الطائرات حتى عادت كأنها سيارات ، فإن زوجتي لم تركب الطائرة إلا تلك
الليلة ، وبعد عشرةِ عشرين سنة، ومن أين ؟ وإلى أين ؟ من الظهران إلى
الرياض ، ومع من ؟ مع أخيها القروي البسيط الذي أحس أنه يجب أن ينفس
عنها بما يستطيع فأخذها بسيارته القديمة من الرياض إلى الدمام .. وفي
العودة رجته بكل ما تملك أن تركب الطيارة أن تركب الطيارة قبل أن
تموت .. أن تركب الطيارة التي اركبها دائماً والتي تراها في
السماء وفي التلفزيون ، واستجاب أخوها لندائها وقطع لها تذكرة ، وأرفق
معها ابنها محرماً لها وعاد هو وحيداً بسيارته القديمة تهتز به المشاعر
والسيارة
وفي تلك الليلة لم تنم ، بل أخذت تثرثر معي ساعة عن
الطيارة وتصف لي مداخلها ومقاعدها وأضواءها ومباهجها ووجباتها وكيف
طارت في الفضاء .. طارت ! وصفت لي مدهوشة كأنها قادمة من كوكب آخر ..
مدهش ! ومزهر ومسكون بالبشر .. وانا انظر إليها متعجباً مستغربا ، ولم
تكد تنتهي من وصف الطائرة حتى ابتدأت في وصف الدمام والرحلة إلى الدمام
من بدئها لختامها والبحر الذي رأته لأول مرة في حياتها ، والطريق الطويل
الجميل بين الرياض والدمام في رحلة الذهاب أما رحلة الإياب فكانت في
الطائرة ، الطائرة التي لن تنساها إلى الأبد ، واستقعدت على ركبتيها
كأنها طفلة ترى مدن الملاهي الكبرى لأول مرة في حياتها وأخذت تصف لي
وعيناها تلمعان دهشة وسعادة ما رأت من شوارع ومن متاجر ومن بشر ومن حجر
ومن رمال ومن مطاعم وكيف أن البحر يرغي ويزبد كأنه جمل هائج وكيف أنها
وضعت يديها هاتين .. هاتين في ماء البحر، وذاقته فإذا به مالح ..
مالح .. وكيف أن البحر في النهار أسود وفي الليل أزرق .. ورأيت السمك
يا حبيبي رأيته بعيني يقترب من الشاطئ ، وصاد لي أخي سمكة ولكنني رحمتها
وأطلقتها في الماء مرة ثانية .. كانت سمكة صغيرة وضعيفة
.. ورحمت أمها ورحمتها .. ولولا الحياء يا حبيبي لبنيت لنا بيتاً على شاطئ
ذاك البحر ؟ رأيت الأطفال يبنون يووووه نسيت يا زوجي الحبيب . ونهضت
فأحضرت حقيبتها ونثرتها وأخرجت منها زجاجة من العطر وقدمتها الي
وكأنها تقدم الدنيا وقالت هذه هديتي إليك وأحضرت لك يا حبيبي " شبشب "
تستخدمه في الحمام وكادت الدمعة تطفر من عيني لأول مرة .. لأول مرة
بعد زواجي منها ، فانا قد طفت الدنيا ولم احضر لها مرة
هدية .. وقد ركبت معظم خطوط الطيران في العالم ، ولم أخذها معي مرة
لأنها في اعتقادي جاهلة لا تقرأ ولا تكتب فما حاجتها إلى الدنيا وإلى
السفر ، ولماذا أخذها معي ، ونسيت .. نسيت أنها إنسانة .. إنسانة أولاً
وأخيراً .. وانسانيتها الآن تشرق أمامي وتتغلغل في قلبي وانا الذي اراها
تحضر لي هدية ولا تنساني .. فما أكبر الفرق بين المال الذي اقدمه لها إذا
سافرت أو عدت وبين الهدية التي قدمتها هي لي في سفرتها الوحيدة
واليتيمة ، إن " الشبشب " الذي قدمته لي يساوي كل المال الذي قدمته لها
، فالمال مني واجب والهدية شيء آخر ، وأحس بالشجن يعصر قلبي وانا
ارى هذه الصابرة التي تغسل ثيابي وتعد لي أطباقي وأنجبت لي
أولادي وشاركتني حياتي وسهرت علي في مرضي ، كأنما ارى الدنيا أول مرة ،
ولم يخطر لها يوماً أن تقول لي اصحبني معك وأنت مسافر أو حتى لماذا
تسافر لأنها المسكينة تراني ( فوق ) .. بتعليمي وثقافتي وكرمي المالي
الذي يبدو لي الآن أجوف .. بدون حس ولا قلب أحس بالألم وبالذنب .. وبأني
سجنت إنسانة بريئة لعشرين عاماً ليس فيها يوم يختلف عن يوم .. فرفعت يدي
إلى عيناي اواري دمعة لا تكاد تبين .. وقلت لها كلمة قلتها لأول مرة في
حياتي ولم اكن اتصور أني سأقولها لها أبد الآبدين ، قلت لها : أحبك ..
قلتها من قلبي .. وتوقفت يداها عن تقليب الحقيبة وتوقفت شفتاها عن
الثرثرة ، وأحست أنها دخلت في رحلة أخرى أعجب من الدمام ومن البحر ومن
الطائرة وألذ ، رحلة الحب التي بدأت بعد عشرين عاماً من الزواج ، بدأت
بكلمة .. بكلمة صادقة .. فانهارت باكية.
لكن انا في النهاية إنسان..........................
منقول حرفياً