شعـــــــب حافي !!

الملتقى العام



بسْمِ اللهِ .. الحَمدُ للهِ ، وَالصّلاةُ وَالسّلامُ عَلى رَسُولِ اللهِ ، وَبَعدُ ..

تغوصُ بنا عشراتُ المواقفِ في كلّ يوم نودعُ شمسهُ مع دُنو رَحيلها ونشيّعها بأبصَارنا وهي تتوارى في مَهدها ، مُعلنة إنتهاءَ فصل جديدٍ ومتكرر من فصول تواجُدها النيّر بيننا .. وكانت هذهِ المواقف قد جَمَعتنا مع مَن يشاطرونا المعيشة على هذهِ البسيطة .. منهم من نتذكرهم فنتمنى لو أنّ عجلة الزمن ترجعُ بنا إلى الوراء كي نطبعَ قبلاتٍ حارةٍ على جبينهم الطاهر ، أو نصرخ لهم بمِلئ أفواهنا أننا نحبهم ، أو رُبما قصدناهم راجين عفوهم وصفحَهم عمّا بَدَرَ منا تجاهَهُم ؛ لجَهلنا وعدم إدراكِنا لمعدنهم الأصيل في وقت مضى ..

وعلى النقيض من ذلك الشعور ، مِمّن نتذكرهم مَن نتمنى أن نأخذ بحقنا منهم ونؤكد لهُم بأن صِغرنا وقِلة حيلتنا في وقتٍ مَضى لا يَمنعان التعقلَ والتمييز من أن يَسلكَا إلى عُقولنا سبيلاً ، فإنّا وإن كنا صبية وفتيان لا يُستغرب من أمثالنا الزلل ولا مَلامة على مُخطئنا في خطئه ؛ إلا أن السُمو البشريّ في نفوسنا يُلزمنا بألا نقبل بما كنا نعامل به ، ويَحثنا من جهةٍ أخرى على ألا ننهجَ ذلكَ المنهجَ مع الذين سَيُماثِلونَ أعمَارنا آنفة الذكر ؛ عما قريبٍ ، وأن نتخذ مَسلكاً جديداً من طرق وأساليب التعامل مع النشء الإسلاميّ ، حتى لا نخطئ كما أخطئ أسلافنا ونكمل ذلك العقد التربوي المغشوش بجهلِنا وإصرارنا على الإقتداءِ بمن سَبَق أيّاً كانت مواقفهم وأساليبهم ، صحيحة كانت أو سقيمة ..

وأجملُ تلك المواقف وأحبّها للنفس هي تلكَ التي عايشها المرءُ في صِغره مع أناس كان ولا زال يتذكرُ لهم الفضلَ العميمَ عَليهِ ولا يجرؤ على أن يُنكرَ ذلك أو يتناساه ، بل كلّ ما وَصَلَ إليهِ في حياتِهِ مما قد يَغبطهُ عليهِ غيرهُ ؛ أساسهُ منهُم ولهُم فيهِ اليد الطولى والأثر الجلي .. فما أجمل أن يقترن جمال الموقفِ الذي يمرّ على البال بين الفينة والأخرى في نفس المرء مع حبّه وإجلاله للشخص المقابل الذي شاركه ذات الموقف ، بل ربما كان الموقف لهذا الثاني وأستطاع المرء حفظهُ عنهُ إكراماً لهُ ، ومعرفة بقدرهِ وندرة أمثالهِ ، خصوصاً في زمن كثرت فيهِ قطعان الذكور وأصبحَ الحرّ فيه بألفِ ألفٍ منهم ..

من هؤلاء الأكارم .. رجلٌ وقورٌ فاضلٌ ، كان يسكن الحي الذي نسكنه ، ويصلي في ذات المسجدِ الذي نصلي فيه ، وكثيرة تلك المواقف التي جمعتني به ولا زلت أحفظ إيجابيته فيها نحوي ، فكم كانت سعادتي غامرة به وهو يصافحني دُون سواي أثناء خروجي من المسجد مصادفة معه ، في تجسيدٍ بديع لمعنى الرحمة في الإسلام من الكبير إلى الصغير وإن لم يكن يربطهما غير الإنتساب الديني ، وكم كانت تتراقص على شفتيّ الإبتسامات تلو الإبتسامات في كلّ مرةٍ يُشرفني فيها الرجل ذاته حين يَصحَبني في سيارتِه ، وكم كنت أتخيلُ نفسي أني أطيرُ مِن الفرَح وأنا أراهُ يبتسمُ لي أو يقبلني أو يمتدحني عند أصحابه وأقرانه ، ولا أنكرُ فضلَ تلك الإبتساماتِ والقبلاتِ والمدائح على حياتي فيما يلي تلك الفترة حتى يومنا هذا وساعتنا هذه ، كان هذا الرجلُ نعم القدوة وكنت أرى فيه الحياة والسعادة والأنس والفرح ، ولا أتخيّل أني قد أعيش يوماً بعيداً عنهُ ، ولا أخال شعوره تجاهي يختلف عن شعوري تجاهه إن لمن يكن أقوى ، فعاطفة الأبوّة أحن من عاطفة البنوّة والمجرب يدرك ذلك جيداً .. نسيتُ أن أخبركم بأنّ ذلك الرجل هو والدي الحبيب ..

ومن خلال المواقف التي كانت تجمعني به - حفظهُ الله من كل سوء ومكروه - كنتُ أحاولُ جاهداً أن أسمعَ منهُ كلّ حرفٍ يتعطرُ بالخروج من بين شفتيه ، فهو رجلٌ صالحٌ أحسبهُ كذلكَ واللهُ حسيبهُ ، وقد ربّى في نفسي مُنذ الصغر تقديرَ الصالحين وإكبارهم وجعلهم قدوة في الحياة .. وقد كانت تلك الحروف تجدُ مني وقتَ أنسٍ ومرحٍ وسعادةٍ لا تـُـنكرُ على الأطفال حينها - وأنا منهم آنذاك - فلا ألقي لها بالاً ، وفي أوقاتٍ أخرى تجدُ مني صفاءً ورغبة في الإستماع فتتمكن من أذنيّ وتتشبث بهما ولا تسمح لها بأن تغادرها .. وقد كان لركوبي معه في السيارةِ نصيبَ الأسدِ للظفر بتلك الكلماتِ ، خصوصاً التي يكثر تردَادها على لِسانه ..

وكم هي تلك المرات التي أخرج فيها رأسي الصغير من النافذة الخلفية للسيارة لأستمتع بالجو الخارجيّ المحيط بالسيارة ولأتميّـز عن أقراني في السيارة بتميّز لا يحصلوا عليه في وجودي ثم أتفاجئ بالمحسُوسات من حولي تتغيرُ فماهي بتِلك التي عَهدتها على الصفاء مُنذ لحظات ، وأخرجُ من تعجبي وإستغرابي حين أعلمُ أن أحدَ السائقين المجاورين - هداه الله - أزعجَ والدي في خطِ سيرهِ بتصرفٍ قيادي غير حضاري مِمّا أجبر أبي على تغيير مسار السيارةِ دون الأخذِ بالإعتبار أن رأسي الموقر لا يتقبل مثل تلك التغييرات المفاجئة ، لكني سرعان ما أتدارك الموقف بأن أسبق والدي إلى الكلمةِ التي أعلمُ يقيناً أنهُ سيُخرجها عن الموقفِ فأصرخ بالرصيد المتبقي من وعيي وإداراكي وبملئ فيّ : شعب حافي ..

كانت تلك الكلمة من أكثر الكلمات التي أسمعها من والدي أثناء قيادَتِه للسيارةِ ، ولم يكن يُصدِر مثل هذا التعليق - الموجز في أحرُفه ، الغزير في معناهُ ومدلولاته - إلا حين يَرى أدبيات القيادة قد تم إعتقالها بين دفتيّ الكتب المخصّصَة لهَا فما عادَ الناسُ يطبقونها على مسرح الواقع وغدَت تصرفاتهم داخل سياراتِهم أشبه بقانون الغابِ وأعماق المحيطاتِ ، إذ البقاءَ في تلكَ للمفترس والأقوى دائماً ، وفي الشارع لا يختلفُ كثيراً الحالُ عن حالِ تلكَ الأماكن ، فالبقاءُ فيهِ لكلّ من قلّ حلمهُ وزادَ سفههُ ، وأما شرفاءُ القيادةِ فهُم يُدركون أنهم قلة من العقلاءِ الذين لا يَسمحون للآخرين بأن يُخرجوهم عن طورهِم ، حتى وإن كانت تصرفاتهم في القيادةِ همجية وبعيدة عن الخلق السامي والأدبِ النزيهِ في التعامُل ..

وبناءً على ذلكَ الوصفِ الذي كان يُصدِره والدي بين الفينة والأخرى على من أساء التصرُفَ في القيادةِ ، فقد آثرتُ أن أستخدِمَهُ كعنوانٍ لكلماتي هذهِ مع تعميم إساءةِ التصرُف ، إذ لن تقتصرَ على القيادة في الطريق بل تتعداها إلى إساءة التصرُف في كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ من جزئياتِ مُجتمعنا الكبير .. وقد أتعدى مُجتمعنا بمَفهومِهِ العام إلى مُجتمعنا الحديث الذي لا يقل في أهميتِهِ عن أخيهِ الأكبر ، وأعني بالأصغر : مجتمع الإنترنت ؛ وما صاحَبَ تعرفنا عليه من تجدّد وتغير للكثير من المفاهيم والمُسَلـّــمات في النفوس ، ولعل المتبصر الواعي لما يَدور في هذا المجتمع المُصغر يُدرك مغزى حديثي ويعلم دُون أن أصرحَ بأثر ذلكَ المجتمع ودورهِ في التأثير على أخيهِ الأكبر سِلباً وإيجاباً ..

ومن أبرز تلكَ التصرفات التي تستحق أن ننعتَ مرتكبيها بـ شعب حافي ؛ هي تلكَ التي كانَ والدي على حق في إطلاق هذا الوصفِ على مُرتكبيها .. فالسلوكيات اللامسؤولة الصادرة من سائقي السيارات لا تخفى على أحدٍ منا ، ولا أخالُ شارعاً من شوارع بلادِنا الموقرة يخلو منها ، وهي لا تختصُ بسيارةٍ دون سيارةٍ ، أو فئةٍ عمرية دون أخرى ، بل هي تعمّ الجميع صغاراً وكباراً شيباً وشباناً ، ومن المؤلم أن نرى من هُم بأعمار أبائنا وربما أجدادنا مِمّن يعتبروا الشارعَ ملكاً خاصاً لهم ، ولهم مطلق الحرية في التصرف فيه كما يحلو لهم ، فيسيرُ الواحدُ مِنهُم كما يشاء بأي طريقة شاء ، يستدير وقت ما بدا له أن يستدير ، ويقف متى ما أراد أن يقف ، وينتقل من مسار لآخر دُونَ أن يُكلِف على نفسِهِ جُهد النظر للمرآة حتى يَرى إن كانَ حَوله مَن سيتضرر مِن همجيتهِ في القيادةِ أم لا ..

قبل عدّة سنوات ، كنتُ عائداً إلى المنزل بعد دوام يوم شاق ، وكان مكيف السيارة عاطلاً عن العمل كحال الكثير من شباب اليوم ، مما جعلني أفتح النافذة وأسيرُ وأنا متذمرٌ من الهواء الحار الذي دخل علي في السيارة دُون استئذان ، وفي أثناء الطريق .. توقفت على مَدخل الدوار لأنتظره يخلو من الزحمة المعتادة ، وأثناء وُقوفي رأيتُ أمامي حافلة تقلّ طالبات إحدى المدارس الثانوية الخاصة ، وبجوار الحافلةِ من اليمين ونيت ، وكلا السيارتين قد استخدمَ أصحابها المؤشر الأيمن يُريدا بذلك الخروجَ من الدوار ، وحين قاربت السيارتان من الخروج تفاجئتُ وتفاجئ معي كلّ من بالدوار حين رأينا السيارة الأخرى - الونيت - وهي تغيرُ مسارَها وتتجه صَوب اليسار مما جَعَلهَا تصطدم بكلّ قسوةٍ بحافلةِ البنات .. توجّهتُ صوب الحادثِ وأنا داخل سيارتي مع من توجّه ، واستمعتُ لسائق الحافلةِ - أشهد أنه مهذب - وهو يسأل العم الكبير سائق الونيت " إزاي ياعمي الشيخ انته بتأشر غماز يسار وبتلف يمين؟ " ، فردّ عليهِ العم الكبير مباشرة " يا &!$#@%& أنت عاقل تحط عقلك بعقل غماز ؟ الغماز غمازي وأنا أحطه وين ما أبي " ، ولا أخال باقي المشهد يخفى على أحدٍ منكم ..

هذا موقفٌ واحدٌ فقط من عشراتِ المواقف بل مئات المواقفِ اليوميةِ التي ينتجُ عنها إتلافٌ في الممتلكاتِ ورُبما في الأرواح أحياناً ، والسببُ يعودُ إلى تعنتِ السائقين وتزمّتهم .. ويعودُ في أحيان أخرى إلى السرعةِ والتهور وطيش الشبابِ المتأجج ، وحديثي عن الفئةِ العمريةِ السابقة ِلا يعني إقراري بمثالية قيادة الفئة العمرية الأصغر سناً وهي فئة الشباب ، فكبار السن وإن صَدَرَ منهم الخطأ في القيادة فلن يكون الأثر جدّ خطير ، وغالباً ما ينتجُ عن سوءِ تقدير أو جهل بالأنظمةِ المروريةِ كالذي رأيتهُ يسيرُ بسيارتِهِ في الطريق الدائري وهُو في الإتجاهِ الخاطئ ، بينما أخطاءُ الشبابِ قاتلة ومميتة نظراً لأنّ القيادة عندهُم تعني السرعة و التغريز والإستعراض إلا من رَحِمَ ربي وقليلٌ ماهم ..

ومن صور الشعب الحافي الأخرى والبعيدة عن مجال القيادةِ المروريةِ هي أننا نجدُ الطالبَ زيد يجدّ ويجتهد ويثابر ويقلل من نومهِ وخروجهِ ولعبهِ حتى يحصّل أعلى الدرجات في آخر العام ، وحين يتحقق له مراده ويكاد يطيرُ من الفرح وهو يستلم شهادته الثانوية .. نجد أن عبيد زميله الكسول النائم الذي لا يتذكر من الحصص الدراسية إلا الجلوس آخرَ الفصل والنوم أو العبث بالجوالات ، نجدُ الثاني وقد تمكنَ من الدخول في أفضل التخصّصَات وأفضل الأقسام ، بينما زيد المسكين يظل منتظراً وربما توجّهَ صوب الدراسةِ الخاصةِ أو قرر الإنتظام في كليةِ الحياةِ والفراغ ، وسبب ذلك كله يعودُ إلى المسؤول الحافي الذي خانَ دينهُ وأمتهُ ووطنهُ حينَ وضع الأمور في غير موضعها وأجازَ الطالبَ الكسول لأن لديه و كبيرة .

ومن صور الشعب الحافي كذلك ، الحال الروتيني الذي يُقابَل به مراجع الدوائر الحكومية من قِبَل موظفي الدولة ، فاللامبالاة والإهمال والتسيّب عنوانٌ بارزٌ وواضحٌ لتعامُل الكثير من أولئك الموظفين إلا من رحم ربي ولا أعمِم ، يخرج المعلمُ من مَدرَسَتِهِ أو الطبيبُ من عيادَتِهِ وهو يَأملُ أن يُنهي مُعَامَلته بكلّ سرعةٍ حتى يعودَ إلى مقر عملهِ فيواصِل إبداعَه وإنتاجَه فيُقابَلُ بموظفٍ متبلد الإحساس يُعامله بكلّ دناءةٍ وإحتقار وكأن المُراجع سيأخذ راتبَهُ بدلاً عنهُ ، ذلكَ التعامل السيء لاشك أن أثرهُ لا يقتصرُ على المُراجع فحسب ، بل سيؤثر على من سيتعامل معهم المراجع فيما بعد من زملائه في العمل أو أهله في المنزل .

ومن صور الشعب الحافي كذلك ضعف الثقافةِ المهنيةِ لدى رجال المرور ، فتجدُ أن عدداً ليسَ بالقليل منهُم لا يعرفُ من العسكريةِ إلا البذلة التي يرتديها ودفترَ القسائمَ الذي يَحمِلهُ معهُ أينما حل وارتحل ، تبحثُ من بينِهم عمّن يعرفُ أسسَ القواعدَ المروريةِ مِن توقفٍ وتحركٍ وإستدارةٍ وتجاوز فلا تجدُ إلا بعد طول بحث ومعاينة ، ولا أدلّ على ضعفهم التثقيفي في مهنتهم من ذلك المتخلف الذي رأى ثلاثة من صغار السن بسيارة والد أحدهم فانطلقَ وراءهم بكلّ ثقله وقوته مستعيناً بالعمامة الملتهبة التي فوق سيارته مما جعلَ الصبية الصغار يشعرون بالخوف والرعب ونتجَ عن خوفهم ذلك هروبٌ غير متزن نتجَ عنهُ إنقلاب السيارة ووفاة وإصابة من بداخلها .. أرواحٌ تزهق وعوائل تـُـكلـَـم والسببُ هو رجل المرور الجاهل الذي يظنُ أن من كمال أدائِهِ الوظيفي تشغيل العمامة الملتهبة في كلّ وقتٍ وحين وإفراغ دفتر القسائم بأسرع وقتٍ ممكن ..

ومن صور الشعب الحافي كذلك مما وقفتُ عليهِ بنفسي ، فقد كنتُ ولا زلتُ أستمعُ بين الفينةِ والأخرى للأخبار التي تتحدثُ عن تكريم وَالدنا الغالي فهد بن عبدالعزيز حفظهُ الله وألبسهُ ثياب الصحةِ والعافيةِ ، بسببِ خلوّ المدينة ومكة من التدخين ، وكم سُررنا واللهِ لِهذا الخبر الرائع وهذه الخطوات الجرئية الزاكية ، فالمدينة المنورة الآن لا يُسمح فيها ببيع التدخين رسمياً ولا يُوجد بيعٌ للتبغ فيها وفي محطاتها رسمياً إلا خارجَ حدود الدائري الثالث ، ومع فرحتي ونشوتي بذلكَ القرار الرائع والشجاع استوقفتني لوحة عندَ إحدى أشاراتِ المرور مكتوبٌ فيها ( أنتَ في مدينةِ رسول الله ، نناشدُكم عدَمَ التدخين ) ، فازددتُ فرحاً وأنسأً وحمدت الله على هذا التقدم الملحوظ ، والمشهودُ بالفضل فيهِ بعدَ اللهِ لسمو الأمير مقرن أمير المنطقة ورئيس مجلس إدارة جمعية مكافحة التدخين ، ولمَعَالي الأمين الحصين ، ولجمعيةِ مكافحةِ التدخين .. وبعدَ أن اكتحلتُ مليّاً بتلكَ اللوحة وطالبتُ الراكبَ مَعي بأن يتأمّل في هذهِ اللوحةِ والقرار الشجاع المترتبِ عَليها ؛ صُعِـقت وصُعِـق هُو قبلي حين رأينا قائدَ السيارةِ التي أمَامَنا وقد أخرَج يَدَهُ من النافذةِ وبها السيجارة ، قبل أن يُعيدها إلى شفتيه ثم يُلقيها بكل حَقارة وتخلف تجاه اللوحةِ الإعلانيةِ آنفة الذكر .. قد يكونُ التصرّفُ مألوفاً عندَ بعضِكم ، لكن الغيرَ مألوفٍ هو أن السيارة التي صَدَرَ مِن سائِقِها ذلك التصرفَ الغيرَ حضاريّ مَطبُوعٌ عَلى بَابِ سَائقِها وبَابِ الراكِب ( أمَانة المَدينة المُنورة ) ، وهِيَ ذاتُ الجهَةِ التي ذيّل الإعلانُ الذي يُـناشِدُ بعَدَم التدخين بإسمها ..

ومن صور الشعب الحافي كذلكَ هو ما سنكونُ على مَوعدٍ مَعَهُ بَعْدَ الفراغ مِن إختِـباراتِ الطلاب والطالبات وقدُوم مِوسِم الإجازةِ الصَيفيةِ ، فالكثيرُ من الأباء يَحرصُ على الإقتراضِ والإستدانةِ لا لبيتٍ يبنيهِ أو أرضٍ يشتريها أو مشروع يبتدؤه ويعود عليهِ وعلى أبنائِهِ من بعدِهِ بالنفع والفائِدَة ، وإنمَا لأجلِ السَفر إلى خارج البلادِ بغرض المُـتعة والتسلِـية ، ثم يعود من إجازتِهِ وتتزامن عودتهُ مع عودَةِ الدائنينَ إلى بيتِهِ الموقر كي يسترجعُوا منه ما أعطوهُ إياهُ في وقتٍ مضى ، ويبدأ فصلٌ جديدٌ من فصول المعاناةِ السنويةِ المتكررةِ بينَ هذا الأبِ وبـينَ الدائنين ، ولا ينتهي الفصل المعني إلا بالعداوةِ والمقاطعةِ وأخذ الأيمان الغليظة بأنه لن يستدينَ منهم ورُبما أبتدؤا هُم بالحلف فأقسموا ألا يُدينوه ، ولا ملامة عليهم في ذلك فهُو قد أساءَ التصرف مع نفسِهِ ولا غرابة منهُ أن يُكررَ تلكَ الإساءة مَعَ الآخرين في سبيل تحقيق مآربهِ ونزواتِه ..

ومن صور الشعب الحافي البارزة ، هي تعَري الفتياتِ الصارخ بإسم مُواكبةِ العصر ، وقد سبقَ لي أن تحدثتُ عن تعري الفتيات صغيراتِ السنِ عَلى هَذا الرّابط ، وأقصدُ بالتعريّ هُنا هو ما يَراهُ الإنسان من مَناظرَ مُؤلمةٍ لبناتِ بلدهِ حِـين تضطرهُ الظروفُ إلى مرافقةِ زوجتهِ أو أمهِ أو أختهِ حين تذهب إلى السوق ، فتجدَ الفتياتِ هُناك وكأن مقال حالِهن هو دعوة الشبابِ لمغازلتِهن ومُحاولة الوصول إليهن ، عباءاتٌ ضيقة ومخصّرة أشبهُ ما تكون بقارورة الكوكاكولا ، وغطاءٌ - إن وُجدَ - يُظهرُ أكثرَ مِمّا يُخفي خصوصاً مع ألون الطيفِ المرسومةِ على العين والفم والخد والأذن والأنف ، وتقصيرٌ متعمدٌ للفستان الأسودِ المُسمّى عُرفاً بالعباءَة ؛ لأجل أن يَظهَرَ بنطالُ الجينز ، ناهيكَ عن مُسوَدّة قزاز من العطورات الموضوعة في كل حَدَبٍ وصَوبٍ من جَسَدِ تِلكَ الفتاةِ .. هذا التخلفُ الملموس والتعري السيء يجعَلنا نقلِل من وَضع التهمة على أبنائِنا الشبابِ وإن كانَ الوضعُ لديهُم لا يختلفُ كثيراً عن سابقاتِهم .. ومن الغريبِ المضحكِ أننا نسمع عن تلكَ الفتاةِ سيئةِ الملبس نداءتها وطلبها بأن يتمَ منعُ الشبابِ من التعرض لهن ، ونسيت المسكينة أن الكلبَ إن لم تصلَ إلى أنفِهِ رائحة الجيفِ فلن يقترب - مع الإعتذار لشرفاء عالم حواء عن هذا الوصف - ، فالشابُ وإن أخطأ إلا أن اللوم يقعُ في المقام الأول على تِلكَ الفتاةِ التي اتخذت من التطوّر والتقدّم حُجّة تتعرَى بهَا وتظهر مفاتنها لمن لا يفوتونَ فرصَة النهش مِنها إن سَنحَت لهُم ..

ومن صور الشعب الحافي كذلك ، غربنة الشبابِ بحُجةِ التطور والحُريّة ، أو بعِبارةٍ أفصح : النقصُ الرجُوليّ لدى قطعَان الذكوُر ، فالمُتأملُ لواقع عيّنةٍ كبيرةٍ من شباب اليوم يغصُ بالمرارةِ والأسى على ما وَصَلَ إليهِ حالُ أحفادِ خالدٍ وطارقٍ ومحمدٍ الفاتح ، فالملبسُ يُنبئ عَن المَضمُونِ الهَش لأولئِكَ المساكين ، والجوالُ والسيارةُ وطريقةُ تصفيفِ الشعر تكمِل ذلك الإنباء الذي يَستاءُ منهُ كلّ حرّ أبيّ .. ولا أنسى ذلكَ المنظرّ الذي لم أفق من هَولِهِ إلى اليوم حِـين دخلتُ إلى أحدِ المطاعِم وفوجئتُ بأحد الشبابِ أمَامي وقد نزل الحزامُ الذي يُمسِك ببنطالِهِ إلى مُستوى ظهَرَ مَعَهُ لباسَهُ الداخليّ وَسَطَ تعجّب المحيطينَ بهِ وأنا مِنهم قبلَ أن يَردّ علينا بإجابةٍ أكملت ذلِكَ التعجّب بقوله "كده الموضة يا بويا لا تقعد تبحلق" .. واقعٌ مؤسفٌ مريرٌ وَصَلَ إليهِ حالُ كثير من شبابِ مُجتمعنا حين سَعَوا إلى الغربِ الحقير فجعلوهُ قدوة لهُم وأسوة ، ونسَوا حديثَ الرسول صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلّمَ "مَن تشبّه بقومٍ فهُوَ مِنهُم" ، رُبما نسوهُ وتناسوهُ ، أو ربما لم يُبلغهُم إياهُ من هم مَحسُوبوُنَ على المجتمع بأنهُم أباءٌ وأمهات ..

ومن صور الشعب الحافي وسأختمُ بها حتى لا أطيل أكثر مما أطلت ؛ نسيانُ أو تناسي حسناتِ من أخطأ ، فلا أحدَ معصوُمٌ بعدَ الحبيبِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلّمَ ، ولا كامِلَ إلا ربّ الكمَال سُبحَانه وتعَالى ، وحَالمَا تذكرَ المرءُ المُسلِمُ هذهِ القاعدة الربانية فلاشك أنهُ لن يَستغربَ الخطأ إن صَدَرَ مِن أخيهِ أو زوجهِ أو إبنهِ ، أو حتى أخيهِ أو أختهِ في المُـنتدى على الإنترنت ، ولكن حِـينما ننسى هَذهِ القاعدة وتأخذنا النخوة الزائدة عن حَدّها نتسبّب في إساءةِ التعامُل مَعَ أشخاص لا يَستحقوا تِلكَ الإساءة .. ولم يَصل التعامل معهم إلى ذلك الحدّ إلا بسبَب تناسِينا أو نسياننا لِحَسناتهم وأعمالهم الزاكية مَعَـنا ومَعَ غيرنا ، فمِن المؤلمِـ المؤسفِـ أن يُحسنَ المرءُ ويبذلَ ويجتهدَ ويصدق في تعامُلِهِ وبَذلِهِ ثم يُفاجئ بنكران ذلك كُلِهِ مع أدنى خطأ منه - مع إفتراض أن كل خطأ خطأ - .. وكأن الطرفَ المقابلَ كانَ ينتظرُ منهُ هَـذا الخطأ حتى يزيح الستار عن وجههِ الآخر والبذرَة السوداء في دَاخِله ، مع التأكيد على أن الخاسرَ الأكبرَ من هذا التعامل هُو الطرف الآخر الذي تعدّى وأسرفَ في لومِهِ عَلى المُخطئ ، فالمُخطئ يَستفِـيد ويتعلم ، والمسيء يزدَادُ عِزة بالإثم بعد أن ترَكَهُ المخطئُ وذهبَ إلى مَن يَحفظ لهُ حقهُ وكرامتهُ ويتخذ له الأسباب إن عَجز عن حَمل تصرّفه عَلى المَحمَل الحَسَن ..

أطلتُ ، ومَا ذاكَ إلا رَغبة مِني فِي التحَدُث عَمّا يُخالجُ النفسَ مُنذ فترةٍ ، ومَعَ كلّ مَوقِفٍ أراهُ أمَامِي أو أسمَعَ عُنهُ أزدَادُ حِرصَاً وَرَغبَة في الكِتابَةِ عَن هَذِهِ التصرّفات التِي يَصدُق عَليهَا قول وَالِدِي الحبيب : شعب حافي ، آملُ أن أكونَ قد وُفقتُ فيمَا كتبتُ ، َوالموضوعُ قابلٌ للنقدِ والتصحِـيح فلا يُستغرَب مِن أمثالِي الخطأ وَالزلَل وكَمَا قلتُ سَلفاً ؛ لا أحَدَ مَعصُوُمٌ بَعدَ الحَبيبِ صَلّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلّمَ ، ولا كَامِلَ إلا رَب الكَمَالِ سُبحَانهُ وَتعَالَى ..

.

للتوضيح ،
&!$#@%& : سَبٌ وشتمٌ قاسِي بحَق السّائق وَوَالدَيهِ .
التغريز : التنقلُ بَينَ المَسَارَاتِ بسُرعَةٍ جُنونِـية .
كليةِ الحياةِ والفراغ : فروعها في كُلّ بَيتٍ يُوجَدُ بهِ عَاطلٌ .
و : الفيتامين الذي تخطى كُلّ الحَوَاجز والأعرَاف .
خارجَ حدود الدائري الثالث : وهذا الحَدُ أشمل مِن حُدودِ الحَرم الشرعِية فلِلّهِ الحَمدُ والمِنةِ .

.

لا تَنسَوني وَوَالِدَيّ مِن صَالِح دَعَوَاتكُم ..
أرَق تَحَايَاي وأعَطرَهَا لكُلِّ مَن شارَكَ أو أكتَفى بالزيَارَةِ ، وَجَزاكُمُ اللهُ خَيرَاً ..

.

هادئ الطباع ، عالم حواء ..
الثلاثاء 16 / 4 / 1426 هـ ..
10
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

سحابة الجود
سحابة الجود
ردا على ماكتبه هادي الطباع :
أوآ فقك على ماكتبته ممايحدث من متغيرات سلوكيه على مجتمعاتنا ......لـــكن حتما هناك سببا وربما تكون أسباب .....؟
أخي الكريم / سوف أطرح بعض التساؤلات ربما تكون الأجابة عليها هي من أهم اسباب هذه المتغيرات التي ذكرت :
1س/ ربما هم قلة من لآيخلو من ألأقساط الشهرية التي تستقطع من راتبه الشهري ( هل عليك أخي القاريء أي التزام مالي أو مآ أشبهه ...؟ (معلومه أنا كل أللي أعرفهم عليهم أقساط شهريه)
2س/ هل لديك مشكلة عائليه لآسمح الله ..؟ أسبابها أطرافها متعدده وأسبابها قلة المال (معلومه عدم حضور الزوجه أفراح العائله - عدم استظافة الأهل وأقارب الزوجة - تعطل السياره لفتره وتركها بورشة الاصلاح دون القدرة على اخراجها - تردد صاحب الشقه لمطالبتة ألأيجار لوجود متأخرات - مقاطعة الأسواق والتسوق ووووووووو ....؟
أخي وأخواتي / ألآ يكفي لماذكر من مسببات أن تنهي الأستقرار النفسي . فأن خاطبه أحد تراه سارح الذهن قد انشغل بما أشغله وقد ترى أغلب حوادث المرور الدعم من الخلف نتيجة شرود الذهن ويبرر موقفه من الخطا ء فلا متسع للحلم والهواده وربما استلزم الأمر للمشاجره لكي يهرب من مشاكله الكثر وتصبح مشكلة واحدة وهي سجنه لأعتدائه...... أكتفي بهذا ولوكتبت لأصبح الصبح وما وفيت .
جمانة الروح
جمانة الروح
السلام عليكَ ورحمة الله وبركاتة

الأخ الكريم المخلص .. صاحب الأسلوب الرائع .. والطريقة المتفردة المميزة بالعرض ..

أشاركك الرأي .. بل .. وأشارك والدكَ ـ حماه الله وباركَ له في عمره في الخير ـ
أننا نعيش وسط شعبٍ حافٍ ..
نعيش في وسطٍ همجي ..

ولشد ما كنت أعاني في أول أيامي بالمدرسة .. حينما فوجئت بأني مختلفة عن أقراني .. اللأئي ينظرن إلي كأنني من كوكب آخر ..

بل من زمن آخر .. من جيل مات .. وانقرض !

تربيت علي النظام .. وعدم خرق القوانين .. ما دامت لا تخالف الشرع ..
وعلي الإحترام حتي لمن لا يعرفون معناه .. فإحترامي يعلمهم الإحترام ..

وكم كان يثير العجب بين معلمي .. كيف أني منظمة ولا أثير الشغب ..
ولا أتكلم أو ألتفت حتي أثناء الشرح .. وكأن بصري مشدود بمغناطيس للمعلم .. حتي لو كان لا يعرف شيئاً في المنهج ...

وفي الحصص الشاغرة .. كنت أحكي لهن قصص الأنبياء ..

وأعلمهن الآداب النبوية ...

فكن ينظرن لي ...

ويتمتمن ... " مال لهذه الفتاة ..؟ "

ولأنني لم أختلط بالشعب الحافي ...

إلا بالمدرسة .. فكنت كما كنت تفعل ـ أخي الكريم ـ أراه وأبي منطلق بسيارته ..

غير أن الفارق بيننا .. أنني لم أكن أخرج رأسي من السيارة وهي منطلقة ..

بل أنظر للشعب .. من خلف الزجاج ..

وكم كنت اخشي يوماً ان أضطر إلي النزول للشارع ..

وحتي حينما كانت تتعطل السيارة .. لم أكن لأغامر بالخروج ...

لا أستطيع الإحتكاك بهؤلاء الفوضويون .. المستهترون ..

المتسمون بالامبالاة والخرق ..!!

أواتعرف لمــــــــــاذا ؟

لمـــــــــــــاذا هم كذلك ..؟

لأنهم أشد ما يكونون بعداً عن الهدي النبوي ..

وعن الخلق الإسلامي القويم ..

هم مسوخ .. يحملون الهوية الإسلامية ..

ولذا ...

الحل مع الشعب .. الحافي ..

الهمجي ..

الأخرق ..

المستهتر ..

الفوضوي ..

هو ..


العودة

العودة للخلق الإسلامي ..

والإقتداء بالرسول القائد ـ صلوات ربي وسلامه عليه .


ألا تتفق معي ..!


وأخيراً ...

جزاكَ الله خيراً .. وباركَ الله فيكَ وفي روحكَ وعقلكَ ..

ووهبك َ الإخلاص في القول والعمل ..

وجمعكَ مع نبيه ـ صلي الله عليه وسلم ـ بالفردوس الأعلي ..

آميــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن
أخت المقداد..
أخت المقداد..
اقتبااس
(فالمدينة المنورة الآن لا يُسمح فيها ببيع التدخين رسمياً ولا يُوجد بيعٌ للتبغ فيها وفي محطاتها رسمياً إلا خارجَ حدود الدائري الثالث ، ومع فرحتي ونشوتي بذلكَ القرار الرائع والشجاع استوقفتني لوحة عندَ إحدى أشاراتِ المرور مكتوبٌ فيها ( أنتَ في مدينةِ رسول الله ، نناشدُكم عدَمَ التدخين )00
صراحة شدني هذا الخبر العجيب المفرح
ولا تعليق على البقية
بوركــــــــــــتم وجزاكم الله خيرا
هادئ الطباع
هادئ الطباع
الموقرة سحابة الجود ،
أشكرك على الرد وأرى أنك حصرتِ مسببات ظهور الشعب الحافي في قلة الموارد المالية ، وهذا السبب لا أنكر أنه من أهم الأسباب وأجدرها لحدوث مثل تلك المظاهر غير الحضارية ، لكن لا ننسى أن ممن توفر لديهم المال مَـن يتصرفوا بتصرفات ويبدوا بمظاهر أقل ما يقال عنها أنها خارمة للمروءة ، فالوزير الحافي ومالك المتجر الحافي والطبيب الحافي وغيرهم نجد أن المال متوفر لديهم ولكن رغم ذلك إلا أن إصرارهم على مواصلة سلوكياتهم الخاطئة لا زال سارياً وآثاره الوخيمة نجدها في مجتمعنا ظاهرة بيّـنة ..

أشكرك مجدداً .
saharrose
saharrose
مواقف متكررة
لا تخفى على اي منا
مزعجة بالتاكيد
لكن ... كل منا يرى ... يعلق ...قد يحاول التغيير
لكن مامن مجيب


أهنيك فعلا على موضوعتك جميعها
كلها واقعية موضوعية ... يجزاك الله خير