سُهَيْلَة.. والحصن المنيع !!

الأمومة والطفل

سُهَيْلَة.. والحصن المنيع !!



كالفراشة الرائعة والزهرة اليانعة .. تتحرك يمنة ويسرة فتملأ الجو شذي وعطراً يسعد بها قلبي كلما ذكرتها كما تسعد بها عيني كلما رأيتها وفي يوم من الأيام اعتراها ما يعتري الصغار من أوجاع وأسقام وأخذت الحمى تسري في جسدها الصغير.. إنه احتقان الحلق الذي يتكرر على جميع الصغير تقريبا , ولكن الحّمى أخذت تتزايد وترتفع درجة الحرارة لتصل إلى 41ْ درجة, جرت الأم إلى الطبيب وهي تحمل سهيلة ذات الخمسة أعوام، وفي السيارة أثناء الطريق لم تكف الأم عن الدعاء وترديد الرقى الشرعية وأدعية المرض .. لقد بلغت الحمى بسهيلة درجة الهلوسة فماذا كانت تقول وتردد أثناء هذه اللحظات ؟! كانت تقول:

اقرءوا لي قرآن ... اقرءوا لي قرآن ..من يحبني يقرأ لي قرآن !!

فهل أدركت الصغيرة أن القرآن هو ملاذها فى هذا الموقف العصيب وحصنها الذى تحتمى به وتلجا إليه؟

الموقف قد يتكرر مع الكثيرين منا , فيقرأ الطفل المريض أو المحموم بالذات آيات من القرآن أو يطلب سماعه بإلحاح كما فعلت سهيلة.

˜ فما هي الدلالات التربوية لهذا الموقف ؟

1- مسئولية النقش فى قلوب الصغار:

من أقوى الدلالات التي يثيرها هذا الموقف وينبه عليها: أن قلوب الأحباب الصغار شديدة النقاء والتأثر شديدة القابلية لتلقي ما يطبعه الكبار فيها, مما يجعل مسئوليتهم كبيرة أمام الله تعالى، يقول النبى r: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيّع؟" ويقول الإمام الغزالي :

" الصبي أمانة عند والديه , وقلبه الصغيرة جوهرة طاهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة وهو قابل لكل ما نقش فيه , ومائل إلى كل ما يمال به إليه , فإن عُوّد الخير وتعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه والداه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوّد الشر وأُهْمِلَ إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له, ومهما كان الأدب يصونه عن نار الدنيا , فبأن يصونه عن نار الآخرة أولي وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه."

فالطفل بسلوكه واهتماماته ومظهره إنما هو من نقش والديه، فمن الأمور المسلم بها لدي علماء التربية والأخلاق أن الطفل حين يولد يكون على فطرة التوحيد , وعقيد الإيمان بالله , وعلي أصالة الطهر والبراءة فإذا تهيأت له التربية المنزلية الواعية والخلطة الاجتماعية الصالحة , والبيئة التعليمية المؤمنة نشأ الولد ولاشك على الإيمان الراسخ والأخلاق الفاضلة .

وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوَّده أبوه

وما دان الفتى بحجىً ولكن يعلمه التدين أقربوه

2- أهمية السنوات الأولي من عمر الطفل فى عملية التربية وبناء شخصية الطفل:

يتعلم الطفل في سنواته الأولي أكثر بكثير مما يتصوره الآباء , فإن العادات يمكن أن يكتسبها بسهولة كلما كانت سنة أصغر حيث أن 90% من العملية التربوية تتم في السنوات الخمس الأولي، وتتجلى أهمية الطفولة المبكرة «مرحلة ما قبل التمييز، أو مرحلة ما قبل المدرسة» حين نعلم أن الطفولة الإنسانية أطول من أي طفولة في الكائنات الحية، كما تتميز الطفولة الإنسانية بالصفاء والمرونة والفطرية، وتمتد زمناً طويلاً يستطيع المربي خلاله أن يغرس في نفس الطفل ما يريد، وما يتربى عليه الطفل يثبت معه على مدى حياته كلها، وما يتلقاه فى الطفولة المبكرة يرسم الملامح الأساسية لشخصيته المقبلة، ويكون من الصعب جداً إزاحة بعض هذه الملامح مستقبلاً حتى لو كانت غير سوية، تقول مارجريت ماهلر:" إن السنوات الثلاث الأولى من حياة كل إنسان تعتبر ميلاد آخر"

ولأن الله جعل الوالدين مسؤولين عن عقيدة الطفل؛ فإنه جعل الطفل يتلقى من والديه فقط طيلة طفولته المبكرة، وجعله يرى والديه مثلاً أعلى في كل شيء حسن فلا يصدق غيرهما، وذلك ليحصن الله عز وجل الطفل من التأثيرات القادمة من خارج الأسرة في الطفولة المبكرة، كما جعل الله سبحانه وتعالى الطفل يعتمد على والديه في كل شيء خلال هذه المرحلة، وهذا يساعدهما على تنفيذ المهمة الموكلة إليهما.

كما أن الطفل في هذه الفترة يميل إلى إرضاء والده , يحاول أن يستخرج منه عبارات المديح والثناء والإعجاب , فإذا علم الآباء والمربون ذلك كان من البديهي أن يحرصوا كل الحرص على استغلال هذه الفترة في بناء شخصية الولد إيمانياً وحسن تأديبه وتعليمه.

يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالي :

" أقَْوَم التقويم ما كان في الصغر , وأما إن ترك الولد وطبعه فنشأ عليه ومرن كان رده صعبا "

قال الشاعر :

قد ينفع الأدب الأحداث في مهل وليس ينفع في ذي الشيبة الأدب

إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب

فليطرح الآباء والأمهات والمربون إذن وراء ظهورهم تلك العبارة التي طالما وقفت حجرة عثرة في سبيل تأديب كثير من الأبناء " إنهم مازالوا صغاراً " أو " عندما يكبرون سيعرفون كل شئ ".

3- الطفولة المبكرة هى أفضل الفترات لبناء الطفل عقدياً وإيمانياً:

إن السنوات الأولى..بل لا نبالغ إذا قلنا اللحظات الأولى من عمر الطفل هي أفضل وأهم الفترات لتربية الطفل إيمانياً وترسيخ عقيدة التوحيد ومعرفة الله تعالى فى نفسه.

ولذلك أوصي النبي صلي الله عليه وسلم بأن يكون أول ما يقرع سمع المولود هو كلمات الأذان التي تحمل معاني التوحيد الخالص وإفراد الله تعالي بالعبودية والتبرؤ من كل معبود سواه .. يقول ابن القيم رحمه الله تعالي : أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلمات النداء العلوي المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام , فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا كما يلقن كلمة التوحيد من عند الخروج منها وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر ومع ما في ذلك من فائدة أخرى : وهي هروب الشيطان من كلمات الآذان وهو كان يرصده حتي يولد: فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه به.

وفيه معنى آخر: وهو أن يكون دعوته إلى الله وإلى دينه – الإسلام – وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان كما كانت فطرة الله التي فطر الله فطر الناس عليها , سابقة على تغيير الشيطان لها ونقله عنها إلى غير ذلك من الحكم " ... أ. هـ

ولأهمية هذه الفترة من عمر الطفل في تلقيه لأصول الإيمان أمر النبي r بالفتح على الغلام (الولد) بكلمة لا إله إلا الله.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي r أنه قال : " افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله ".

والسر في هذا : لتكون كلمة التوحيد وشعار الدخول في الإسلام أول ما يقرع سمع الطفل وأول ما يفصح بها لسانه وأول ما يتعلقها من الكلمات والألفاظ كما أمر r الآباء والمربين أن يأمروا أبنائهم بالعبادات وهم في سن السابعة , فعن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن رسول r أنه قـال: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين , واضربوهم عليها وهم أبناء عشر, وفرقوا بينهم في المضاجع ".

ويقاس على الصلاة الترويض على بعض أيام الصوم إذا كان الولد يطيقه وسائر العبادات.

4- أهمية ربط الأبناء بالقرآن الكريم منذ نعومة أظفارهم :

وذلك في وقت مبكر جداً منذ أن يشرع الطفل بالنطق , فهذه هي المرحلة الذهبية للحفظ والتلقي والتعامل النفسي مع ما يتعلمه الطفل ويحفظه.

لذلك أوصي نبينا صلي الله عليه وسلم الآباء يتعاهد ذلك فقال عن على رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم : " أدبوا أولادكم على ثلاث خصال : حب نبيكم , وحب آل بيته ,وتلاوة القرآن , فإن حملة القرآن في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفائه ".. رواه الطبراني.

وعلى ذلك سار الصحابة رضوان الله عليهم , فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه :

" كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله كما نعلمهم السورة من القرآن" وكأن اهتمامهم بتعليم أبنائهم سور القرآن كان في المرتبة الأولي حتي يضربونه به مثلا في شدة الاهتمام والعناية , وأوصي الإمام الغزالي في إحيائه.

" بتعليم الطفل القرآن الكريم وأحاديث الأخبار, وحكايات الابرار "

وأشار ابن خلدون في مقدمته إلى أهمية تعليم القرآن للأطفال وتحفيظه وأوضح أن تعليم القرآن هو أساس التعليم لأنه يؤدي إلى تثبيت العقيدة ورسوخ الإيمان.

5- القرآن يبني شخصية الطفل :

إن تعليم الطفل القرآن يعمل بقوة على بناء شخصيته إيمانيا، كما يربي في نفسه قيم الأخلاق العالية والسلوك المستقيم ويشكل شخصيته وطريقه تفكيره تشكيلا يتسم بالنقاء والأصالة كما يمنحه فصاحة اللسان وسلامة المنطق ويزوده بالوعي والمعرفة وقوة الذاكرة.

وقد ورد في هذا المعني " من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه وجعل الله مع السفرة الكرام البررة ".

كما أن حفظ الأبناء وتعلمهم بالقرآن وتعلقهم به وارتباطهم به , يجعل نفوسهم هادئة مطمئنة مرتبطة بالخالق سبحانه وتعالي – مما يجعلهم ينعمون بمعية الله تعالي وحفظه لهم كما يجعلهم في حصن منيع يحميهم من تسلط الشياطين عليهم أو إيذائهم.

حتي يصير فعلاً مخالطا للحمهم ودمهم , يرتلون آياته مع والديهم أو مؤدبيهم لا يطيقون بعداً عن مصاحفهم أو شرائطهم المرتلة وحتي في ساعات المرض والحمي ينطق لسانهم بما اختلج في قلوبهم الخضراء من محبة كلام الله تعالي وشدة الارتباط به فيطلبون سماعه كما فعلت سهيلة.

والآن قد عافاها الله تعالى من الحمى وعادت تواصل مع محفظتها حفظ وترتيل آيات القرآن الكريم.



منقول مفكرة الإسلام
0
418

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️