لوحة رحيل آخر العام خطتها ريشةً تشكو السقم ..
وكما تعودتُ أن أواكب بناظري مسيرة وداع كل عامٍ
لوّحت مودعة عامي وهو مُعْتَلٍ .. ظهر سفينة ..!
أتساءل : لم صار البحر عشق الروح في الوداع؟!
تحمل رياحه نورس شراعٍ مفرد الجناح ؟!
تسافر معه عيناي وهو يحمل آخر أنفاس العام ..؟
يمعن في أفق المغيب ...
حتى يغدو نقطة بيضاء على خد الأفق
ثم يتلاشى ..؟!
لم لاأودع عامي عند مطار المسافرين ..
أو أرقبه يسير الهوينى على ظهر ناقةٍ ..
بناظري زرقاء اليمامة ..
حتى تدفنه صحراء الربع الخالي ؟!
لم لا ألوّح له بمنديل الوداع عند محطة قطارمنسيّة ...
تفتّق عن مشهدٍ دراميٍّ يرسم نكهة الماضي باللونين الأبيض والأسود ..
قطار ينفث براكين الحنين دخاناً ... ويطلق أنين الوداع ..
وتزمجر عجلاته الضخمة متثاقلة ،ثم تتخافت وتتسارع .. وتنأى
حتى يبتلعه الأفق ...؟!
لاأدري لزورق الشراع سحرٌ ... ولعمق البحر سر..
وكم تولعني أسرار البحار ..!!
وتنادي شغفاً بي إليها ..
أيّ سرّ ذاك طاف بالموج فغنى له قلبي
عند كل ترجيع له على الشاطئ ؟!
يأسرني صمت البحر فيسهبني في غيبوبة التأمل ..
ويخطف مهجتي حين يهيج ويرقى إلى سماء الشعور
حتى إذا ماارتد مرتطماً بساحلي..
انفرطت لآلئ حروف البثّ على سطح أمواجه ..
حديث آخر العام أطلق بعضه من معتقل صدري
وياليت بتفريجه.. تهدأ أشواق وجداني ..!
حديث يجمع أشتاتاً من مفرزات قلبي وقلمي ..
من هنا .. ومن هناك..
من عللي ، وتعللاتي ...
من آمالي ، وخيباتي....
من تحليقي ، وسقطاتي
حديث من المكنون الذي استبهمت به أشيائي
وضاق به صدري ، وبَرحُ الجوى بسري ..
حديث يكتنفه الغمرض ..
ولا يملك إيضاحاً للسؤال ...
الحرف تارة يبلسمنا .. وتارة يرهقنا ..
وتارة يتسمّر عند هوّة الألم..
وينزفنا بصمت ..
ولذا ...
عندما تتآمر حروفنا علينا ..
وتتظافر مع أوجاعنا ..
علينا أن نقطع اتصالنا بأطراف العبارة
ونطوي الكتاب على استغاثة الروح .
ونغلق باب خطرات النفس ..
ونترك صيحات أقلامنا تطلقها الآتيات ..
عامنا .. ساقي مآقينا كؤوس الأرق ..
سالكنا ودياناً ..
من الأهات والأوصاب .. والقلق
ودارت الأيام دورتها ...
كل غدٍ فيها تخلق من رماد اليوم ..
ولم يبق لهذا العام غير سويعات
يثرثر رمادها تحت سماء الفقد.
وعما قليل سيصبح في ضمير الأمس.
هذا الغد الذي يلفظ آخر أنفاسه ..
سيخلّف رماداً ..
ولاندري هل من ركامه يولد غد عامنا الجديد؟
فنعادُ أغنية مجروحة ..
وأسطوانة مشروخة على شفاه الزمن؟
أم سنغرس في أديمه شتلات حلمٍ أخضر ..
ليفترّ ثغرها عن ورود منزوعة الأشواك ؟
نحن الآن ... قلوبٌ ملغّمة .. موقوتة ...
قلوب مشحونة ...تجيش بالهموم ..
معلقة بآطراف أغصانها...
كثمرٍ فجٍّ مثقل ...تدلى ..
وماهي إلّا - كاد- حتى يهوي متناثراً
وتتكسر أغصانه ..!
كذلك نُوْجل من تهشيم الأمنيات ..!
هذا العام الراحل .. كان مبدع الأسى
ومفتّق النزوات ..
ابتكر من تراكيب قديمه ألواناً جديدة ..
لم تتنضر فيها الأيام ...
بل بهتت ... وأمحلت ..
وعصرت فوق عطش القلوب الظمأ.
زادت رقعة الشقاء وتقلّصت بقعة الأمان
تآكل القلق النفوس ..
وزحف كنبات طفيليّ بين عروق الحياة
ليستحوذ على الارتواء ..
ويترك سنابل الأمل عطشى حدّ الذبول
والفناء ..!
أرواح كثيرة خوت منها الديار ..
اقتلعت جذورها عن منبت الوطن
وهُجّرت عن السكن ..
وفي خبايا العراء وبين خيام الملاجئ
تدور كؤوس الأسى على شفاه متقرحة
كلّ يتجرع منها نصيبه ...
ثم تعود مليئة .. لتدور من جديد
وتنتظر المزيد ... !
لم يفرز هذا العام انفراجاً ..
بل حبل تأزمات .. وأجهض آمالاً
وولد كوارث ..!
زادت رقعة القلوب المكلومة ...
ونصبت مقصلة الظلم في طريق الأبرياء
لافرق بين رضيع يحبو .. وشاب يصبو
وشيخ أناخ عليه الكبر...
وفتاة تستقبل ربيع العمر ..
لم يبلسم عامنا الراحل جرحاً من جراح الوطن
بل زاد رقعة اتساعها ...
هو ذا يوشك على الرحيل تاركاً في الحناجر غصة ..
وفي القلوب غصات ..
آخر الوداع~
اللهم .. نلج ذنوبنا ببابك خاشعين ..
نستجير بكمالك المطلق .. من نقصنا..
فاغفر لنا شطحات قلوبنا ، وهفوات أقلامنا ...
وعثرات ألسنتنا ، وتأويل ضمائرنا ..
وأجرنا ...وأغثنا..
وفرج عنا كل كرب ، واغفر لنا كل ذنب ..
وأحسن خاتمة أمرنا ..
كل شي يضيق بنا ...
وتسعنا رحمتك .