رواية"حسناء"

الأدب النبطي والفصيح

الفصل الأول: ليلة شتاء

تَدثرَتْ اَلْمدينة بِوشاحِها الأسود الْكئيب.وسرى الليل كباقي ليالي الشِّتاء الْمكتظة سماؤها بالْغيومِ،وغاب فيها وهج الْقمر عندما يتوسط جبين السَّماء ؛فقد بات يخرج على فترات حين تمر به سحابة ممزقة الجوانب؛يظهر من خلالها بكل استحياء ، لا يلبث أَنْ تواريه السحب خلفها، مع نجوم أوهن برد الشتاء بريقها بضبابه ،وسحبه.
وعلى الأرض وتحت تلك السماء؛ سارت سيارة مترنحة يمنة ويسرة ، خائرة الْقوى ؛يقودها سكير طحنت رحى العربدة، والثمل لساعات طوال جهده وقوته؛ما أفقده السيطرة على سيارته ، التي قطع بها طريق العودة لمنزله ؛من سهرته بتلك الاستراحة في أطراف المدينة.
سار في بعض الطرقات مرراً وتكرراً حتى اهتدى للطريق المؤدية لمنزله ، زاد إعيائه من الجلوس طويلا خلف عجلة القيادة ، قبل أنْ يُوقِفْ السيارة أمام البوابة ؛ هوى بقبضته بما بقي لديه من طاقة على البوق.. مما أفزع حارس المنزل..ونبهه من جلوسه الطويل أمام التلفاز- شغله الشاغل إذا أنهى أعماله- قفز مهرولاً خارجاً من حجرته إلى البوابة ..ليتقي سَوْرَة مزاج سيده السيئ.. وبسرعة ضغط على الزر ، وبدأت البوابة بالارتفاع ثم ولجت السيارة لتجثم داخل ساحة ذاك المنزل الكبير.. وتلفظ آخر أنفاس معاناتها على الطريق.
خرج عمر مترنِّحاً خائر القوى.أسند ظهره للسيارة مغمض العينان رافعاً رأسه إلى السماء.. وصدره يعلو ويهبط بإعياء.. بلل رذاذ المطر شعره المكشوف ووجهه الذي زاد بشاعة مع بشاعة تأثير الثمل.. تقدم إليه حارسه وخادمه والقائم بكل أعماله في هذا المنزل الكبير الخاوي؛إلا من الحرية التي حدا به طلبها إلى الانتقال من منزل أسرته.
التقط الخادم بصمت ذراع سيده الهاذي ووضعها حول عنقه، ووضع يده حول وسط سيده بطريقة تنم عن رغبته بإنجاز هذه المهمة المعتادة بأسرع وقت ليعود لشئونه.فتنبه إلى أنه كان يهذي بكلام غير مترابط؛فهم منه أنه شتم وسباب؛لشخص ما ، أتبعه مترنما بكلمات خرجت مبهمة لم يستطع الخادم استيعابها.ودون أن يعيره أدنى اهتمام،أسنده بجسمه الضئيل وجره إلى المنزل بصعوبة - لضخامة جسده وطوله مقارنة بحجم خادمه- أكمل سحب تلك الكتلة البشرية، التي كان ينوء بحملها و دخل المنزل. أشعل إضاءة قاعة الجلوس فانسدل ضياء من مصابيح مثبتة في السقف شملت المكان. اتجه إلى إحدى الأرائك الطويلة؛و أسجى الجسد المتهالك عليها.
تهاوى عمر على الأريكة مستلقيا على ظهره ملقيا بإحدى قدميه على متكأ الأريكة وتدلت الأخرى إلى الأرض؛ غير مُدرك لما يجري. وغرق في لجة نوم عميق كمعتوه أضناه السير في الطرقات تحت شمس حارقة بلا هدف أو غاية. تنفس الخادم الصعداء بعدما خرّ مُجهداً مستنداً إلى الأريكة التي ألقى بسيده بين جنبيها.
نهض بعدما استجمع شيئاً من أنفاسه متجهاً إلى حيث يستقر جهاز التكييف، أشعله فشعر بتدفق الهواء الدافئ،ثم قفل إلى حجرته.ألقى نظرة أخيرة على سيده وأخرى على ساعة الحائط التي أشارت إلى الخامسة وعشر دقائق صباحاً.
تفحص السماء حين صار في الخارج؛ فألفاها ما تزال تُبَعْثِرُ قطراتها على الأرض هتلانًا. جرى إلى حجرته وأغلق الباب بإحكام بعدما أستقر بداخلها،ثم أقبل على التلفاز يقلب طرفه في شاشته،إلى أن يغلبه النعاس كعادته.
أنين مُعذَّب يتقلب من الضيق، والكدر،تناهى إلى هدأة الليل -المشرف ركب قوافله على مطلع الفجر- فاضطرب له وانتابته لحظات متقطعة من التوتر بلبلت سكون ظلمته المعتادة،تختفي حين يهدأ أنين عمر المتقلب المتأوه من لهيب المسكر في جوفه، مما نغص عليه سباته ـ دون أن يفيق- أو يسمع له أحد سوى أركان منزله، وليلٍ سربله. تستمر وتتكرر نوبات الأنين متقطعة إلى بعد شروق الشمس بساعات حتى تنضُب وقت الضُحى. فلا يعود يتردد في فضاء تلك القاعة سوى شخير قد يصدر بين الفينة والأخرى من ذاك الجسد المسجى على الأريكة، أو تبدر عنه تقلبات ذات اليمين و ذات الشمال لا يُسمع لها إلا همساً ،تتبعها أحيانا ضجة قصيرة حين يتهاوى الجسد إلى الأرض محدثاً ضوضاء سريعة - نتيجة السقوط والاصطدام ببعض قطع الأثاث القريبة - تتلاشى حين يسكن الجسد بلا حراك على أرض الغرفة، المكسوة بسجاد فاخر غزير الخيوط يمتص أي صخبٍ يحدث.
هذا هو عمر كلما تكالبت عليه الظروف فزع إلى الشرب ؛ يرمي بنفسه بين لججه ، حاول التخلص منه منذ عاد من بريطانيا ؛ فالمجتمع لن يتقبله كذلك ، لكن لم يفلح حتى الآن في التخلص من هذه العادة السيئة ، وما دفعة هذه الليلة لختام يومه بهذه الصورة ؛ محدث من مشادة بينه ، و بين شقيقة حول إحدى المناقصات التي قبلها دون الرجوع إليه وجرت عليهما خسارة لا يستهان بها ، ما جعل الغضب يتأجج داخله ، فانفجر بركانا يقذف حماما:
- لماذا وافقت على هذا العقد دون الرجوع إلي؟
رد عليه خالد بصوت لا يقل حدة ، و إن جاهد ثورة لو خرجت لا أنقلب الحوار إلى بركان ثائر:
- ولماذا أعود إليك ، كانت أوراقهم ، وعرض الشركة سليما ، ومغرياً؟
- أما ترى نتيجة قبولك لهذه المناقصة؟
- هذا الأمر كان يمكن أن يحدث معك؟
طبعا لا يمكن أن يحدث هذا معي ، ومع هذه الشركة تحديدا ؛ التي أعلم أنها شركة ذات سمعة سيئة منذ كنت أعمل مع والدي - رحمه الله- ولا تقل لي أنها جديدة في السوق ؛ فهي جديدة في كل شي سوء مالكها ، و أسلوب تعامله.
هنا خفض خالد بصره الذي كان متمركزا بعيني أخيه بتحدٍ وقال باستسلام :
لما لم تخبرني ؟!
وهن غضب عمر ؛ لاعتراف أخيه بتقصيره وقال :
لم تأتي الفرصة لأقول لك عن سمعة الشركة السيئة ، ثم تابع :
الآن حصل ما حصل ؛ لكن أتمنى أن تطلعني على كل أمر يخص الشركة.
انصرف خالد وبقي عمر يكظم غيظه ما استطاع ؛ فلم يعتد أن يفجر غضبه فيمن حوله و إن قصروا ؛ فقد كان اعتراف المخطئ كفيلا بإيقاف الهجوم عليه . صرف بعدها فكره إلى العمل ما استطاع حتى انتهى وقت العمل الرسمي ، انصرف إلى منزله بعدما قضى قربة الساعة متجولا بالسيارة ، حاول التسلي بمتابعة التلفاز وقراءة الصحف ، و المجلات لكن دون جدوى لم يتخلص من التفكير بالخسارة التي لحقت بهم ، ذرع الطابق الثاني منتقلا من جزء لآخر ، قرار أخيراً الذهاب لأصدقائه ؛ الذين يعلم أنه سيجد عندهم ما ينسيه العالم ، و لن ينجح في صرف أمر ألح عليه ، وحاول صرف نفسه عنه منذ عاد متوتراً للمنزل.
مرت ساعات الصباح و الصمت المطبق يتسكع بين أركان المنزل حتى الظهيرة ؛ فارضاً سيطرته إلى أن يقترب غروب الشمس وقد يحلو له أن لا يرحل إلا بعد الغروب، حين يستيقظ عمر من سباته ويشعر بوجوده على الأرض، فيرخي عضلاته في محاولة للاسترخاء وجمع شتات جهده لينهض من مرقده بعد ساعات طوال؛ لنوم متواصل سحق جسده.
نهض متثاقِلاًً إلى الحمام. أخذ بتفحص قسمات وجهه في المرآة، ثم أغدق عليه الماء مراراً منتعشاً، تناول المنشفة المعلقة إلى جوار الحوض جفف وجهه ثم ألقها في الحوض. سار قاطعاً البهو صاعداً إلى الطابق الثاني. يمم الخُطى إلى حجرةِ نومه. اقتحمها متجها إلى خزانة الملابس تاركاً الباب فاغراً فاه كعادته. فتح الخزانة وبدأ يسحب ما يحتاج من ملابس، وضعها على السرير. ثم دخل الحمام المُلحق بحجرة النوم وشرع بالاستحمام، أكمل ارتداء ملابسه عقب خروجه ووضع عطره المفضل مما أشعره بالانتشاء ، والسعادة. خرج من الغرفة متوقد الذهن متجدد النشاط ؛ كأنه غسل ما علق بعقله و جسمه من جهد بالاستحمام ؛ ظهر ذلك واضحا في اتساع خطوته أثناء سيرة قاطعاً ممراً مال للاتساع قامت على ضفافه عِدة حُجرات دلف إلى آخر حجرةٍ منها- خصصت للجلوس- حوت طقماً من الأرائك بسيطاً، وأنيقًا، اختار أكبرها وجلس متناولاً إحدى الصُحف المحلية مقلباً صفحاتها وملقيا عليها نظرة بسيطة،ثم التقط سماعة الهاتف وضغط بعض الأرقام ،انتظر جواب الخادم الذي لم يطل:
- نعم،سيدي.
- أحضر لي بعض الطعام.
- هل تريد نوعاً معيناً سيدي؟
فكر قليلاً ثم قال:
-لا،هاتِ ما عندك.
وضع السماعة، مكملاً قراءة الصحيفة متنقل من عنوان إلى آخر.
جاء الخادم بعد ربع ساعة.قرع الباب - عدة مرات متوالية- ثم دخل حاملاً الصينية ، حيّ سيده ووضع الصينية على الطاولة بالقرب منه، وهو مُكب على الصحيفة كأن لم يفطن لوجود الخادم إلا بعدما سأله ؛ إن كان يريد شيئاً قبل أن ينصرف. اكتفى بقول:لا،يمكنك الذهاب؛دون أن يرفع عيناه عن الصحيفة واستمر بالقراءة حتى جذبت رائحة الطعام أنفه رَغِمَاً بالاتجاه نحوها ليستمتع بمزيد منها. مما حدا به إلى وضع الصحيفة جانباً والشروع في تناول بعض الطعام ثم أكمل وجبته متنقلا بين الصحيفة، والطعام حتى انتهى وتفرغ لمطالعة باقي الصُحف،بعين فاحصة بالإضافة لمتابعتها أخبار العالم،تبحث عن جديد المناقصات –الملائمة لنشاط مؤسسته-حتى أنهى جميع الصحف ولم يعثر فيها على مراده.
نظر إلى ساعة يده ؛ إذ هي تشير إلى السادسة وسبع عشرة دقيقة نهض متوجها لحجرة نومه ، فصلى ما فاته من الصلوات وأكمل ارتداء ملابسه استعداداً للخروج . نزل إلى الطابق السفلي فجلس في البهو ينتظر القهوة،فجاء الخادم خلال ثواني يحمل طبقاً حوى كوباً كبيراً تفوح منه رائحة الكابتشينو التي ملأت الأجواء برائحتها الأخاذة، فأقبل عليها آخذاً منها رَشفات صغيرة، تلاها بجرعات كبيرة حين هدأت حرارتها حتى أنهى الكوب كاملاً ، فنهض خارجاً.
استقل سيارته التي أوقفها الخادم معدة أمام المدخل الرئيسي مباشرة . سلك الطريق الفرعي أمام منزله ومنه انعطف يساراً إلى الطريق العام ،انطلق إلى مؤسسته مجتازاً الطريق بهدوء، وأناة قاطعًا بذلك أي علاقة بينه وبين ما جرى ليلة البارحة، فما عادت السيارة تلك السيارة التي خصصها لتلك السهرات الموحلة، فقد ركب سيارته bmw ذات أحديث طراز ، قادها بثبات على الطريق فما عاد ذاك القائد المخمور المتهالك إلا واستحال رجل أعمال وقور، تجلل مهابة ، وتعالت نفسه سمواً.
واصلَ طريقه قاطعاً الشوارع والأحياء بمبانيه الأنيقة ، منتقلاً من طريق إلى آخر ومن إشارة إلى أخرى،حتى لاح له بعد عشرين دقيقة مبنى الشركة مهيباً بين تلك المباني التي أحاطت به وفاقها ارتفاعاً. انعطف بالسيارة مجتازاً ممراً مَثْلَ بداية حدودها ،غفت على أطرافه عدد من السيارات. تجاوزها حتى أوى بسيارته تحت مظلة خصصت لوقوف المدير العام - دل على ذلك تلك اللافتة بساقها الحديدي المغروس بجوار الموقف- ترجل من السيارة، وولج من الباب الخلفي .
استقل المصعد الجاثم قبالة الباب على بعد بضع خطوات، و منه خطى عَبَرَ ممر امتد قبالة المصعد بخطى واثقة ؛ قاصداً باباً قامَ في نهاية الممر- حيّ كل من قابله وبادره بالتحية حتى انتهى إلى مكتبه، لحق به السكرتير ببعض الملفات و أغلق الباب حين أصبحا في الداخل.
خاطب عمر السكرتير، بعدما استوَاء جالساً خلف طاولة مكتبه:
- هات ما عندك.
اقترب الرجل – الذي كان ما يزال واقفاً- فاتحاً الملف أمامه على المكتب، وقدم له شرحاً موجزاً عما يحتاجه الملف الأول، فالثاني حتى أنهى جميع الملفات،ثم استمع إلى بعض استفسارات مديرة ؛ أجابه عليها ،وتلقى ملاحظاته ، وتوجيهاته ودونها في مفكرة صغيرة ، وقبل أن يغادر المكتب سلمه ورقة أخرى حوت ملاحظات ؛ دونها شقيقه المسئول عن إدارة الشركة بالنيابة في فترة الصباح قدم السكرتير كل ذلك بسرعة وبراعة ، طالما أثنى عليها عمر وأعجب بها، مما زاد من ثقة سكرتيره الشاب بنفسه فكرس جهده لنيل المزيد من رضاء مديره بسلك كُل السبل التي تجعله يتقدم في عمله من حسن إلى أحسن.
يتشارك عمر وخالد في إدارة الشركة التي ورثتها عائلتهما عن والدهما،و إن كان عمر يستأثر بمنصب الرئيس العام وصاحب القرار الأول و الأخير غالبًا؛ لأنه الأكبر والأكثر خبرة و إن لم يُدعَ بهذا اللقب صرحه.
استأذن سكرتيره منصرفاً بعدما أنهى ما جاء من أجله تاركاً عمر يعمل وحيداً متنقلاً بين الأوراق التي احتلت جزءًا من مكتبه،والحاسب الآلي . امتدت جلسته حتى نادى المؤذن لصلاة العشاء فتنبهَ من جلسته التي استمرت قرابة الساعتين؛ نهض وتجول في المكتب لينشّط جسمه ؛ حاذى النافذة ، أخذ يطل منها على الشارع ، والمحال التجارية، ، والشركات المقابلة وهي مستكينة تحت زخات المطر المنهمر بغزارة.
خرج إلى مصلى الشركة حين سمع إقامة الصلاة، ثم عاد بعدها لينجز ما بدأه من عمل، لكنه توقف فجأة عندما تذكر أمرًا ما، وتناول قائمة بأرقام الهواتف وبحث فيها عن رقمٍ، رفع سماعة الهاتف وضرب الأرقام، وبقي منتظرًا أن يجيبه أحد على الطرف الآخر.
بعد ثوان معدودة بادر محدثه بالتحية والسلام- بود بدأ في حديثه- فقد كان ذاك أبا محمد الرجل الذي أحب التعامل معه، لما تميز به من صفات جعلته قريبًا منه رغم فارق السن بينهما.
قدم له عمر أصدق التهاني بنجاح ابنه، واعتذر له بشدة لأنه لم يستطع الحضور- ليلة أمس- للاحتفال الذي أقامه بمناسبة تخرج ابنه، تقبل الرجل الأمر بتسامحه المعهود، كما توقع عمر قبل أن يُجري المكالمة، أخبره قبل أن ينهي المكالمة أنه سيزوره مساء الثلاثاء ليقدم التهنئة له ولابنه في منزلهم، ووضع السماعة وتنهد تنهيدة قصيرة لأنه أزاح عبئا عن كاهله.
كانت ليلة البارحة حافلة بأصناف التيه والنسيان حتى أنه لو سئل عن اسمه ما استطاع أن يجيب لشدة ثمله، فكيف بتذكر موعد احتفال ابلغ بموعده منذ أسبوع . لم يرى أن يعاتب نفسه على هذا النسيان،وعلى هذا الإفراط في الثمل ، و لِمَ كان من موقف أبي محمد المتسامح ؛الذي لم يرهقه باستجوابه عن سبب عدم حضوره .
مر الوقت وجاوز العاشرة بنصف ساعة كما أشار السكرتير حين جاء يسأله:إن كان يحتاج أمراً ما قبل أن ينصرف،رافع رأسه عن ورقة انهمك بتفحصها.أجابه شاكراً وأخبره: إنه لا يحتاجه في شيء ،و أن ما بين يديه من عمل سينجزه وحده؛ وبإمكانه الانصراف.
غادر السكرتير المكتب مودعاً عمر قبل أن يغلق الباب خلفه، ويدعه وحيداً بين مهمات عمله التي أنجزها في تمام الساعة الواحدة وست وثلاثين دقيقة صباحاً، فغادر عائداً إلى منزله وتناول عشاءه حال وصوله ثم تمدد على أريكة حجرة الجلوس ليأخذ قسطاً من الراحة .غادر بعدها المنزل في الساعة الثالثة قاصداً استراحة الصِحاب الذين تفرق أغلبهم؛لأن السهرة أوشكت على أن تنفض وقد بادره أحدهم حين رائه داخلاً :
أهلاً ...أهلاً ،تعال و أجلس ها هنا بقربي فإني أريد محادثتك بأمر هام.
لكنه لم يعره اهتماماً واكتفى بقول: حسناً سأجلس بقربك لأحقاً،لأنه لاحظ أن الثمل قد أستبد بمحدثه.أتخذ مجلسه بجوار نواف، الذي به من الوعي بالوجود؛ القدر الذي يجعل عمر يتسامر معه ما أستطع إلى ذلك سبيلاً ، إلى أن أسند نواف ظهره للخلف بشيء من الإعياء وهو يسأل عمر:تأخرت في القدوم إلينا هذه الليلة!أم تراك عقدت صفقت من صفقاتك الرابحة فصرفتك عنا.تابع حديثه بشيء من الشرود : الحياة تنتهي والعمل لا ينتهي،فأسعد بحياتك يا رجل.أجابه عمر:لأعيش و استمتع لا بد أن أعمل و أجني المال الذي يمكنني من قمة الاستمتاع بالحياة،أجابه بالمنطق رغم أنه أحس أن صاحبه قد بدأ يخف تركيزه في الحديث بمرور الوقت،فأقترح أن يوصله للمنزل إذا لم يعد هناك ما جال لمزيد من الحديث وهو ينحدر عن الوعي،فأشار إليه بحركة من يده ورأسه أنه ذاهب معه.ساعده على الوقوف والسير إلى السيارة ،فأجلسه بجواره و أغلق الباب خلفه، ثم توجه للجهة الأخرى من السيارة؛ ليتخذ مكانه خلف مقود السيارة.
انتهى آخر مشوار لعمر هذا اليوم عندما وصل لمنزله.فأخذ يطالع بعض صفحات صحف يوم غد؛التي جلبها في طريق عودته .ثم تابع بعض البرامج على التلفاز حتى حلول الفجر، أوى بعدها إلى فراشه بعدما أدى الصلاة .
وتيرة حياة اختطها عمر لنفسه منذ عودته من بريطانيا؛ التي قضى فيها خمس سنوات بين دراسة وجنوح لحياة ألِفها خلال مدة الدراسة؛لوجود أصدقاء ودودين آثر قربهم فترة من الزمن بعدما أنهى دراسته بتفوق ملحوظ، يعجب له من يعرفه- فهو شاب ميال إلى الحرية ورغبات الدنيا- لكن كان له فلسفة في الحياة تقول:
إن الإنسان لا يمكن أن يستمتع بالحياة بدون مال والذي لا يأتي ـ غالباً ـ إلا ببذل الجهد مما جعله حريصاً على النجاح في حياته العلمية ،والعملية بالإضافة إلى ما رباه عليه والده من الاعتماد على الذات رغم أنه عاش في كنفه حياة رغيدة، وترك له بعد وفاته أموال طائلة جعلته يعيش نفس المستوى الاجتماعي حتى بعد وفاته. لكنه لم يتصور أن يخسر ماله يوما بتصرف طائش، فقد حرص على تنميته بقدر المستطاع.
لم يمل حياته التي كانت في الغالب نوم بالنهار وسهر بالليل؛رغم أنه مضى على عودته ثلاث سنوات قضاها وحيداً في منزلٍ انتقل إليه بُعيد عودته ببضع أشهر، حيث اعتاد حياة الحرية التي رأى أن والدته تقيدها بكثرة انتقادها، فقرر الانتقال ليعيش وحيداً على هواه ويتمتع بشبابه، الذي شارف أن ينصرم عامه الثاني والثلاثون قريباً.
5
601

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

( بنت الجود )
( بنت الجود )
رائع :26:
موج البحور
موج البحور
اسلوب جميل جدا
تسلسل في الكلمات مميز
سلمت يديكى حبيبتى
و***** الله فى تميز مستمر
جدائل النور
جدائل النور
رائع :26:
رائع :26:
سلمتِ أختي الفاضلة، مرورك الأروع
جدائل النور
جدائل النور
اسلوب جميل جدا تسلسل في الكلمات مميز سلمت يديكى حبيبتى و***** الله فى تميز مستمر
اسلوب جميل جدا تسلسل في الكلمات مميز سلمت يديكى حبيبتى و***** الله فى تميز مستمر
جزيتِ خيراً أختي الفاضلة.
جدائل النور
جدائل النور
الفصل الثاني:حسناء.

البردُ جاثم على أنفاس المنازل منذ الصباح حتى هذا الوقت - من بعد صلاة العشاء - جلست حسناء متزملة بطانيتها، أمام شاشة التلفاز في حجرة الجلوس تتابع ما يعرض، آخذة باحتساء كوب من الشكولاته الساخنة - ما جعل الدفء يغفو في أوصالها- فلا تعير برودة الجو بالاً.
توقفت ـ حين سمعت نداء والدها عن متابعة ـ برنامجها المفضل، الذي طالما حرصت على متابعته؛ لتميزه بنظرها من كل النواحي، واعتبار هذه القناة التي تبثه مصدرًا ممتازًا نمّى ثقافتها الواسعة -المعتمدة على الاستماع للمواد المفيدة من شتى العلوم- إما عن طريق التلفاز، أو المذياع أو غيرهما، فلم تكن تميل للقراءة كثيراً، أسرعت مُلَبِيةْ نداء والدها مثقل اليدين بأغراض المنزل والتي شق عليه حملها فكرر مناداته لأبنائه رافعًا صوته:
- يا حسناء، يا غادة، يا معاذ.
جاءهُ بعدها صوت حسناء منهيًا نداءه المتواصل:
ـ ها أنا ذا يا أبي ناولني عنك هذه الأغراض.
ناولها بعضها وتخلص من مأزق حمله للأشياء دفعة واحدة، ثم وضع البقية على الأرض وانصرف إلى حجرة الجلوس لينعم بدفء، يقضي على البرد الذي غرس دسره في عظامه.
حسناء فتاة في السادسة والعشرين من العمر، هي الثانية في الميلاد من بين خمسة أشقاء، كان مولدها بعد أخيها نايف بثلاث سنوات.
تخرجت من الجامعة بدرجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية ، و لم تكن حريصة في الحصول على وظيفة ، تقدمت إلى بعض الجهات بشيء من عدم المبالاة للحصول على عمل، لأن طموحها لم يكن يرضى بما نالت من تعليم جامعي، فقد سيطر عليها هاجس الحصول على درجة الماجستير في نفس التخصص ونالتها العام الماضي بدرجة عالية، مما حدا بها للتفكير بنيل درجة الدكتوراه متى ما رأت في نفسها إقبال على الدراسة وطلب العلم؛ الذي تراه مهماً لذاته وليس لأنه وسيلة للحصول على وظيفة.
لكنها الآن وبعد هذه السنة التي قضتها في المنزل، فقد تبدلت جميع خططها فهي عازمة على البحث عن عمل بشيء من الجدية؛ لأنها بدأت تشعر بالملل جراء جلوسها الطويل وحيدة في المنزل؛ حين يغادره الجميع صباحاً، كذلك لاحظت والدتها أنها قليلة الشهية هذه الأيام وأن سبب ذلك عائد لبقائها وحيدة في المنزل، مما دفعها لِحضِّهَا على البحث عن عمل، حتى لا تسوء حالتها النفسية وتوفر لها مبلغا تستفيد منه عند الحاجة.
أنهت نقل الأغراض إلى المطبخ وعادت إلى حجرة الجلوس - لتنضم لباقي أفراد العائلة - المجتمعين، رغم انصراف كلٌ إلى شأنه؛ فوالدتها تذاكر لغادة بعض المسائل الحسابية التي لم تفهمها، ووالدها يتابع برنامجًا يعرض على الشاشة، ومعاذ مكب على حل واجباته في طرف قصي من حجرة الجلوس، والذي بادرها عند دخولها مستفسراً:
ـ ماذا سيكون عشاء الليلة؟
ـ إنه سمك مشوي.
ابتسم لها مسرورًا ؛ لأنه يحب هذه الوجبة كثيرًا، فسألها تقديمه بأسرع ما تستطيع.تمنت أن تفعل ذلك لكن هذا الأمر متوقف على الموقد وحسن أدائه، وطلبت منه أن لا يتعجل؛ فالعشاء أعد باكرًا وسينتهي باكرًا بإذن الله، حدثته بذلك وهي تواصل سيرها إلى حيث قررت أن تجلس؛ قريبًا من والدها الذي سألها حال جلوسها:
ـ أين زهرة؟ لم أرها من بعد صلاة العشاء!
ـ لقد نامت بعد العِشاء مباشرة.
لم يرق له تركهم لها تنام دون عشاء كما اتضح من نبرة صوته وتعبيرات وجهه فأوضحت له أنها تناولت شيئا قبل أن تنام.
نهضت حسناء بعد دقائق من جلوسها؛ راغبة في التأكد من العشاء هل انتهى أم لا، ما دفع والدتها حين خرجت إلى أن تعاتب غادة لأنها هي من طلبت هذا العشاء فأضافت بذلك جهدًا على أختها - التي لم ترغب برفض طلبها - وتابعت حديثها:
ـ ماذا يضيرك لو أجلت طلبك إلى يوم الإجازة حتى يتسنى لنا مساعدتها؟!
اكتفت غادة بالنظر إليها واجمة، وكانت نظرة عينيها تنطق بما لم تتفوه به، ولكنها إجابة معروفة لدى الجميع:
ـ لم أنتبه لهذا الأمر.
قدمت حسناء العشاء وساعدها معاذ، وغادة في ترتيب السفرة، تحلق الجميع حول العَشاء مقبلين على الطعام بشهية زاد برد الشتاء من حررتها، لم تتناول حسناء إلا القليل كما لاحظ والدها، فسألها أن تتناول المزيد لأن ما تناولته لا يسمن، ولا يغني من جوع، لكنها أبدت عدم الرغبة، أضافت والدتها طلبها إلى طلب والدها :
- كلي يا ابنتي فأنت تبذلين جهدًا طوال اليوم.
أخبرتها أنها لا تستطيع لأنه لا رغبة لديها حقاً.
حدثها والدها عن الوظيفة إن كانت هي ما يشغل بالها، طلب منها أن توكل أمرها إلى الله فكل شي بالصبر، والدعاء يهون، ويتحقق بإذن الله.
أحست بالراحة والسرور لحديث والدها وإحساسه بها، ما زادها إصرارًا على الاستمرار في البحث؛ لم تفقده وإن وهن بين حين وآخر. لقد كان شعور والدايها بها وبما تبذله من جهد دافعًا ومحفزًا لها على الصبر؛ فلم تدع والدتها فرصة تتاح إلا وأشادت بما تقوم به من جهد في تولي مسئولية إدارة المنزل، وشئون الأسرة نيابة عنها حتى أنها لتشعر أحيانًا أن ابنتها بمقام والدتها لاعتماد أسرتها عليها.
تقدمت منذ قررت البحث عن عمل لثلاث وظائف لم تقبل في واحدة منها، على أن الأخيرة كانت شبه واثقة من حصولها عليها لكن هي الواسطة الظالمة - قاتل الله أهلها- حيث لمحت لها الموظفة المختصة باستلام أوراق المتقدمات في إحدى القطاعات؛ أن قريبة المديرة متقدمة لهذه الوظيفة، كإشارة إلى السبب الذي من أجله لم توفق بنيل الوظيفة - لتواسيها وتبين لها أنها جديرة بهذه الوظيفة كغيرها من بعض المتقدمات اللاتي لم يحالفهن الحظ.
ورغم كل ما حدث؛ استمر بحثها بعد ذلك مدة جاوزت التسعة أشهر، ولم تقع على عينها أو يصل سمعها خبرأي وظيفة، حتى قرأت في أحد الأيام إعلانًا لشركة خاصة تطلب مترجمًا- لم يحدد فيه جنس المتقدم- فطلبت الرقم حالاً، ورفعت السماعة تنتظر جوابًا جاءها بعد لحظات، فبادرت محدثها بالتحية:
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام.
فسألت بارتباك وحرج:
ـ قرأت في الصحيفة أنكم تطلبون مترجمًا، فهل يشترط للوظيفة امرأة أم رجل؟
- إن التقدم للوظيفة متاح للنساء كما الرجال.
سُرت سرورًا بالغًا بهذا الخبر، فاستفسرت عن طبيعة العمل، أفادها الموظف: بأنه فترة صباحية وسيكون عملها في قسم النساء بالشركة، مما شجعها على السؤال عن الشهادات المطلوبة، أخبرها الموظف أن التقديم متاح لحملة البكالوريوس فما فوق، سألته عن هل هناك أيام محددة لكل فئة لأنها تحمل درجة الماجستير، فأجابها الموظف بحماس ـ بأن الشركة حريصة على استقطاب ذوي الكفاءة - لا يوجد أيام محددة فكل من يرغب بالتقدم فليأتِ في أي وقت شاء.
أغلقت السماعة وقامت إلى أعمالها المنزلية تطوف بين جنبات الدار كفراشة، إلى أن أقترب موعد وصول من بقي من عائلتها، فزادت شوقًا لوصولهم لتعلمهم بخبر الوظيفة.
مرت زهرة بحجرة الجلوس ـ حين عادت في الظهيرة - صاعدة إلى حجرة النوم، حيتها حسناء حين رأتها وقالت:
- استبدلي ملابسك سريعاً لأني سأضع الغداء حالاً.
هزت رأسها إيجاباً، وواصلت طريقها.
أعدت مستلزمات الغداء وجلسوا يتناولونه، فأخبرتهم خبر الوظيفة الجديدة سعيدة مستبشرة بذلك، فقالت والدتها بحماس:
- حمدا لله، جعلها الله من نصيبك.
وقال والدها بشيء من الحماس والتفاؤل ومعقبا على كلام والدتها:
ـ آمين، وأعدي أوراقك لآخذها غدًا في طريقي للعمل.
فقالت زهرة ببراءة طفولتها:
ـ يعني أنك ستذهبين إلى العمل غدًا.
- ليس بعد، لكن قريبًا بإذن الله.
جهزت المستندات المطلوبة مساء ذاك اليوم، وأعطتها لوالدها صباح اليوم التالي، توجه الأب إلى مبنى الشركة مسترشدًا بالعنوان الذي حصلت عليه ابنته من الموظف، وصل إلى المبنى وتأكد من أنه هو المقصود من اللافتة الكبيرة المرتفعة فوق عمود ضخم من الصلب أمام مدخل الشركة، لكنه فوجئ من أسماء ملاكها ؛ المدونة على جزء من اللافتة، فتردد حين علم أنها مُلك لأقربائه الذين لا يجد ميلاً إليهم، لكنه طرد فكرة التراجع من رأسه رأفة بحال ابنته، التي ملت الجلوس في المنزل وحيدة وساءت حالتها النفسية.
حرص عند دخول الشركة أن يقدم المستندات إلى الموظف ويخرج حالاً ، حمد الله كثيرًا أن لم يره أحد وهو يفكر بهذا الأمر مبتعدًا بسيارته.
علم كل أفراد البيت بتقدم حسناء لوظيفة جديدة؛ سعدوا واستبشروا فقد بدء السرور على محيا الجميع، فحسناء ليست الأخت الكبرى وحسب بل في درجة تلي والديها مباشرة في التقدير والاحترام، فقد كان لطبيعة شخصيتها الهادئة والطيبة المتوجة بالرزانة دورها البالغ لنظر أسرتها لها هذه النظرة.
دخل عليها معاذ في حجرتها حاملاً كتابه للغة الإنجليزية وهي جالسة على حافة سريرها تبادل غادة - التي تستعد للنوم - الحديث، ابتسم لحسناء حين رفعت بصرها إليه، وتمنى لها التوفيق في الحصول على الوظيفة، شكرته على اهتمامه وسألته عما عنده؛ لرؤيتها كتاب اللغة الإنجليزية في يده، طالب منها أن تشرح له درسًا استعصى عليه فهمه. قالت له غادة:
ـ ألا تستطيع تأجيل درسك إلى أن أنتهي من الحديث مع حسناء.
ـ وهل حسناء لا همَّ لها إلا محادثتك حتى تنامي ؟!
وقالت بغضب:
- لا تصرخ في وجهي !
اتجها إليه مسرعاً وهو يهم بضربها فاعترضت سبيله حسناء ومنعته بمشقة من الإقدام على ما يريد، وهي توجه حديثها لهما معاً:
ـ كفا عن هذا الحديث؛ حتى لا توقظا زهرة، وليخجل كلا من نفسه، ألا تستحيان من هذه الألفاظ.
فتابعت غادة الحديث مدافعة عن نفسها:
- لكنه هو الذي بدء.
فاستشاط غضبا وعلا صوته وهو ينبهها إلى أنه أكبر منها، وكاد الشجار يتأجج مجددًا فطلبت حسناء منه أن يعود إلى حجرته وستلحق به.
- لا يهم من بدء أولا، ودعونا من هذا الكلام الفارغ.
لكن غادة لم تكتفِ بهذا الأمر وأخبرته أنها لا تريد أن يأتي إلى حجرتها ويزعجها لأنها تريد أن تنام، فرد عليها إنه يأتي لأن حسناء هنا وليس ليرى وجهها الذي لا يطيقه، دفعته حسناء برفق إلى خارج الغرفة وأغلقت الباب عندما تأكدت من سيره إلى حجرته؛ وجهت لغادة انتقادا - لم يخلُ من نبرة غضب خفيفة - على هذا السلوك تجاه شقيقها وهو أكبر منها، فوضعت الغطاء على رأسها كعدم اقتناع بخطئها، وعدم قبولها لكلام شقيقتها.
انصرفت حين أتمت حديثها إلى حجرة معاذ وعاتبته على سوء تصرفه الذي لا يليق أن يعامل به شقيقته وهو بهذا العمر!
مر شهر كامل وحسناء ما تزال مواظبة على الاتصال نهاية كُل أسبوع تسأل عن نتائج المتقدمين، باقية على أمل أنها لم تسمع قرار شغل غيرها للوظيفة فتستسلم للأمر، كما أن الاختبار التحريري الذي أجري لها للتأكد من قدرات المتقدمين على الترجمة؛ اجتازته بمستوى عالٍ بعث الارتياح في نفسها، ونفسي والديها، خاصة والدتها التي تمنت أن تكون هذه الوظيفة من نصيبها؛ حتى لا يستوطن الملل حياتها، كما حرصت على التقليل من أعباء المنزل الملقاة على عاتقها ببذلها مزيداً من المساعدة في أعمال المنزل، الأمر الذي لم يرق لحسناء فطلبت من والدتها: عدم إرهاق نفسها بالمزيد من أعمال المنزل؛ لأنها تستنزف كثيرًا من جهدها في عملها، والعناية بشئون والدها، وأختها الأصغر حين تعود.
قررت حسناء – هذه الليلة - أن تشغل نفسها بشيء ينسيها التفكير الدائم بنتيجة الوظيفة، كلفت معاذ أن يشتري لها رواية من المكتبة القريبة من المنزل، سهرت لساعة متأخرة فقد أنساها استمتاعها بالرواية التعب ومرور الوقت، لاحظت عندما أغلقت صفحات الكتاب لتريح عينيها قليلاً؛ أن لم يبق على آذان الفجر إلا ساعة واحدة. قامت فتوضأت؛ صلت الوتر، ودعت الله طويلاً أن يوفقها، وييسر لها هذه الوظيفة، ثم بقيت في فراشها تنتظر الآذان حتى تعالى من مسجد الحي، صلت ونزلت لتقوم بعملها المعتاد من إعدادٍ للقهوة، والشاي، والإفطار، جلست مع والدها الذي انضم إليها عقب عودته من الصلاة ينتظرا حضور البقية، تناولوا الإفطار جميعاً، انطلق بعدها كُلاً إلى وجهته.
قامت برفع أواني الإفطار وتنظيفها في المطبخ، توجهت إلى غرفتها وضبطت المنبه على الساعة الثانية عشرة؛ توقعت ألا تستيقظ قبل هذا الوقت كعادتها؛ سهر ليلة البارحة جعلها تشعر أنها بحاجة لوقت طويل من النوم... استسلمت لنوم هادئ إلى أن دق المنبه بعد أربع ساعات ونصف. نهضت وأدت الصلاة، شرعت بطبخ الغداء الذي استغرق منها حوالي الساعة.
لم تشعر هذا اليوم بالملل المعتاد؛ لأن قضاءها النهار نائمة، وانشغالها بإعداد الطعام بعده لم يتح لها تجرع الملل اليومي، أو البحث عن التسلية بمحادثة صديقاتها، ومشاهدة التلفاز، والقيام بالأعمال المنزلية ـ إن وجدت ـ حتى يحين وقت الغداء الذي يريحها من الفراغ.
بدأ بعد انتهائها من إعداد الطعام بوقت يسير حضور أفراد العائلة فكانت غادة في الصف الأول متوسط أول الواصلين ثم معاذ في الصف الثالث الثانوي.
حضر أخيرًا والداها برفقة زهرة الطالبة في الصف الرابع الابتدائي، والتي تدرس في المدرسة التي تعمل بها والدتها... قدمت لهم الطعام وجلست تتناول غدائها معهم، وتسأل عن يوم كلٍ منهم:
كيف كان؟
وسألها والدها عن أخبار العمل الذي تقدمت له.
أخبرته بعزيمة واهنة أنها لم تتلقَ جوابًا بعد، شد والدها من أزرها وحثاها على الصبر.
انتهت من تنظيف الأواني بعد الغداء نادى المؤذن لصلاة العصر. ذهب والدها بعد الصلاة لأخذ استراحة، يجتمعون بعدها قبيل المغرب لتناول القهوة والشاي. فينتهي حينها جُل عمل حسناء اليومي ولا يبقى إلا طعام العشاء.
انضمت حسناء إلى أسرتها بعد المغرب، نادت عليها والدتها لتجلس بجوارها؛ لأنها تريد محادثتها بأمر ما، لبت نداء والدتها فجلست على مقربة منها، فرأت السرور يتلألأ في عيني والدتها، فسألتها:
ـ ما الخبر ؟ يبدو أن لديك أمراً هاماً؟
صدقتِ ، لقد أخبرتني المديرة اليوم أن إحدى قريباتها تعمل موظفة في أحد الدوائر الحكومية ـ في وظيفة مرموقة ـ و أن بإمكانها أن تدبر لكِ وظيفة رسمية في هذه الدائرة.
أجفلت حسناء من هذا الكلام، وقالت باستنكار:
ـ لا .. لا .. أرجوك يا أمي لا تطلبي منها هذا؛ الجلوس في المنزل مدى العمر أحب إلي من أن آخذ مكان أحد، أو أن أجعل أحدًا يمنّ علي بأي شيء.
ـ لن تحصلي على وظيفة طوال حياتك إن بقيت تفكرين هكذا!
ـ سأحصل عليها بإذن الله، فمن توكل على الله فلن يخذله.
ـ لا أحد ينكر قدرة الله على إيجاد الشيء من لا شيء، لكن الأمر قد يطول وبالواسطة تحل الأمور بسرعة.
نحت والدتها الفكرة جانبًا؛ فلا ضرورة لإجبار ابنتها على ما لا تريد، في أمر يعود قراره الأول والأخير لها، قالت حسناء لوالدتها بعدما استوفت حديثهما حول هذه الوظيفة :
ـ لقد دعتني منى، وبقية صديقاتنا للعشاء الليلة .
ـ في منزلها؟
ـ لا في المطعم .
ـ هل أخبرت والدك ؟
ـ بالتأكيد ، ولا مانع لديه.
ـ وأنا لا مانع لدي أيضًا، لكن من سيذهب معكن، معاذ .
ـ ألم يذهب معك معاذ في آخر مرة؟ أليس الدور على غيره؟
ـ رفض شقيق سلمى أن يرافقها، فطلبتُ من معاذ مرافقتنا، وسيكون مع مازن في نفس المطعم الذي سنذهب إليه.
ـ جيد لكن لا تطيلوا السهر.
ـ بإذن الله .
كان اجتماع حسناء بصديقاتها كل فترة؛ من الأسباب التي تساعدها على مقاومة الملل، وإن كانت هذه الاجتماعات قليلة، تحصل في الشهر مرة أو مرتين، حسب ظروف كل واحدة منهن.
اتصلت حسناء بسلمى وأخبرتها أنها قادمة مع شقيقها ليصطحباها إلى المطعم، شكرتها وقالت إنها ستكون جاهزة حال حضورهم، طلبت منها أن تشكر معاذ نيابة عنها، وأن يعذرانها لموقف شقيقها، أنبتها حسناء على هذا الكلام ؛ الذي لا يليق أن يكون بين الصديقات.
في الساعة الثامنة والربع كانت حسناء وشقيقها يقفان بالسيارة أمام المبنى الذي توجد به شقة سلمى، اتصلت من هاتفها على سلمى، أخبرتها أنهم ينتظرونها في الأسفل، نزلت وركبت في المقعد الخلفي، انطلقوا إلى المطعم، ترجلوا قاصدين بوابة المطعم، جلست حسناء وصديقاتها في قسم العائلات، وجلس معاذ ومازن في مكان آخر من المطعم .