يقف رجل وسط الجمع وينادي "شربة الحاج رياض.. علاج لكل الأمراض" فيتسابق الناس للشراء.. ربما يكون أحدهم قد جربها من قبل أو سمع من أحد عنها.. فيذهب ليشتري باقتناع تام أنها العلاج.. والنتيجة شفاء فعلي!! لم تكن مكونات تلك الشربة تتعدى النعناع والكمون المصحون.. لكن سرها المكنون كان أبسط وأقوى علاج.. فقط بالوهم!!
كان ينظر للعلاج الوهمي في الماضي على أنه الحجة الأخيرة للأطباء غير المتمكنين الذين لم يكن لديهم علاج حقيقي يقدمونه لمرضاهم. واعتبر كثير من الباحثين أن العلاج الوهمي نوع من الأكاذيب التي تساعد على الشفاء؛ فكان بعض الأطباء الأمريكيين يلجئون إلى هذا الأسلوب في معالجة مرضاهم في الأربعينيات، فيعطون مرضاهم أقراصًا من السكر، ويوهمونهم بأنها عقاقير طبية نافعة، واستطاعوا من خلال هذه الأكاذيب أن يساعدوا على شفاء مرضاهم، ومن هنا اكتشف الأطباء أن الإيحاء قد يكون أكثر فاعلية من العقاقير الطبية في كثير من الأحيان.
وتأتي كلمة "بلاسيبو" (placebo) أو العلاج "المموّه".. من أصل لاتيني، يعني السعادة أو السرور، ودخلت اللغة الإنجليزية عن طريق خطأ في الترجمة، واستخدم الأطباء "البلاسيبو" كتجربة حاكمة (Control) لضبط نتائج التجارب الطبية على الأدوية الجديدة لعدة عقود، ويرجع السبب الحقيقي لعدم اقتناع العلماء بهذا النوع من العلاج هو إغفالهم للنتائج التي يحققها العلاج بالبلاسيبو، ولكن تأثير العلاج بالأدوية الوهمية أصبح موضوع دراسات علمية جادة مؤخرا.
الوهم.. في كبسولة
في مجال علم النفس اكتشف الأطباء أنهم يستطيعون تحقيق الشفاء لمرضى الاكتئاب النفسي باستخدام الأدوية الوهمية. وبينت دراسة أمريكية نشرتها وكالات الأنباء (3-1-2002م) أن الأدوية الوهمية التي تعطى لمريض الاكتئاب تؤثر بالفعل في إحداث تغييرات في نشاط المخ لدى المريض، رغم أن هذه الأدوية قد لا تخرج عن كونها قطعة من السكر مغلفة على شكل حبة دواء. وفي دراسة أخرى أجريت على 51 مريضًا يعانون الاكتئاب الحاد، حدث رد فعل إيجابي لنصف المرضى الذين تناولوا أدوية وهمية، وحدث رد الفعل نفسه لدى نصف العينة من المرضى الذين تناولوا أدوية حقيقية! ويفسر العلماء ذلك بقولهم: إنه يكفي للمريض الإحساس بأنه يتناول دواءً فعالاً، حتى يثير ذلك لديه رد فعل إيجابيًا.
وللتأكد من نسبة شفاء ثلث المرضى نتيجة لاستخدام العلاج الوهمي لعلاج قرحة المعدة.. قام بعض الأطباء بإجراء دراسة على استخدام "البلاسيبو"، ومقارنته باستخدام دواء جديد كان قد ظهر في السبعينيات، واعتبر ثورة في علاج القرحة في ذلك الوقت، وكانت النتيجة أن نسبة الشفاء المذكورة التي تم شفاؤها عن طريق العلاج الوهمي كانت نسبة صحيحة وحقيقة، واقتربت تمامًا من طرق العلاج التقليدية الأخرى.
وفي مجال العلاقات الجنسية كان تأثير الأدوية الوهمية عظيمًا بالنسبة للرجال والنساء على حد سواء. وحسب الدراسات التي أجرتها شركة "فايزر" فقد بلغ متوسط نسبة فاعلية الفياجرا حوالي 73%، وأما المرضى الذين تعاطوا دواء وهميا فقد بلغ متوسط الفاعلية 24%.
وكذلك نجح الدواء الوهمي في مجال القضاء على الآلام، ويعزي العلماء ذلك لإفراز الجسم لمادة "الأندورفين" وهي شبيهة بمادة "المورفين" التي تستخدم لتخفيف الآلام، وهذه المادة يمكن إفرازها بالإيحاء والإيهام. أما أطرف استخدام للعلاج الوهمي فكان في القضاء على الصلع؛ ففي دراسة حديثة لمرضى الصلع تبين أن استخدام هذا العلاج يساعد على عدم سقوط الشعر ونموه بشكل غزير.
كما تطورت تقنية العلاج الوهمي لدرجة أنها استخدمت في الكثير من العمليات الجراحية، وابتدع الأطباء في ولاية "تكساس" الأمريكية عملية غريبة اسمها جراحة "اللاشيء" أو "العدم"، واستخدموها بكثافة في علاج آلام الركبة والمفاصل. ويقوم الأطباء بتخدير المرضى وإجراء فتحة كبيرة بالمشرط حول الركبة دون أن يفعلوا أي شيء داخلها. وكانت المفاجأة أنه بعد عامين من هذه الجراحة الوهمية امتثل جميع المرضى للشفاء، واختفت الآلام، وأصبحوا يعيشون حياة طبيعية!
الصيدلية الداخلية.. هي السر
يُعد جسم الإنسان معجزة إلهية، ومن أهم ملامحها الظاهرة للعيان هو تكوين الجسم للعلاج المناسب للخلل الوظيفي الذي قد يصيب أحد أجزائه. فالجسم يقوم بإفراز بعض العناصر الكيميائية لعلاج المرض بمقدار معين، وهو ما يعرف بمصطلح "الصيدلية الداخلية"، و"الصيدلية الداخلية" هي إحدى القوى الجسمية المتأصلة للعلاج؛ بمعنى أنها موجودة كجزء أساسي من أجزاء الجسم، وهي علاج موجود بالفعل في داخل الجسم يساعد على تحسين سير العملية العلاجية، ويعتبرها "د. أندرو تايلور" مؤسس علم التخدير "مخزن الدواء الإلهي".
وفي العلاج التلقائي يتجه الجسم لشفاء نفسه دون الاعتماد على أي رسائل داخلية أو خارجية لاستثارة هذا العلاج. ويفرز الجسم البشري تلقائيًّا مادة تسمى "الشفاء الذاتي"، لكنه أحياناً يكون بطيئًا في إفراز هذه المادة، وفي هذه الحالة يكون في حاجة إلى مساعدة خارجية لحث "صيدلية الجسم" على العمل بكفاءة أكثر. وكذلك الاستجابة للعلاج بالبلاسيبو؛ فهي تحتاج إلى مساعدة خارجية تتمثل في بعض العقاقير الإيحائية، أو رسالة موجهة إليه يتم توجيهها للمخ إما عن طريق المريض نفسه وإما من الشخصية المعالجة له.. هذه الرسالة تعمل على حث المخ ودعمه، ويحدث الشفاء السريع عن طريق ربط العلاج الخارجي بنتائج عمل الصيدلة الداخلية، والواضح أن العقل يمكنه شفاء الجسم إذا امتلأ بروح الأمل والتفاؤل.
التسامح.. مفتاح الصيدلية!
يعتبر مصطلح "الصيدلة الداخلية" عاملا مهمًا يؤكد مساهمة المريض الفعالة في العملية العلاجية، وهو يعطي صورة شاملة وإيجابية للعلاج بالبلاسيبو، ولكن الاستجابة لهذا العلاج لا تعطي نفس النتائج دائما؛ فالعلاج الذي ينجح مع بعض المرضى ربما لا يفيد في حالات أخرى مشابهة.
والحالات التي استجابت للعلاج بالبلاسيبو كانت كلها نتيجة لتحدث المريض عن مرضه، ووجود من يستمع له، ويشرح له مرضه، وطريقة علاجه، وما المفروض أن يفعله تجاهه. ويشعر المريض بأن هناك من يهتم به، وهو ما يؤدي إلى وصول المريض إلى إحساس قوي بالقدرة على التحكم في مرضه أو أعراضه. وفي الحقيقة يبدو أن هذه الطريقة مؤثرة في الحالات الحرجة التي يواجهها العلاج التقليدي، ولا تأتي بنتيجة جيدة.
ويقول صاحب مصطلح "الصيدلية الداخلية" وهو مؤلف كتاب "الاستجابة للدواء الخادع" الصادر حديثا في الولايات المتحدة: "إن الأمر يبدو كما لو كان معجزة طبية، بل هو بالفعل معجزة؛ حيث استطاع الأطباء بشكل ما علاج أمراض لم يُعرف لها علاج بصورة قاطعة من خلال الإيحاء للمريض". ويرى الكاتب أن التسامح والمغفرة والرغبة في الشفاء من الأشياء التي تفتح الطريق للصيدلية الداخلية للجسم لتؤدي عملها بكفاءة وبصورة فعالة، وبالتالي تتم الاستجابة للعلاج والشفاء التام عندما يكون هذا التسامح حقيقياً!
كما يرى الكاتب أن التسامح مع النفس أهم أسلحة العلاج؛ فإحساس المريض بمسئوليته عن مرضه أو عن عدم تحقيق الشفاء المرجو يتسبب في مضاعفة الآلام واشتداد وطأة المرض عليه. أما المشاعر الإيجابية فإنها تتسبب في تهيئة الممرات لتحقيق الشفاء السريع، كما أنها تتسبب أيضًا بشكل غير مباشر في دفع الصيدلية الداخلية لإنتاج الدواء المطلوب.
المصادر:
وكالات الأنباء، الأدوية الوهمية تفيد أحيانا!، الأهرام اليومي، 3/1/2002م
الإيحاء علاج فعال لكثير من الأمراض، جريدة البيان الإماراتية، 24/8/2002م
سيدة الوسط @syd_alost
عضوة شرف في عالم حواء
هذا الموضوع مغلق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️