"سبق" في "أربطة" جدة.. أمهات منسيات يصرخن: أين الخيِّرين ولماذا تتجاهلوننا؟

الملتقى العام

دعاء بهاء الدين - ريم سليمان - سبق - جدة: كشفت جولة لـ"سبق" أن هناك أمهات منسيات يعشن ظروفاً قاسية، ولا نبالغ إذا قلنا إنها مأساوية، داخل ما يُسمّى بـ"الأربطة"؛ حيث يفتقدن العيش الكريم، ويواجهن ظروفاً صحية غاية في السوء. هؤلاء الأمهات - ويا للأسف - بينهن من لا تزال لديها أولاد أو أقرباء على قيد الحياة، بيد أنهم لا يكلفون أنفسهم عناء السؤال عنهن ؛ فهل هو الجحود ونكران الجميل، أم أنها قسوة الحياة وعقوق الوالدين والأقرباء؟!..
"سبق" عاشت ساعات مع هؤلاء الأمهات، وهذه هي التفاصيل:

ليس مَنْ رأى كمَنْ سمع
لم نكن نتخيل ونحن في طريقنا إلى إحدى دور الأربطة في جدة الظروف القاسية التي تعيشها النزيلات؛ فمنذ لحظة دخولنا الدار لم يغب عن بالنا المثل الشعبي الذي يقول "ليس مَنْ رأى كمن سمع"؛ يا له من مثل بليغ يصف ظروفاً قاسية ومشاهد مؤلمة تعيشها أمهات منسيات من أقرب الناس إليهن، ورغم المرارة والبؤس الشديد اللذين يواجهنهما إلا أن فرحة عيونهن برؤيتنا منذ دخولنا إلى الرباط لم يكدر صفوها إلا لحظة الوداع والمغادرة وطلبهن ألا ننساهن، وأن نكرر الزيارة، وأن ندعو آخرين إلى زيارتهن.

منذ أن دلفنا إلى الرباط حتى خرجنا منه ثمة تساؤلات حائرة طرحتها علينا النزيلات، إلا أننا نعترف وبكل صراحة بأننا فشلنا في تقديم أجوبة مقنعة لهن، وهي: أين نحن من المجتمع؟ أين رجال ونساء الخير منا؟ لماذا تجاهلوننا؟.. وبرغم كل هذه التساؤلات إلا أن ملامح الرضا والبشاشة تعلو وجوههن، وهن يرددن: طلباتنا محدودة؛ فما مضى لا يعود، والعمر لم يعد فيه بقية!!!

الفقر فرَّقنا
اقتربتُ منها وقد كسا الزمن وجهها بتجاعيد تختفي خلف ابتسامة من نور رضاها الإنساني بما كتبه الله لها، بكل الود استقبلتني واحتضنتني بدفء غريب شعرت معه بالحنين لأمي التي أفتقدها في غربتي.

جلست بجانبي، إنها "خالة حليمة"، كما يلقبونها في الدار، وسردتْ لـ"سبق" قصتها قائلة: أعيش في هذه الدار منذ ثلاثة عشر عاماً، أبنائي متزوجون، وبسبب الفقر آثرت أن أتركهم حتى لا أمثل عبئاً عليهم، وجدت في هذه الدار الصحبة الطيبة التي كانت بلسماً لآلامي النفسية.

يوم الجمعة من كل أسبوع يزورني أبنائي فيصبح اليوم عيداً، وقد ألمح في عينَيْ ولدي جرحاً غائراً وقد أعياه الزمن وأضحى الفقر رفيقه، تجتاحني أمومتي؛ فاقترب منه وأعطيه بعض الملابس المستعملة التي أكرمنا بها أهل الخير وقد أبلاها الزمن؛ عسى أن تحمي أجسادهم النحيلة في الشتاء القارس.

تختفي البسمة من وجهها فجأة، وتتوقف عن الكلام، وترفع يدها إلى السماء داعية لنا "الله يستركم ويجزيكم خيراً"، ثم شعرت بجسدها الضعيف وقد بدأ يتهاوى، انزعجت، ثم سألتها ماذا بك؟ أجابتني: أشعر بدوار وهبوط في الضغط. ثم همست في أذني قائلة: لم أتناول الطعام من أمس؛ لا يتوافر طعام لدينا؛ فماذا آكل؟
تمالكتُ نفسي، وحبست دموعي؛ حتى أخفف عنها معاناتها، وفي مرح قلت لها: "سوف نعزمك اليوم".

قبل أن أغادرها أمسكتْ بيدي متسائلة: لماذا انصرف عنا أهل الخير؟ أين ذهبت مساعدتهم؟ يا ابنتي أريد ملابس حتى ولو مستعملة، ملابسي الرثة التصقت بجسدي وفقدت بها بعض آدميتي. "لا تنسونا، تعالوا زورونا".. بهذه العبارات الرقيقة والوجه البشوش ودعتنا "خالة حليمة" مثلما استقبلتنا، وقد ارتسمت على شفاهها ابتسامة الأمل في كرم الله والرضا بما قسمه الله لها.

لكل منهم شأن يلهيه
أثناء تجوُّلنا في أروقة الدار دعتنا "الخالة زينة" إلى زيارة غرفتها، وأجزلت لنا عبارات الكرم العربي الأصيل "هلا والله – حياك الله ابنتي".. شعرت بدفء إنساني فياض يغمر المكان، دخلتُ غرفتها العامرة بالسكينة التي استشعر بها قلبي وأنا أستمع لكتاب الله يبارك أرجاء غرفتها.

تحدثت الخالة زينة بكل تلقائية وبساطة قائلة: طلقني زوجي، ومات ولدي، ولم يعد لي بعد الله سوى هذه الدار. أقاربي في جدة، لكل فرد منهم شأن يلهيه، تمر عليّ الأيام متثاقلة، وأحتاج إلى مَنْ يسأل عني، ويؤنس وحدتي. ثم توقفتْ فجأة عن الحديث وقد اجتاحتها موجة بكاء.

تمالكتْ بعد ذلك نفسها، ووصفت لنا يومها بقولها: أقضي يومي بين قراءة كتاب الله وسماع إذاعة القرآن الكريم، أحب المشي، لكن صحتي لا تقوى على ذلك. اقتربت مني وقد أمسكت بيدها بعض الأدوية، وبصوت ممزوج بالألم أضافت: أشعر بأن الأطباء يئسوا من شفائي؛ فأنا يا ابنتي أعاني منذ زمن أمراض السكر والضغط، وأخيرا مشكلات في القلب استدعت عمل قسطرة، أحصل على دوائي مجاناً من مستشفى الملك عبد العزيز. لقد طال الأمد بي، وأسعار الدواء تتزايد. توكلت على الله؛ فهو الشافي من كل بأس.

واشتكت لي وقد لمحتُ في عينيها دمعة تأبى السقوط قائلة: اليوم تذكرتُ ولدي الذي أشعر مع مرور الأيام بالاحتياج إليه. أدعو الله أن يرحمه، ويعوضني خيراً.

سألتُها: ماذا تريدين؟ أحضرتْ لي آنية طعام يبدو عليها ملامح القِدَم، وكشفت عما بها قائلة: هذا طعامنا "لبن رايب وخبز"، نريد طعاماً آخر، أحياناً أظل بلا طعام لمدة يوم كامل، ماذا آكل؟!

وعندما أردت الخروج من غرفتها أمسكت بي قائلة: لا تتركينا، شعرنا معك بالمؤانسة. ثم قبَّلتني، داعية لي بالتوفيق والسداد.

الستر حُلْمها
هذه قصة ثالثة بطلتها "الخالة خديجة"، التي حكت لنا ظروفها الصعبة وطريقة وصولها إلى الرباط قائلة: لي ابن واحد في جازان، وعنده 8 أولاد، ولا يوجد عنده دخل، ولا يستطيع أن يدفع إيجار شقته، أو حتى توفير لقمة عيش لأولاده؛ فكيف أُحمّله عبئي، كفى بمسؤولياته، لي رب كريم لن ينساني، وبالفعل دلني أهل الخير على الدار، وجئت وسكنت فيها، واعتبرت من بداخلها أسرتي، وها نحن نعيش اليوم بيومه، لا يسعنا إلا أن نحمد الله على يوم مضى، وندعو بيوم جديد أفضل.
سألتُها عن أحلامها فأجابتني بكلمة واحدة "الستر"، وهو ليس بيد إنسان، بل بيد رب كريم.

17 عاماً في الدار
ثم انتقلتُ إلى "الخالة جميلة" التي جاءت إلى الدار منذ 17 عاماً تقريباً. حكت لنا عن الرباط وقتها، وكيف كان متسخاً وشعبياً تسكنه الحشرات، لكن بحمد الله ثم بمساعدة الجمعية الخيرية عادت إليه الحياة الآدمية مرة ثانية. لاحظت وأنا جالسة معها أنها لا تتحرك من مكانها. سألتُها فأجابتني بأنها لا تستطيع الحركة، وأنها تزحف على يديها وقدميها لتقضي طلباتها؛ فليس بإمكانها شراء كرسي متحرك يُسهّل لها حركتها، وهنا لم أتمالك نفسي من البكاء، وقتها وضعت نفسي مكانها، هل يمكن أن يحدث ذلك لي بعد أن أبلغ من العمر أرذله؟ سترك يا رب.

وسألتها كيف تقضين يومك؟، فقالت: في الصباح نأتي بالخُبز ونأكله، وفي بعض الأحيان يعطف علينا أهل الخير ببقايا طعام، وكان يأتي لنا من أهل الخير وجبات غداء كل جمعة، لكنها انقطعت منذ فترة، وأوقات تأتي إلينا الجمعية بخزين من سكر ومكرونة وشاي.. والحمد لله.

وأضافت الخالة جميلة: أولادي في اليمن يعيشون ظروفاً صعبة وقاسية، وأنا أحاول أن أساعدهم بما يتوافر لي من أهل الخير، ولكني حزنت بشدة عندما علمت أنها لا تستطيع أن توفر ثمن الأدوية الخاصة بعلاجي، وأحلم بأهل الخير أن يحققوا لهي أملي بتوفير راتب حتى أستطيع أن أعالج نفسي.

أخواتي تركوني
أما "الخالة آمنة" فعمرها 80 عاماً، ولم تتزوج، ولا يوجد عندها أبناء. جلست مع أختها فترة، ولكن الإنسان يشعر دائماً بأنه ثقيل على الآخرين، هكذا قالت لي.

اقتربتُ منها، وقبَّلتُها، وقلت لها: كلنا أولادك، ولكني فوجئت بأنها لم تسمعني جيداً، واكتشفت أنها تضع سماعة أذن لا تعمل، وليس في مقدورها أن تأتي بأخرى، وحكت لنا عن معاناتها من الآلام الشديدة في المفاصل، وبكت وقالت: لا أحد يزورني حتى أخواتي تركوني ولا يسألون عني.

إمكانيات محدودة
توجهنا بهذه المطالب إلى مسؤولة الدار هيا البيشي التي أكدت لـ"سبق" حرص الجمعية النسائية الخيرية على توفير الاحتياجات الأساسية لنزيلات الدار وفق إمكانياتها مما يجود به أهل الخير من عطائهم لها.

وحددت شروط الالتحاق بالدار بأن تكون ليس لديها عائل أو أقارب تعيش لديهم، والعمر من 50 عاماً فما فوق، ولا يوجد سكن يؤويها، ولا تحصل على ضمان اجتماعي أو تأمينات اجتماعية.

وأشارت البيشي إلى بعض المشكلات التي تواجههم في الدار، مثل أن تكون السيدة لديها عائل مثل الابن ولكنه عاق ولا يرغب في التكفل بها لظروف اجتماعية، وشعور بعض السيدات بالحرج في السكن مع أقاربهن من غير المحارم "مثل الأخت وزوجها"؛ ما يجعلهن يفضلن السكن في الدار بدلاً من الشعور بالحرج الاجتماعي، وفي هذه الحالة تقبلهن الدار تقديراً لهذه الظروف.

وطالبت البيشي من خلال "سبق" رجال وسيدات الأعمال من أهل الخير بزيارة الدار والتعرف على احتياجات النزيلات اللاتي يحتجن إلى تضافر جهود المجتمع من أجل توفير حياة كريمة لهن.

المصدر
http://www.sabq.org/sabq/user/news.do?section=10&id=99
0
556

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️