
لايستطيع أحد أن يحوزمن الخير والحكمة
إلا أن يكون له ثلاثة أشياء :
وزير ـ و ولي ـ و صديق
فوزيره عقله و وليه ضميره و صديقه عمله الصالح
كنت في سنتي الأولى الجامعية وكنت أحاول أن أتدبر مصروفي اليومي
والدراسي بمفردي و أحمله على عاتقي فقد نشأت على الإعتماد على الذات
وحب للعمل و التفاني فيه فسجلت إسمي ضمن معلمات معوضات
و شاءت الصدف أن تلد إحدى المربيات فوقع انتدابي للعمل نيابة عنها
لمدة أربعة أشهر (وهي فترة عطلة الأمومة ) استقبلني مدير المدرسة
و أخبرني بصدق بجسامة المسؤوليةالمنوطة بعهدتي لأني سأواجه
قسما شاذا إن صح التعبيرفقد اجتمع فيه قرابة 42 تلميذا من الأغبياء
و الراسبين و خاصة الأشقياء مهد لي الصورة ووضح لي ما سأقبل عليه
من واجب لكأنه واجب عسكري و أنني في أرض ملغومة ومحوطة بأسلاك
شائكة وافقت بلا تردد فكان حلمي في صغري أن أصبح ذات يوم معلمة

اندفعت بحماس إلى قسمي و كان قسما مزدوجا يعني قسمين في قسم
كان العدد كبيرا و الشغب أكبر ويظهر للعيان أن الأمر ليس هيّنا
و يستنزف الجهد و يتلف الأعصاب التفت لأمسح السابورة فانهات
علي أعقاب الطباشير و رمي بالصواريخ الورقية و التصفير و وشوشات
و همهمات وتمتمات و ضحكات متخفيات في لحظة التفاتي تلك قلت بقرارة
ذهني يمكنني أن أفربجلدي و أكسب راحتي و أنسحب
التفت لهم فرأيتهم مجرد أجسام صغيرة و عيون بريئة فقط يحاولون
أن يجذبوا الإهتمام بالصغب و التشويش وعدم الإنتباه و اللعب
و تذكرت تلك المقولةقوة السلسلة تقاس بقوة أضعف حلقاتها.

أردت أن أكسر الحاجز بيني و بينهم فقلت مازحة يظهر أن قسمكم
يمطر ثلجا اشارة إلى حذفهم لي بالطباشير فضحكوا جميعا على هذا التعليق
لمحت خيزورانة على مكتبي المغبر فقلت ما دور هذه هنا أجابوني
بصوت واحد للضرب و العقاب فالعصا لمن عصى و لكأنهم يقلدون صوت
معلمتهم المتطاير بالشرر و طريقة تحديقها الأشر قلت لهم ودعوها إذا
لا ضرب بعد اليوم فساد الهرج و المرج و التصفيق و كأنهم غير مصدقين
في قرارة نفسي قلت لو طرحت عليهم الدرس فلن يولوني الإهتمام
لم لا أنصت إليهم ونتبادل الأدوار؟؟
اقترحت عليهم أن يحدثوني عن أنفسهم فاستغربوا بداية لكن من نبرة صوتي
الحازمة و نظرتي الحادة عرفوا إني جادة

فبادر كبير المشاكسين و تحدث عن نفسه وساد الجميع التركيز و تداولوا
الحديث بمرح و فرح و كنت مصغية و أسجل ملاحظاتهم و أدون ميولاتهم
قبل أن تنتهي تلك الحصة المشهودة وضعت بضع قرارات لنطبق ما نوافق
عليه بالإجماع أولها إعادة تنظيم و تزويق القسم و جعله مكانا لائقا فلدينا
حصة أسبوعية للبراعة اليدوية و ستكون لهذا الغرض سيخرجون طاقتهم
في الرسم على الجدران و القيام بإعادة طلاء الطاولات و الكراسي التي
اختفت معالمها بالرسائل و كلمات الحب و القلوب و غيرها المكتوبة
و المحفورة عليها وكتبت عدد نقاط وتوجيهات وتتالت الحصص كانت
أغلبها في تنمية الذات و رد الإعتبار لهم وتغيير هذا الاسم الذي لصق بهم
حتى صدقوه قلت لن أسمح لأحد من أبنائي بنعته بالغبي وما تبعه من أسماء
الإهانة و التحقير و سعيت لتحفيزهم فكل عمل جيد أضيف نقطة لمجموع
الأعداد و فرحوا بذلك

..وكانت أصعب الدروس هي درس التاريخ فكنت
لا أستعمل الإملاء المباشر بل أقوم بدور الحكواتي يعني أسردها لهم في شكل
قصص و أشوقهم للأحداث وما عليهم غير حفظ التواريخ و ربطها بتلك الأحداث
كانت هكذا البداية لأرغبهم في الحفظ بصراحة تغير القسم شكلا و مضمونا
و كسبت قلوبهم النقية و قمت بساعة أسبوعية للإلتقاء بالأولياء لنتشارك
في المسؤولية و ليهيؤوا لهم في البيت الأجواء المناسبة و المستقرةو بالفعل
قد لاحظوا تغير أبناءهم فشجعهم على التعاون معي و حتى بعض البيوت استتب
فيها الهدوء

كان المدير قد ترك لي الحبل على الغارب لأنني أواجه قسما ميؤوسا منه
و في عداد المرفوتين آخر السنة لم يحاول حتى أن يتقصى تطوراتنا بل
في أحد الأيام استرعى انتباهه حالة النظام و لم يسمع صخبهم كالمعتاد فجاء
لعل يجدني بين الأنقاض وحينما دخل هب الجميع بالتحية و الوقوف كاد يشك
في أنه دخل القسم الغلط و ارتبك فأراداختبارهم فقال اجلسو ا فجلسوا و كنت
من وراءه أشجعهم و ألوح بيدي أحييهم وظل يكرر( قفوا و اجلسوا) وهم
في تمام الطاعة ثم أغلق الباب و خرج كالمتعثر الغير مستوعب وأبنائي
يمسكون أفواههم ويضحكون

تحسنت النتائج بشكل ملحوظ و الأهم تغيرت نفسياتهم و لا أنكر كان هناك
بعض الشغب لكنه المحبب
فهم في سن الإنطلاق و العفوية و لا يجب أن نقتل فيهم الحماسة و الإندفاع
يكفي أن نضع بعض الضوابط و الحدود
أكتب و أنا أسترجع ذاك الزمن الجميل مع صغاري الذين كانوا يتسابقون
لحمل محفظتي و تحيتي و سيل من الشكر من قبل الأمهات ودعوات الخير
كان ذاك القسم للسنة السادسة من التعليم الإبتدائي و في آخر السنة كان
الإختبار الوطني لشهادة ختم الدروس وكنت أترقب نتائجهم بفارغ الصبر
و الحب الجم و كانت المفاجأة النجاح الساحق مائة بالمائة لقسم الأشقياء
الذين صاروا نجباء كانت أجمل لحظاتي هي نجاحهم الذي هو نجاحي و انتشالهم
من قوقعة التهميش و التحقير

كنت أسعى لبناء كيان انسان فتلاه فوزا و نجاحا لازلت أتلقى حصاده من الثناء
إلى الآن
ولازلت أحمد الله أنني قبلت بالمهمة و لم أتسرع و أهرب من حملها و احتكمت
إلى عقلي و بصراحة استعملت حدسي و قلبي واعتبرتهم أمانة عليّ الحفاظ
عليها و احتفظ الآن بتلك الذكرى بفخركانت تلك تجربتي اللأولى و الأخيرة في
التعليم رسخت في بالي فكتبتها لكم عسى أن ينتفع بها من يقرأها فليس
هناك صعب أو مستحيل إن كان هناك وعيا وحكمة وحسن تدبيرو التصرف
حسب متطلبات الموقف و التعامل بحنكة مع نفسيات مختلفة ومزاجيات
صبيانية بلباقة وكياسة و مسايسة و طول نفس
و بذكاء نقدر نسيّرهم إلى الصواب و نستخرج الطاقات الكامنة و يكون التميز
لهم علامة
فأوصيكن أخواتي بالإتقان و العمل بايمان و شغف و ضميرو الإستماتة
في المحاولة و من هنا فرصة لأهيب برجالات التعليم رفقا
بصغارنا و راجعوا بالله عليكم البرامج التعليمية التي لا تعدو أن تكون حشوا
و اسهابا وعدلوا في المناهج المثقلة التي تكون عبئا و وبالا
فاحتكموا إلى عقولكم و الحكمة ضالة المؤمن و من بحث عنها وجدها

بقلم وإمضاء: روح الفن
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته