وفوات حظوظه ومنافعه العاجلة، لزم من ذلك إعراضه عن الرغبة في كمال دينه، وتجرده لله ورسوله، فيعرض قلبه عن حال السابقين المقربين، بل قد يعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين، بلقد يدخل مع الظالمين، بل مع المنافقين، وإن لم يكن هذا في أصل الدين كان في كثير منفروعه وأعماله، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:
«بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَناً كَقِطَعِ الّليْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمسِى كافِراً، وَيُمْسِى كافِر اًوَ يُصْبِحُ مُؤْمِناً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».
وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لايحصل إلا بفساد دنياه، من حصول ضرر لا يحتمله، وفوات منفعة لابد له منها، لم يقدم على احتمال هذا الضرر، ولا تفويت تلك المنفعة.
فسبحان الله، كم صدت هذه الفتنة الكثيرمن الخلق، بل أكثرهم عن القيام بحقيقة الدين.
وأصلها ناشئ من جهلين كبيرين: جهل بحقيقة الدين، وجهل بحقيقة النعيم الذي هو غاية مطلوب النفوس، وكمالها، وبه ابتهاجها والتذاذها، فيتولد من بين هذين الجهلين إعراضه عن القيام بحقيقة الدين، وعن طلب حقيقة النعيم.
ومعلوم أن كمال العبد هو بأن يكون عارفا بالنعيم الذي يطلبه، والعمل الذي يوصل إليه، وأن يكون مع ذلك فيه إرادة جازمة لذلك العمل، ومحبة صادقة لذلك النعيم، وإلا فالعلم بالمطلوب وطريقه لا يحصله إن لم يقترن بذلك العمل، والإرادة الجازمة لا توجب وجود المراد إلا إذا لازمها الصبر.
فصارت سعادة العبد وكمال لذته ونعيمه موقوفا على هذه المقامات الخمسة:
1- علمه بالنعيم المطلوب
2- ومحبته له،
3- وعلمه بالطريق الموصل إليه
4- وعمله به،
5- وصبره على ذلك.
قال الله تعالى : ﴿وَالْعَصْرِ إنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
والمقصود: أن المقدمتين اللتين تثبت عليهما هذه الفتنة أصلهما الجهل بأمر الله ودينه، وبوعده ووعيده.
فإن العبد إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق، فقد اعتقد أنه قد قام بفعل المأمور باطناً وظاهراً، وترك المحظور باطناً وظاهراً، وهذا من جهله بالدين الحق، وما لله عليه وما هو المراد منه، فهو جاهل بحق الله عليه، جاهل بما معه من الدين قدراً ونوعاً وصفة.
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله تعالى في الدنيا والآخرة، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار والمنافقين على المؤمنين، وللفجار الظالمين، على الأبرار المتقين، فهذا من جهله بوعد الله تعالى ووعيده.
فأما المقام الأول: فإن العبد كثيرا مايترك واجبات لا يعلم بها، ولا بوجوبها، فيكون مقصرا في العلم، وكثيرا ما يتركها بعدالعلم بها وبوجوبها، إما كسلا وتهاونا، وإما لنوع تأويل باطل، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغل بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشد وجوبا من واجبات الأبدان، وآكد منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثير من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات.
فتراه يتحرج من ترك فرض أو من ترك واجب من واجبات البدن، وقد ترك ما هو أهم من واجبات القلوب وأفرضها، ويتحرج من فعل أدنى المحرمات وقد ارتكب من محرمات القلوب ما هو أشد تحريما وأعظم إثما.
بل ما أكثر من يتعبد لله عز وجل بترك ماأوجب عليه، فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مع قدرته عليه، وبزعمأنه متقرب إلى الله تعالى بذلك، مجتمع على ربه، تارك ما لا يعنيه، فهذا من أمقت الخلق إلى الله تعالى، وأبغضهم له، مع ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه.
بل ما أكثر من يتعبد لله بما حرمه الله عليه، ويعتقد أنه طاعة وقربة، وحاله في ذلك شر من حال من يعتقد ذلك معصية وإثما، كأصحاب السماع الشعري الذي يتقربون به إلى الله تعالى، ويظنون أنهم من أولياء الرحمن، وهمفي الحقيقة من أولياء الشيطان.
وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الحق ونوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل، حبك الشيء يعمى ويصم. والإنسان مجبول على حب نفسه، فهو لايرى إلا محاسنها، ومبغض لخصمه، فهو لا يرى إلا مساوئه، بل قد يشتد به حبه لنفسه، حتىيرى مساويها محاسن، كما قال تعالى: ﴿أَفَمَنْزُيَّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهٍ فَرَآهُ حَسَناً﴾ .
ويشتد به بغض خصمه، حتى يرى محاسنه مساوئ، كما قيل:
نظَرُوا بِعَيْنِ عَدَاوَةٍ، وَلَوَ أنَّهَا... عَيْنُ الرِّضَا، لاسْتَحْسَنُوا مَا اسْتَقْبَحُوا
وهذا الجهل مقرون بالهوى والظلم غالبا،فإن الإنسان ظلوم جهول.
وأكثر ديانات الخلق إنما هي عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم، وقلدوهم فيها: في الإثبات والنفي، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة.
والله سبحانه إنما ضمن نصر دينه وحزبه وأوليائه بدينه علماً وعملاً، لم يضمن نصر الباطل، ولو اعتقد صاحبه أنه محق، وكذلك العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهوعلم وعمل وحال، قال تعالى: ﴿وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ .
فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان،وقال تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُوِلهِ وَلِلْمُؤْمِنِين﴾ .
فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظ من العلو والعزة، ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان، علما وعملا ظاهراوباطنا.
وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه،قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوا﴾ .
فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه.
وكذلك الكفاية والحَسْب هي بقدر الإيمان،قال تعالى: ﴿يأَيُّهَا النَّبي حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ .
أي الله حسبك وحسب أتباعك، أي كافيك وكافيهم، فكفايته لهم بحسب اتباعهم لرسوله، وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنقصان ذلك كله.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص.
وكذلك ولاية الله تعالى لعبده هي بحسب إيمانه قال تعالى: ﴿وَاللهُ وَلِى المُؤْمِنِينَ﴾ وقال الله تعالى: ﴿اللهُوَلِى الّذِينَ آمَنُوا﴾ .
وكذلك معيته الخاصة هي لأهل الإيمان، كماقال تعالى: ﴿وَأَنَّ اللهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ﴾ .
فإذا نقص الإيمان وضعف، كان حظ العبد منولاية الله له ومعيته الخاصة بقدر حظه من الإيمان.
وكذلك النصر والتأييد الكامل، إنما هولأهل الإيمان الكامل، قال تعالى: ﴿إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ وقال ﴿فَأَيَّدْنَ االّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ .
فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هي بذنوبه،إما بترك واجب، أو فعل محرم وهو من نقص إيمانه.
وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ .
ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الآخرة، ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلا في الحجة.
والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل،فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى. فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور، مكفي، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهرا وباطنا. وقد قال تعالى للمؤمنين: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلا تحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وقال تعالى ﴿فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمٌ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ .
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم،التي هي جند من جنود الله، يحفظهم بها، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم، فيبطلها عليهم، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره ولم تكن موافقة لأمره.
من كتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ( 2 / 176-183 )

*نسيم الورود* @nsym_alorod_1
عضوة فعالة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️